الكُنى جزء من اللغة. جزء من التراجم والسير. جزء من المكتبة العربية والإسلامية. بل هي جزء من الصورة الثقافية والتربوية للمجتمع. من هذا الباب، ومن باب اهتمامي بتاريخ مجلس الوزراء السعودي الموقر، طرأت على بالي فكرة خاطفة للبحث عن كُنى الوزراء! وما دام أني كتبت عن الأسماء من قبل وهي مشتهرة، والأعمار وهي أكثر خفاء؛ فلا بأس من الكتابة عن الكنى، على صعوبة البحث فيها. وقد توقعت أن أواجه صدودًا أو استغرابًا حينما أسأل عن هذا الشأن؛ لكني -والحق يقال- لم أجد تجاوبًا عن معلومة سعيت خلفها أشدّ من التجاوب مع الكنى؛ فلهم مع الشكر الدعاء.
فبفضل هؤلاء الأكارم، امتلأت قائمة الأسماء بالكنى في جدولي المؤكسل بعد أن كتبت قسمًا منها بما أعرفه من قبل. لكن بقيت عشر كنى تقريبًا لم يصلني خبرها، وهذا التنبيه مهم لضبط ما سيأتي من إحصاء. من لطيف ما وقعت عليه في هذا السياق أن بعض الوزراء تزوج قبيل تسميته وزيرًا، بينما وجدت وزيرين تزوجا لأول مرة -فيما أعلم- بعد تعيينهم وزراء، وقد يشاركهم غيرهما لأني لم أبحث هذه المسألة الشائكة. الوزيران هما: الشيخ حسن المشاري وزير الزراعة في عهد الملك فيصل، والدكتور عادل الطريفي وزير الثقافة والإعلام في عهد الملك سلمان. طبعًا هذا لا ينفي أن بعض الوزراء تزوجوا بعد الوزارة؛ غير أنه لم يكن زواجهم الأول!
كما لاحظت أن بعض الوزراء حمل كنية باسم ابنته الكبرى لأنه لم يرزق بولد ذكر، أو رزق به متأخرًا، أو حمله طوعًا لسبب أو آخر، والله يطرح البركة بالذكر والأنثى. من هذه الأسماء : ” أمل، منى، سارة، يارا، هبة، الجوهرة”. أما منى فهي أكبر بنات الشيخ حسن المشاري الذي امتن الله عليه بثلاث بنات فقط. وهبة هي البنت الكبرى للدكتور عبدالعزيز خوجه قبل أن يهبه الله جمانة ومحمدًا. هذا مع أنه من المتعارف عليه في مجتمعاتنا العربية أن يُكنى الرجل باسم أبيه حتى وهو غير متزوج أو بلا ذرية أو إذا خلا نسله من الأبناء. ومن العُرف أيضًا اقتران كنى بأسماء مثل قاسم مع محمد، وسعود مع عبدالعزيز، وخليل مع إبراهيم، وحسن مع علي، وهكذا.
ويارا هي كريمة د.غازي القصيبي الذي قال: “الأصدقاء الذين عرفوني قبل ولادة سهيل يسمونني أبو يارا، والذين عرفوني بعد ولادة سهيل يقولون أبو سهيل والكنيتان قريبتان من قلبي، بنفس الدرجة”، علمًا أن القصيبي وقّع بعض مقالاته باسم “أبو نفيس”، وهذا النفيس منحوت من أوائل أسماء أولاده دون ترتيب في العمر؛ فمما جرت به السنن الثقافية استخدام الاسم القلمي، وهو حقل فيه لذائذ وغرائب وطرائف، وأخباره مستقصاة في كتاب أو أكثر.
ومن الطبيعي أن تتكرر الكنية، أو أن يسعى بعض الناس لانتقاء كنية تميزه مثلما يفعل أبناء الأسر الكثير عددها المتلاحمة فيما بينها. تقودنا مسألة التشارك في الكنية إلى موضوع الاستيلاء على الكنية؛ “فأبو سليمان” -مثلًا- كنية تنصرف أينما سمعت إلى الوزير والسفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي مع أن هذه الكنية يحملها عدة وزراء وسفراء. مثلها “أبو فاروق” التي تنصرف للشيخ الوزير محمد عمر توفيق، وهذه ظاهرة لطيفة قابلة للتوسع، وليس هذا موضعها.
الحديث عن الشبيلي يقودنا إلى موضع حزين وقع لعدة وزراء عندما فقدوا ابنهم الوحيد أو الأكبر الذي به يكتنون، والله المرجو أن يغفر للراحلين جميعهم، ويربط على قلوب الفاقدين، ويملأ نفوسهم صبرًا، ويبني لهم بيت الحمد عنده. من هؤلاء غير الشبيلي الوزراء شبكشي، والفارسي، علمًا أن الفقيد بالنسبة لهم هو الابن الوحيد، ومنهم الوزراء عطار والسلوم الذي رزق بأكثر من ابن بعد وفاة نجله الأكبر محمد في جبال الألب، والله يحفظ لهما ولغيرهما الباقي من الذرية ويبارك عليها.
أما أكثر الكنى تكرارًا فهي: “محمد” الذي ورد عشرين مرة، ثم “عبدالله” الذى تكنى به سبعة عشر وزيرًا، ومن الموافقات أن هذين الاسمين هما الأكثر تكرارًا في أسماء الوزراء على التوالي. وقد حمل كنية “فهد” ثلاثة عشر وزيرًا، واكتنى اثنا عشر وزيرًا باسم “فيصل”، وأحد عشر وزيرًا باسم “خالد”، وستة وزراء باسم “عبدالعزيز”. أما “سلمان”، و “سعود” و “أحمد” و “سليمان” فقد جاء كل واحد منها أربع مرات. من نافلة القول أن هذه الإحصاءات قابلة للزيادة في المستقبل، وقابلة للتعديل لو اكتملت عندي جميع الكُنى الحالية والسابقة.
من أطرف ما عبر بي أني حين سألت عن كنية وزير سابق، قال لي بعضهم: ما كنا نكنيه وبالشيخ نناديه، وأفاد آخر بقوله: سمعت الناس ينادونه مرة بأبي خالد ومرة بأبي فهد! بينما أجاب ثالث بسؤال هو: هل أُخبرك باسم أبيه؟ فقلت له: إني أعرف اسم جده ولكني أبحث عن كنيته! طبعًا هو كان يلمح إلى التكنية بالأب وهي سنة شائعة، وقد وعدني رابع بحسم الأمر وإني لمنتظر.
ومنها أن أحد الوزراء السابقين لا يعرف موظفو مكتبه كنيته لأنهم لم يحتاجوا إليها البتة! أما الكنية الأغرب على الإطلاق فهي “مناف”، وقد أنجى الله منافًا إذ كبر وغيّر اسمه شافاه الله وعافاه. ومن الأسماء النادرة “مهاب” نجل وزير الحج والعمرة د.بنتن، وله بنت وابن يحملان اسمي: “مآب” و “مثاب”، ومنها اسم كريمة الوزير د.هاشم يماني ” نُعَم”، وهو اسم وارد في شعر عمرو بن أبي ربيعة.
هذا التفرد وربما الإغراب يذهب بنا إلى أسماء وكنى لم تتستعمل سوى مرة واحدة، وبعضها قديم جدًا، فمن الأسماء التي جاءت مرة واحدة وفيها القديم والحدث: أنس، أيمن، باسل، بدر، حسام، حسن، حسين، حمد، حمزة، راكان، رامي، رحاب، ريان، زياد، زيد، سعيد، سلطان، سهيل، صخر، طارق، عامر، عبدالرزاق، عبدالكريم، عبدالملك، عدنان، عصام، عماد، عمرو، فاروق، لؤي، متعب، مدحت، مرشد، معاذ، منصور، مهاب، ناصر، نزيه، وليد. والملاحظ أن هذه القائمة الأحادية فيها كنى ثلاثة وزراء نفط هي: صخر، لؤي، رامي.
بينما حصرت من الكنى الثنائية: إبراهيم، أسامة، سامي، صالح، عادل، عبدالمجيد، عبدالمحسن، علي، مشعل، نايف، نواف، هانئ، هشام، ياسر. أما الكنى الثلاثية المجموعة حتى الآن فهي: بندر، تركي، سعد، طلال، عبدالرحمن، مازن، والأخير اسم غير شائع، وهي كنية الوزراء رشاد فرعون، وإبراهيم العنقري، وإياد مدني. ومما وقفت عليه أن أحد الوزراء انتقل إلى رحمة المولى دون ذرية، والله يعوضه بالحسنات والأجور، ولم تحفظ له كنية، وهو الشيخ محمد العوضي الذي توفي وقد ناهز المئة. وبعض الوزراء الشباب لم يرزقوا بذرية حتى الآن، وأسأل المولى الوهاب أن يعجل لهم بالخيرة المكتوبة من لدنه، وأكثر أعضاء المجلس ذرية هو الملك سعود بلا منازع إذ تجاوزت ذريته المئة، ومن اللطائف أنه يُكنى بأبي خيرين. ومن النوادر أنه لا يحفظ عن وزير واحد فقط أنه متزوج، أو حتى سبق له الزواج.
إن هذه الإطلالة تشير إلى زاوية من ثقافة مجتمعنا، وما يكثر فيه أو يندر؛ فالأسماء ذات دلالة لا تخفى، وهي مرآة عاكسة صادقة. وهو مبحث مستطرف ربما لا يضر الجهل به؛ بيد أن حصره ونشره مفيد خاصة إذا كان جزءًا من مشروع يراد له أن يكتمل. وهي فرصة لإيناس القارئ في نهاية هذا الأسبوع المزدحم خاصة مع نهاية إجازة الخريف، وإقبال فصل ثان جديد للتعليم العام، أو على وجه اختبارات الفصل الأول للجامعات وفقهم الله. والله المسؤول أن يعين جميع المسؤولين والعاملين لتحقيق الخير والمصلحة، ويغفر لمن ارتحل من الكبار والشباب والكهول.
الرياض- ليلة الجمعة 13 من شهر جمادى الأولى عام 1446
15 من شهر نوفمبر عام 2024م