يدخل في تكوينات مجلس الوزراء الإدارية جهازان مهمان، هما: الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهيئة الخبراء، ويقتصر حضور اجتماعات مجلس الوزراء الموقر -حسب نظامه- على أعضائه فقط والأمين العام لمجلس الوزراء. ومنذ تكوين أول مجلس للوزراء عام (1373=1953م) إلى يومنا هذا، سمي ستة أمناء في منصب الأمين العام لمجلس الوزراء، ويمتاز هؤلاء الأمناء بالجدارة الوظيفية من خلال مناصبهم السابقة على تحمل أمانة الأمانة وأيضًا اللاحقة لها، إضافة إلى ظهور آثار التكوين الثقافي والأدبي والقانوني والإداري العميق عليهم.
أول هؤلاء الأمناء هو الشيخ السيد حمزة بن محمد المرزوقي أبو حسين (1327-1390=1909-1970م)، وهو حمزة بن محمد بن عبدالرحمن بن محجوب بن منصور، أبو حسين المرزوقي. ولد بمكة المكرمة وبها نشأ، وأخذ عن والده النحو وعلومًا أخرى، ثمّ التحق بالمدرسة الراقية بمكة المكرمة وتخرج فيها. وفي عهد الملك عبدالعزيز عين سكرتيراً مساعداً في المجلس الأهلي، وبعدها ترقي في عدة مناصب أحدها مسؤولًا عن الأوقاف، حتى أصبح أول أمين عام لمجلس الوزراء، واستمر في هذا المنصب الى أن توفي بالرياض في أوائل شهر رمضان عام (1390)، ودفن فيها، وهو الأمين الوحيد في تاريخ المجلس -حتى الآن- الذي انتهت علاقته الوظيفية بالأمانة بسبب الوفاة، وإليه تعود بدايات تأسيس الأمانة العامة للمجلس من ناحية الإدارة والعمل.
لذلك جاء بعده نائبه الشيخ عبدالله بن فهد آل سلطان (1343-1421=1924-2001م)، الذي التحق بالعمل الحكومي في أجهزة لاسلكية وتعليمية ثمّ مع الملك عبدالعزيز مسؤولًا عن اللاسلكي والبرقية في الديوان الملكي، ومرافقًا مع الملك المؤسس أينما ذهب بحكم خبرته في إدارة الشنطة الملكية. ولمكانته لدى الملك استثناه من بعثة عسكرية أراد وزير الدفاع الأول الأمير منصور إرسالها للدراسة في مصر. ثم أصبح في عهد الملك سعود سكرتير اللجنة المالية بأمانة المجلس ومساعدًا للأمين العام، إلى أن أسندت إليه هذه المهمة بين عامي (1390-1405=1970-1985م)، ويتميز عن بقية الأمناء بمعاصرته العمل الرسمي مع خمسة ملوك.
وقد اشتهر عنه رفض إجراء أي لقاء إعلامي، ومهارته الفائقة في هندسة اللاسلكي، وبراعته في التصوير ولذلك يمتلك حصيلة جيدة من الصور، مع شغف بالأدب وحفظ للمعلقات. كما عرف عنه الإخلاص في العمل؛ إذ حضر دفن أحد أولاده بعد وفاته بالدهس، وعفى عن السائق المخطئ، ورجع من فوره لعمله في المجلس حتى عزاه الملك فيصل أثناء الجلسة. ولم تمنعه الإصابة المرضية الشديدة من الذهاب إلى الملك فهد لاعتماد الميزانية التي ترتبط بموعد إعلان مرتقب. وله في حياته مواقف فقدٍ حزينة لأبنائه تستحث المدامع، وهبّات نجدة وعون للمحتاجين، ولا يضيع عند المولى إحسان ولا احتساب. للكاتب الأستاذ منصور العساف مقال جميل حفظ سيرة الشيخ عبدالله، وعنه نقلت.
ثمّ تلاه الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم (1351=1932م)، الذي درس في مدارس الأحساء، وفي دروس سماحة الشيخ ابن باز في الخرج، ثمّ نال الشهادة الجامعية من كلية الآداب بجامعة القاهرة. وعمل أول حياته الوظيفية مع الملك فهد في وزارتي المعارف والداخلية مديرًا للمكتب الخاص للأمير الوزير، ورأس مجلس الأمن الوطني بعد ذلك لمدة غير قصيرة. وفي عام (1390=1970م) انتقل للعمل في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، واختير ليصبح ثالث أمين عام لمجلس الوزراء، واستمر في هذا المنصب بين عامي (1405-1426=1985-2005م)، وبالتالي فهو أطول الأمناء مدة في منصبهم حتى الآن.
ومما واظب عليه الشيخ أبو عصام كتابة مقال أسبوعي طويل في صحيفة الرياض باسم مستعار هو ” مُسْلم بن عبدالله المُسْلمْ”، دون أن يعلن شخصيته الحقيقة توقيرًا للمنصب، ومنعًا لأي تفسير أو تملّق. وأصدر فيما بعد عدة كتب أحدها عن قسم من سيرته الذاتية بعنوان ” ذكريات مما وعته الذاكرة”. ويمتاز الشيخ السالم بقوة لغته العربية، ورسوخه الثقافي، وبشاشته، وفتح بابه لموظفيه، ونقاوة ألفاظه، وبعلاقاته
المتميزة مع كبار أدباء العصر، وله الفضل في توثيق العلاقات بين المؤسسات السعودية وشيخ العربية محمود محمد شاكر. وأذكر أنه بعد أن كتبت عن الأدباء الوزراء اعترض كاتب كبير على اختفاء اسم السالم من تلك القائمة؛ حتى أقنعته بأن أمين المجلس مع التقدير له ليس عضوًا مثل بقية الوزراء النواب أو العاملين أو وزراء الدولة، وبعد الأمانة أصبح مستشارًا بالديوان الملكي.
وقد خلفه في المنصب نائبه آخر عشر سنوات الأستاذ عبدالرحمن بن محمد بن عبد الله السدحان (1361=1942م)، وظل السدحان في المنصب بين عامي (1426-1438=2005-2016م)، وهو كاتب وأديب وأستاذ في معهد الإدارة، وصدرت سيرته بعنوان لافت غير تقليدي هو: “قطرات من سحائب الذكرى”. ومن حسناته أنه تحدث في لقاء جميل مع صحيفة الحياة عن تجربته في أمانة المجلس قائلاً: “يوم الاثنين بالنسبة لي محطة زمنية مهمة أعتز بها، لأنه موعد العرس الأسبوعي لجلسة مجلس الوزراء، وهو ذروة الحصاد لعمل المجلس، ممثلاً في ما استجد من أمور تطرح في ذلك اليوم. ولذا فإنني في كل اثنين، أبدو ذهناً وبدناً ومشاعر، مشغولاً مثل أم العروس أهتم بكل دقيـق وجليــل يتعلق بالجلسة، عرضاً وإنجازاً!”
ومما ذكره بخصوص جلسة المجلس الأهم في المملكة التي كانت تعقد آنذاك كل أسبوع يوم الاثنين، ثمّ تحولت إلى الثلاثاء بعد ثاني تغيير إداري لمواعيد الإجازة الأسبوعية الرسمية في المملكة: “هناك قدر كبير جداً من الالتزام بـ “أجندة”الجلسة ممثلة في جدول أعمالها، ولكن.. قد يطرأ أحياناً من الأحداث أو التطورات ما قد يرتب شيئاً من الخروج على نص الجلسة بما يفيد الوطن والمواطن، وعندئذ، يصبح لكل حدث حديث!”.
أما بخصوص جلسة الموازنة السنوية فقال: “لجلسة الموازنة السنوية طقوس خاصة تمليها خصوصيتها، قدراً ومناسبة وحجماً، فلا يشرك معها أي موضوع آخر، مما يحويه جدول أعمال المجلس الموقر، إلاّ إذا كان هناك توجيه كريم بذلك، وهي تتمتع بتغطية إعلامية خاصة تتلاءم معها أهمية وحجماً!”. وعن علاقاته مع الوزراء ذكر “علاقتي بالوزراء علاقة يكسوها الولاء والاحترام.. ويؤطرها التقدير التام، وتقودها الرغبة في خدمتهم جميعاً داخل أروقة المجلس وخارجه، ضمن نطاق الصلاحية والاختصاص، وأرجو من الله أن يكون التوفيق حليفي في ما أقول أو أفعل خدمة لهم، وأن يصفحوا عن أي تقصير آتيه في أدائي، يمليه الاجتهاد.كما يسعدني أن تربطني بالبعض منهم آصرة من الحميمية تأذن أحياناً بشيء خفيف مما يسميه السؤال مشاكسة تسير في اتجاهيْن، لكنها تصبُّ دائماً في خانة الود المشترك بين الجميع!”.
وبعد نهاية خدمة السدحان وتعيينه مستشارًا بالديوان الملكي سمي الأمير عبدالرحمن بن محمد بن عبدالعزيز بن عياف آل مقرن (1381=1961م) أمينًا عامًا لمجلس الوزراء السعودي، وهو أحد دارسي القانون الذين تخرجوا في جامعة هَرفَرد، وقد عمل قبل تسميته أمينًا للمجلس نائبًا لرئيس هيئة الخبراء مدة من الزمن، واستمر الأمير الأمين في منصبه أمينًا عامًا للمجلس بين عامي (1438-1443=2017-2022م)، ثمّ أصبح مستشارًا بالديوان الملكي، وبعدها عين نائبًا لوزير الدفاع، ويمتاز بذهنية تاريخية وقانونية وإدارية حاضرة مثلما شاهدت وسمعت في عدة لقاءات جمعتني مع سموه في مجلس د.محمد آل الشيخ الوزير الأسبق.
هذا وإن مما حفزني لكتابة هذا المقال أن أصدر بالأمس خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- أمرًا ملكيًا ضمن عدة أوامر ملكية، ويقضي الأمر الملكي الكريم بتعيين الأستاذ خالد بن محمد بن عبدالعزيز العبدالكريم (1382-1963م) أمينًا عامًا لمجلس الوزراء، وهو من دارسي القانون، ومن الكفاءات التي عملت في معهد الإدارة، والمحاماة، ثم في الديوان الملكي، والله يوفقه ويعينه، ويغفر للراحلين من المذكورين، ويرحمهم، ويعلي منازلهم، ويحفظ الباقين، سواء من كان منهم على رأس العمل، أو تفرغ لخاصة شأنه، وأسأل الله أن يطرح البركة على الجميع ولهم ومنهم.
الرياض- الخميس 08 من شهرِ ذي القعدة عام 1445
16 من شهر مايو عام 2024م