منيرة الباتل ومجمع الفضائل
من أعظم صنوف البر حفظ المآثر، ونشرها، وإبقاء لسان صدق لمن يستحق، ومن ذلك الرواية والتأليف، كما في كتاب عنوانه: شقائق النعمان في سيرة منيرة بنت حمدان آل باتل (1338-1414)، وقد نثر محتوياته وحررها نجلها عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي، وصدرت طبعته الأولى عام (1445=2023م)، وهو مكون من مقدمة وتمهيد وستة عشر مبحثًا، يعقبها خاتمة وصور والمراجع، وجميعها تقع في (227) صفحة.
بزغت فكرة هذا الكتاب في رمضان المنصرم حين مضى على رحيل والدة المؤلف ثلاثون عامًا، ولا عجب فإن الذكرى تلج بأهلها وبالأوفياء مهما تطاول الزمان؛ فكأن أصحابها لم يبرحوا المكان وهم من جملة الحضور، وكأن الحدث طري بوقعه وآثاره. وقد اجتهد المؤلف البروفيسور الطريقي في التزام المنهج العلمي إبان تقييد سيرة والدته، مع اعترافه أنه لن يتجرد من العاطفة، ومن ذا يجرؤ على مثل هذا التجرد عندما يكون الحديث عن سيرة الأمهات أو الآباء؟
ثمّ سرد المؤلف في المقدمة، وفي سائر مباحث الكتاب فوائد علمية من صنوف شتى إن في الفقه أو اللغة أو الأدب أو التاريخ أو العوائد والأعراف والبلدان خاصة الزلفي، وهذا كله في ميزان أجور السيدة والدته بإذن الله؛ ذلك أنها كانت السبب في استنهاض عزيمته، وبعث همته للكتابة والتدوين وبثّ النفائس في المحتوى، فضلًا عن كون مؤلفنا من ثمارها وغرسها الطيب، إضافة إلى أن القارئ بين فينة وأخرى لن يكف عن ترداد الدعاء للمنيرة بالرحمة والجنان العالية.
كما كان المؤلف وفيًا شاكرًا لجميع من أعانه في المراجعة أو إعداد المادة وتجهيزها، وخصّ منهم أخاه سعودًا، ونجله إبراهيم، وكريمته عروب. ومن الوفاء أن الباحث أشاد بنوابغ أسرته العريقة الطريقي، والأسرة العريقة المتفرعة عنها الباتل، وذكر منهم العلماء والقضاة والفقهاء مثل الشيخ حمدان بن أحمد الباتل، ود.عبدالله بن محمد الطريقي، ود.عبدالله بن عبدالمحسن الطريقي، ولم ينس الوجهاء من الأثرياء والوزراء مثل حمود بن سليمان الطريقي “الرويبخ”، والوزير عبدالله بن حمود الطريقي، وسمّى جمعًا من المبرزين في مجالات أكاديمية وعسكرية وصحية وهندسية وأدبية.
وعرج أ.د.الطريقي على بعض شهيرات النساء من الأسرتين المتداخلتين، والحديث عن النساء في التراث العالمي وليس العربي فقط أقل من الحديث عن الرجال. وممن ذكر المحسنة حصة بنت سهيل الباتل، ووالدته منيرة بنت حمدان الباتل. وربما فات على المؤلف -بما أننا في زمن وسائل التواصل الاجتماعي وعالم المشاهير- الإشارة إلى إحدى مشهورات السناب شات واسمها أفنان الباتل، وهي حسب رواية من حولي من أكثر المشهورات تصونًا، مع الحرص على البعد عما يبتذل قدر الوسع، والله يزيدها توفيقًا وإحسانًا هي وكل مشهور ومشهورة.
عقب ذلك شرع مؤلفنا في الحديث عن والدته منذ نشأتها، ثم بعد زواجها وإنجابها، إلى أن أصبحت والدة وحماة وجدة، ووقف عند خصالها ومآثرها وأقوال معاصريها، واستخلص العبر والدروس من هاتيك المناقب والمحامد، إلى أن بلغ حيث تبلغ القلوب الحناجر بمرضها ورحيلها، وهذا مصير كل حي، وطريقنا جميعًا، والسعيد من غادر بخير وتوبة وتصافح، والسعيد السعيد من خلّف أعمالًا مباركة، وآثارًا حميدة، وذكرًا حسنًا مثل صاحبة الترجمة، حتى استحقت إدامة الثناء عليها وتكرار الدعاء لها.
ويتبين لنا من قراءة هذه الترجمة أن الوالدة المنيرة امرأة مدبرة، تجيد عددًا من المهارات، ومع ندرة فرص التعليم إلّا أنها حفظت شيئًا من القرآن دون أن تتعلم القراءة والكتابة، وقبست من علم أبيها وحكمته، ووعت بعض القصص والأمثال الشعبية والشعر الذي حفظته ونطقت به قرضًا وهيجنة. وأجادت أيضًا الطبخ والخياطة وإدارة المنزل والعناية بالحامل والنفساء، والتصرف الطبي الشعبي في بعض الأحوال، مع القيام بفرض غسيل الموتى وتكفينهم.
أما أحد أعجب مناحي حياتها فهو ذلكم التبعل الجميل لزوجها، وتطلبها مرضاته وسعادته؛ لأنها ترجو ما عند الله، وحتمًا أنها قد أقفلت آذانها وعقلها عن وساوس بنات جنسها -وما أبرع بعضهن بذلك-. ومن خبرها مع الزوج على جديته وحدته أنها تبحث عما يسعده في طعامه وشؤونه كافة، وتحسن استقباله وحفظ غيبته، وإذا تعب دلكته وما أجمل “المساج” بهذه الطريقة. وعندما كبر ومرض لم تهجره كما يفعل بعضهن، وإنما صيرت ذلك سبيلًا لجني المزيد من الحسنات، وكسب الأجور، وكم كانت توصي الأبناء والحفدة بزوجها، وبمراعاته، رضي الله عنها وأرضاها.
ومن شأنها اللافت حسن نصيحتها لمن شاورها من الرجال والنساء، فقد كانت موضع الشورى والاستئناس بالرأي؛ ولذلك ساعدت بناتها على تحمّل مصيبة زواج أزواجهن عليهن -ولعمركم إنها لمصيبة يطيش منها عقل أم الزوجة فضلًا عن الزوجة نفسها-، والله يكتب لها أجر نصحها، وحرصها على الإصلاح والرفق واستقرار البيوت، حتى غدت لأزواج أولادها مثل الأم، وأنزلتهن منزلة البنات؛ ولذا جعلتها كناتها في مكانة أمهاتهن.
كذلك يستوقف القارئ علاقتها بإخوانها على اختلاف صفتهم سواء أكانوا من الأشقاء أو الإخوة لأب أو لأم بلا تفرقة، حتى أصبحت أشبه ما تكون بالحبل الواصل بين أطراف عديدة، ولم تقف همتها للوصل عند هذا الموضع الصعب مبلغه، وإنما سعت لتصل كل قريب لوالديها وزوجها وأسرتها وحمولتها. ولها مع الأطفال علائق حب وتحنان جعلت من عاصرها يبكي لوفاتها، ويعتصره الألم لغيابها، وكيف لا يكون ذلك كذلك وهي التي ركبت الدراجة وقادتها بنفسها لتضحك حفيدًا باكياً؟!
ومما يبرز في هذه السيرة الجميلة حرص المنيرة على العبادة بأنواعها خاصة طول الصلاة وإدامة الذكر، وعلى التربية العملية واللفظية لنسلها ومن جاء بعدهم. ومن كمالاتها كثرة الإحسان والصدقة والهبة والهدية على أنها لم تكن من ذوي المال والثراء، وإنما الكرم والسخاء جبلّة قبل أن يكون جبلًا من كنوز الذهب والفضة! ومن خصالها الصبر على مرارة الأيام، وعلقم بعض الأحداث، حتى لو انتشلت من الماء طفلة لها غريقة، أو دفنت وليدًا لها عقب الآخر!
فيا قوم: ليس بي والله طاقة لكتابة المزيد على وجوده وجودته ووفرته، فابحثوا عن هذا الكتاب وأمثاله، وليكن فيه العظة والقدوة لنا ولأجيالنا من الجنسين. ثم أيا قوم يا أيها النبلاء الأوفياء: اكتبوا عن آبائكم وأمهاتكم، وعمن درج من أكابركم من ذوي الفضائل والمروءات، فهذا من أعمال العراقة، وحتى يعرف أهل الزمان ومن يأتي بعدهم أننا مجتمع أصيل عريق كريم بدينه وأخلاقه وعوائده وأعرافه وتقاليده، وكي لا يستثمر أحد انتفاء الرواية فينسج من خياله خبالات تسئ لمن مضى وسلف، ولعمركم إننا معشر بالبهتان والزور والإفك لا نرضى!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 25 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445
09 من شهر ديسمبر عام 2023م