سير وأعلام عرض كتاب مواسم ومجتمع

سيرة الأمهات منقوشة بحبر الحياة

Print Friendly, PDF & Email

سيرة الأمهات منقوشة بحبر الحياة

هذا كتاب يخالط شغاف القلب، وكيف لا يفعل وهو عن الأم بذاكرة تحتشد فيها المشاعر النبيلة عبر تجارب ثرية ذات مغزى، وذكريات مستعذبة حتى لو أنها في حينها مترعة بالألم. ولأن الكتاب كذلك فيصعب تلخيصه في كلمات، أو استعراضه بإسهاب يطول أو يدركه الخلل، فكلّ رواية فيه يمكن توسيعها عبر مقالات أو كتاب أو مادة وثائقية، وبعضها لا تكفيه قراءة واحدة، وعسى أن ينهض الأبناء والبنات بإكمال بيان سير أمهاتهم وآبائهم؛ فمثل هذا الجهد سيغدو سببًا في بر الوالدين ومحامد أخرى.

عنوان الكتاب سيرة الأمهات: الكتابة بحبر الحياة، وهو من أفكار الكاتبة والشاعرة د.فوزية أبو خالد وإشرافها ومتابعتها، وتقديم الكاتب عبدالعزيز الخضر، وقد صدرت طبعته الأولى عن المركز الثقافي للكتاب بالمغرب، ويقع في (519) صفحة تحوي (55) مقالة لكتّاب وكاتبات سالت أقلامهم بشيء عن أمهاتهم. أما تصميم الغلاف الخارجي فهو بريشة الفنان وافي بن محمد البخيت، والكلام عن إبداع وافي غير كافٍ إذ حوى صنيعه اعتزازًا وإبداعًا يتناسب مع موضوع الكتاب ولغته؛ وأهداه للأمهات وإلى اللغة الأم، وما أشدّ الصّلات بين من يقدّس لغته ومن يخفض جناح الذل من الرحمة لأمه.

وأشير قبل مواصلة الكتابة إلى أن ذكر الأسماء خلال الاستعراض السريع أدناه سوف تُنتزع منه الألقاب؛ فكلنا بين يدي جلالة الأم وتحت سلطانها أبناء وبنات لا نزال أطفالًا، وفي طور التعلّم والتوجيه، وطوع الأمر منها، حتى وإن اكتهلنا ونلنا ما نلناه من مكانة وعلم وخبرة، وهو ما اختصره فهد العرابي الحارثي ببراعة كاتبًا: يعاملك أبوك على أنك رجل وأنت في السابعة، بينما تظلّ في عيني أمك طفلًا ولو كنت في السابعة والتسعين!

كتبت فوزية أبو خالد كلمة السر البديعة في المقدمة، ونثرت آخر مقالة في الكتاب عن الأم مع أن ترتيبه على الأبجدية يضعها مع الأوائل ويبدو أنها تحاشت ذلك، ثمّ سطرت في ختام الكتاب قصته منذ كان حلمًا إلى أن صار كتابًا مطبوعاً، وشكرت الشركاء فيه مع إيراد بعض “كواليس” الفكرة وتنفيذها. ولا غرو أن يكون هذا الكتاب إهداء منها لوالدتها الراحلة نور، بل ولكلّ أم لأن البطولة فيه مطلقة للأمهات. وفي مقدمة أبو خالد، وتقديم الخضر، أفكار مكثفة، جديرة بالتأمل، بعد أن استخلصاها من مكنوزهما الثقافي، وعنايتهما بعلم الاجتماع وسيرة المجتمع، إضافة إلى المشاعر الفطرية نحو الأم.

ثمّ شارك في الكتاب ثلاثون كاتبة، وخمسة وعشرون كاتبًا، من جميع أنحاء المملكة، على اختلاف التخصصات والأعمار وطرائق التفكير. وفيهم إخوة لأب يتحدثون عن الأم وزوجة أب مثل الأم، كما يتضمن سلسلة بنات أو أمهات؛ فطفول العقبي كتبت عن أمها فوزية أبو خالد التي كتبت بدورها مقالة باذخة عن أمها الشريفة نور الهاشمي، وأمنا الشريفة نور كتبت مقالة رائقة جدًا عن مسرد أمهاتها التسع، وهذه السلسلة من الأمهات من أمتع ما في سيرة الأمهات وأكثرها أقوالًا ومواقف ذات عبر، وكلّ الذي في كتابنا يجذب القلب والعقل والروح، ولا يجوز بخس مقداره الثمين ومحتواه الفخم.

من فرائد الكتاب الاشتراط على كتّابه أن يكون بمحتوى وخبر وسيرة عملية بعيدًا عن الكلام الإنشائي المعتاد، وهو ما ذكره الخضر في تقديمه، وكررته فوزية في الختام. كما يظهر من مراجعة تخصصات الكتّاب والكاتبات تفوق عدد دارسي علم الاجتماع واللغة العربية وآدابها، وفيهم من نشأ خارج المملكة ثمّ عاد إليها، ويعانق بعضهم الثمانين، ولم يتجاوز آخرون خط الثلاثين، ولبعضهم تصاهر عابر للمناطقية، أو عيش اقتضى الامتزاج المرن بين ثقافات وطبائع، ومن ثمار الانتقال والتنوع ثراء التجربة، ونضجها، وشمولها لأكثر من طعم ونكهة ولون، وهذا من شأن الكتاب بأطيافه.

ونجد في السير المنشورة عيش الإخوة غير الأشقاء بوداد ووئام كما لو كانوا من بطن واحد، وحسن العلاقة بين الضرائر، فواحدة ترحب بمقدم الثانية، وأخرى تجعل شريكتها مثل أختها وترعى بنيها، بينما تأبى الثالثة شرب القهوة إلّا مع الزوجة الأولى، واثنتان تتسامران وتتضاحكان ويُسّرُ بعضهما لبعض، وتحمي إحداهن نجل شريكتها من عقاب والده، والأولاد ينادون الزوجتين بنداء الأم دون تفريق، وتسأل ثريا عبيد ببراءة: أيكنّ أمي؟ وحين رحلت عائشة تأوهت حليمة ونادت: لمن تركتيني يا عيشة!

كذلك يمكن رسم ملمح مشترك لأغلب الأمهات، فهنّ لم يتعلمن تعليمًا رسميًا منتظمًا، وعانين من صعوبات العيش، ولهنّ مواقف حزم وثبات في وجه المآسي، والفقر، والظلم، خاصة قبل عصر النفط وتوافر الخدمات. وقد وفقهنّ الله فتفوقنّ في الصبر على نكد الدنيا وكبد الحياة، ونجح أغلبهنّ في الزواج المبكر، وتحملنّ آلام الولادة المتتابعة، وكنّ في مصابرة ورباط قديم يتجدد مع تقدم العمر، فعدد منهن أدركهن اليتم المبكر، أو موات الذرية المتوالي، أو الطلاق، أو المرض العضال، والله يأجر الأمهات على تلك اللأواء، وعلى تحمّل الابتلاء.

أيضًا اشتملت بعض المقالات على عدة سير لآباء وأمهات وبعضهم من المعروفين، ومن عجائبها أن امرأة فقدت البصر فوهبها الله البصيرة أكثر من ذوي الأبصار، ووُلدت أخرى بلا يدين فكان لها من الأيدِ ما يصيّرها أقوى من أولى الأيدي، وأصيبت ثالثة فاستحالت بشرتها إلى لون أنضر وأبهى، ونجد ذلك فيما كتبته سهام الصويغ، وهيله المحسن، ورقيه الهويريني، وسلوى الخطيب، ولينا السليم، وأسماء الخميس.

ومن أخباره تعلّم الأمهات القراءة والكتابة على كبر، والإقدام على دراسة اللغة الإنجليزية أو الإسبانية، والتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، والحصول على الدكتوراه في عمر متأخر، وإعداد أول عريكة في أمريكة، والمسارعة لمشروعات تجارية ومجتمعية بعضها غير مسبوق، ومنها امرأة عامية بيد أنها فصيحة لأنها من بيت المصاحف! هذا غير مقولات جميلة عن الحياة والدين والتربية والكتابة والاجتماع، ونظرات توافقية غير تصادمية ذات حراب ومناكفة مع الرجل شريك الحياة بحلوها ومرها.

ولا يخلو الكتاب من فوائد ثقافية مقتبسة أو مبتكرة، وفيه مواقف تستدر الدمع أو تستحضر البسمة، وفي قليل منه “حشر” معتقدات أو أفكار، وكلّه يُعدّ تجربة مقدسة جديرة بالاحتفاء والثناء على أطرافها بلا مثنوية؛ فمع إجلالنا للأم إلّا أننا لم نكتب عنها بالقدر الذي يجلّي ما في النفوس تجاه الأمهات، وهي الكتابة التي صارت علمًا له أقسامه في بعض الجامعات العالمية، وهي الكتابة الأصعب كما عبّر غير مشارك في سيرة الأمهات؛ لأنها تغترف من القلب والعين والروح، وتحكي عن الذات بل تغوص في أعماق النفس لكتابة شي يليق بالأم أحد امتدادات الرحمة الإلهية على الأرض، وإن جميع السير لتحكي عن أمهاتنا وإن اختلف العصر، فمعنى الأم يسمو دومًا بالتضحية والتربية ودفق من الحنان لا يتوقف.

ومما في سيرة الأمهات مواصلة سعد البازعي وإخوانه وأخواته اللمة واستلهام ملحمة الحب والعطاء من والدتهم عقب رحيلها، بينما أقامت والدة عبدالواحد الحميد حفلة بمناسبة نشر أول مقالة له وهو حفل مهيب لا يُنسى ولو كان مختصرًا. ويبقى القلب والقلم مرتبكان بحضرة الأم عند زينب الخضيري، تلك الأم التي تخطر في معظم أعمال سعد الدوسري، وإليها يرجع سرّ حب عروبة المنيف للقراءة عندما سألتها ابنتها رابعة عن شغفها بالقراءة فأجابتها بأنه يعود لأمي رابعة. وسوف يشعر القارئ بشغف الكتّاب وحبهم ولوعة الأسى وحرقة الفراق التي تقاسموها حينما كتبوا عن أمهاتهم، فالكتابة عن الأم أحزنت أروى الغلاييني التي نسجت عن أمها نصًا ملهمًا أسوة بما فعل زملاء الكتابة في هذا السفر المفعم بعاطفة لا تخبو، وعشق صادق لا يداخله غش أو مكر.

أما أحد نتائج الكتاب التي لم يُصرح بها؛ وفهمهما يختلف حسب القراء، بيد أن معانيها وملامحها ساطعة بين السطور، ومع كلّ مشاركة، وحول ظلال أيّ قصة، وعند نهاية السير كافة، فهو أن الأم بشموخها وعظمتها وعلو قدرها تنسف دعاوى الشذوذ المقرفة المجرمة؛ فالأمومة تناقض الشذوذ جملة وتفصيلًا لأن الأم معنى ومبنى يرتبط مع الفطرة بحبل متين وعهد غليظ. وكذلك فالأم بتضحياتها ومنجزاتها وحسن إدارتها للبيت والحياة بأطرافها العديدة تخالف غلو النسوية وجموحها إلى صنع أحوال من التمرد على الثوابت الشرعية والأعراف المجتمعية الصحيحة، وإيجاد معركة دائمة بلا سبب مع الشقيق، وهذا دون أن يضيع لحواء حق أوجبه الله أو اشترطته لنفسها، بل إنه لمن حسناتها أن تكون الأم رمز الحرية والكفاح والكرامة والمقاومة.

إن هذا الكتاب بنصوصه الفصيحة تبتل في محراب الأمومة، يعزف أحلى لحن، ويشدو بأجمل نشيد؛ فاللهم ارزقنا بر الأمهات دومًا، واحفظ الموجود منهن ووفقهن لكل خير، واشف المريض من الأمهات والبسهنّ لباس الصحة والعافية والسلامة الدائمة، وامنحهن يا ربنا الحبور والأُنس والسعادة في قلوبهن وحياتهن. وارحم من سبقت منهنّ إلى جوارك، واكتب لهن جميعًا آثارهن الحسنة مع الزوج والوالدين والإخوة والأبناء، واقبل منهن تأثيرهن الضخم على الأوطان والمستقبل؛ ذلك أن الأم تعادل الوطن والعراقة والأصل الكريم وتعني ذلك بأولوية لا تخفى، فالأم أكبر دافع للصبر والتحدي ونيل العلم، وإن قامات الأمهات الرفيعة الباسقة لا تنحني لغير الله خالقهن ولغير أمره وشرعه الأطهر، ولا تنكص عن مهمتها العظمى التي لا تدانيها وظيفة ولا يجاريها منصب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 30 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

10 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب والاديب حفظه الله ورعاه كما عودتنا ترفد قراءك بهذه المقالات الهادفة الممتعة التي خالطت شغاف قلوبنا هذه المرة
    كما تفضلت . الام راحة انسانية حانية لاتفقد الحزم ولا تهجر اللطف .
    رحمك الله ياا مي . انا على العهد . اتبع نهجك فلقد ربيت اولادي علي ماربيتني عليه . فلك الاجر والثواب ولكل ام تعبت وربت اولادها تربية صالحة . تعب في النيا وراحة في الاخرة . اكتب ودموعي تنهمر . شوقا اليك . فاي ام انت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)