في تاريخ الدولة السعودية منذ نشأتها عام (1139=1727م) شخصيات عظيمة سواء من الأسرة الملكية، أو من غيرها بمن فيهم العلماء والقادة، أو الوزراء والوجهاء، أو التجار والأدباء، أو المستشارين وأرباب الحكمة. ومع توقير الكافة وتقديرهم والتسليم بمكانتهم، إلّا أن القمة يتربع عليها أربعة رجال يتشاركون مع غيرهم في خصال كريمة كثيرة؛ بيد أنهم ينفردون بميزة أهلتهم للتصدر والبقاء على رأس هذا التاريخ حينما يذكر جملة أو تفصيلًا، وهي ميزة التأسيس وإعادة التكوين وصناعة التاريخ، وكفى بها فكيف وهي مع غيرها من جلائل الأعمال؟!
يأتي في مقدمة أولئك النفر الأكابر الإمام محمد بن سعود الذي أسس الدولة، وضبط مسارها، ومنع بنظرته الإستراتيجية أيّ سبيل للانحراف عن الخط المستقيم، وأفاد من ممكنّات النصر والتوسع، وعوامل جلب المؤيدين والأتباع. ثمّ يتلوه الإمام تركي بن عبدالله وسيأتي الحديث عنه، ويعقبه نجله الإمام فيصل بن تركي، وقد يحجبه البعض بحجة أنه وارث للحكم مباشرة عن سلفه خلافًا للثلاثة الآخرين، ولو تأمل الحاجب لوجد أن فيصلًا قد استعاد الحكم مرتين فيما يشبه التأسيس الجديد. وأما رابع العظماء فهو الملك عبدالعزيز الذي استرجع مجدًا كاد أن يندثر، ووحد بلادًا عريضة الأبعاد، وأسس دولة عصرية في التاريخ الحديث، وفي القمة متسع لأصحاب التجديد وسلوك دروب العظمة.
وعودًا على الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود الذي عاش تقريبًا بين عامي ( 1183-1249=1769-1834م)، وصرم حياته كاملة دون أن يظفر مؤرخ بغنيمة تقييد تاريخي مستوعب لشخصيته ونشأته وأعماله، بيد أن إمام السيف والقلم غادر الدنيا وهو أحد الخالدين من صناع التاريخ، وفرسان الجزيرة العربية الشجعان، وسادات الحكم فيها، ونماذج القدوة والإعجاب في تاريخ العرب والعالم، سواء امتطى الخيل يعدو بجيادها لا يلوي على شيء، أو تبختر بالسيف الأجرب وجال به معالجًا غدرات النفوس، وأدواء القلوب، وغرارات العقول، أو حمل القلم كاتبًا رسالة أمر أو تدبير أو نصح، أو منشئًا قصيدة سيّارة من روائع الشعر، أو حاور باللسان المبين والحجة المفحمة الآخرين من زعماء البلدان ورؤوس القبائل، أو اختفى في صحراء أو غار يتحين الفرص، ويترقب ملائمة الأحوال.
كما شارك الإمام منذ نشأته في أعمال التأسيس الميدانية، وفي معارك الدفاع والمواجهة، في عهود ثلاثة من زعماء الدولة السعودية الأولى، وأصبح جنديًا تحت كنف والده الأمير عبدالله بن محمد بن سعود قائد الجيوش والحروب في الدولة الأولى، الذي حمل عن أخيه الإمام عبدالعزيز وعن ابن أخيه الإمام سعود عبء قيادة جيوش الدولة في عدة نواحي، وحينما توفي الأمير عبدالله عام (1230 تقريبًا) قبل نهاية الدولة الأولى بسنوات يسيرة، خلّف لنجله الأصغر سنًا “تركي” إرثًا من الخبرة والهيبة والشجاعة، ولقد أحسن الوريث التحمل والأداء، حتى صار الرعب يسبقه إلى خصومه وأعاديه، موقعًا الهلع في القلوب القاسية، ومبشرًا بالنصر المبين على ذوي العدد والمدد.
وعندما شاء الله أن تنتهي أيام الدولة الأولى بالعدوان التركي المصري الآثم، بعد مئة سنة من الأمن والاستقرار ووحدة الكلمة التي نعمت بها بقاع عدة من الجزيرة العربية التي عانت زمنًا عصيبًا من الشتات والحرمان والتناحر، أظلمت الدنيا في وسط الجزيرة العربية أو كادت، وحزنت كثير من النفوس لدرجة اليأس أو قاربت، حتى ظهر الإمام الجسور في قلة من العدد والعدة، وفي حال من المطاردة والمطالبة، فلم تثنه هذه الصوارف الملجئة عن السيرورة صوب تحقيق مطلوبه المبتغى، وقد جلّ مبتغاه أن يُسمى!
فاستثمر تركي بن عبدالله بداية عودة بعض أتباع الدولة، والارتباط النفسي لبعض القرى والحواضر والقبائل بدولة الآباء والأجداد وفكرتها، حتى كأنّ الأرض تناديه وتبايعه قبل ساكنيها. وقد أكثر الاختفاء عن العيون نهارًا، والتنقل بين البقاع ليلًا، إلى أن اجتمع حوله أنصار من العامة والزعماء، وشرع يتلقى البيعة الشرعية، واستطاع عقب ذلك استرداد الرياض، وتأمينها، وبناء السور والجامع، ثمّ توسع في مناطق كثيرة، ولم يلبث أن توافدت عليه الجموع البشرية، أو الكتب المسطورة، معلنة الطاعة والبيعة والنصرة ودفع الزكاة.
ثمّ بزغ فجر جديد بين عامي (1238-1240=1822-1824م)، لكنه من الرياض هذه المرة، وأضحت الدرعية العاصمة الأولى تابعة للرياض العاصمة الجديدة الكبرى، وغدا الإمام تركي أول أمير للرياض يحكم الدولة كافة، وتلاه في هذه الخصيصة حفيده الملك سلمان. وآل الحكم والملك من تلك السنة إلى الجناح الثاني الباقي من نسل الإمام المؤسس محمد بن سعود، وهو جناح بارع في سلمه وحربه، وموفق في إدارته وقيادته، جمع بين الدين والمدنية، والضخامة في كمه وكيفه، وله تاريخ مشارك في التأسيس الأول تشهد به الوقائع والمنازل، وله تاريخ انفرد به في التأسيس الثاني والثالث لا يخفى على دارس، وله سوابق ومآثر في قصص الاستعادة والاسترجاع التي يعذب تكرارها، وفي ميادين السياسة والإدارة والتنمية.
لقد حفظ لنا تاريخنا المحلي مسيرة رجل وحيد يجوب صحاري نجد وبين بلداتها راجلًا وراكبًا، وروى جرأته على القتال والاقتحام وحيدًا أو في قلة من الأنصار، وأخبر عن جلائه انتظارًا للحظة حاسمة، حتى تمكن من طرد الحاميات بجنودها، وعقاب المعتدين الذين لم يرقبوا إلّا ولا ذمة، ونجح في رفْع الراية السعودية على العاصمة المختارة بعناية، وتوطيد الحكم، ثمّ المضي بحكمة وروية ونظر في العواقب والمآلات واستفادة من التجارب؛ لضم ما يمكن ضمه سلمًا أو بالقوة، دون استعداء قوة غاشمة، وبالتالي استطاع الإمام الاستحواذ على غالب الديار التي حكمها أسلافه، ونظّم فيها القضاء والإمارة والزكاة وسبل الحياة.
وكان من بصيرته السياسية نجاحه في “تصفير” المشكلات مع الدولة العثمانية وأتباعها المحيطين بدياره قدر المستطاع، والبعد عن مواجهة غير متكافئة؛ كي يأمن الشرور ويقطع دابر عداوات الماضي أو يخففها. ومن كياسته وسعة أفقه ما يُروى عن مكاتبة الإمام للإنجليز المسيطرين على شواطئ الخليج العربي؛ حتى يحول دون تدخلاتهم في الأراضي التي دانت له كما دانت لأسلافه من قبل. ومن هذا الباب الرشيد حرصه على تأمين طرق الحج التي تعبر بمناطقه، ومنها طريق الحج الفارسي والعراقي، وهو تأمين له دلالات في بُعد النظر، والتسامح، واعتبار المصالح.
أما في الداخل فقد اعتمد الإمام سياسة فيها العدل الذي تجتمع تحت مظلته الخلائق، والقوة التي يرتدع بها من تؤزه شياطينه أو نفسه الأمارة بالسوء. وقد أدار شؤون الناس في معاشهم مثلما كانت عليه في الغالب الأعم، واستعمل في بعض المواضع عددًا من الأمراء والقضاة والمعلمين والقادة، ونشط في نشر العلم والمعروف والفضائل، والقراءة من الكتب وبعث الرسائل، والبراءة من الظلم والتجني، وجعل المجال العام يجري بالطريقة التي توافقت عليها المجتمعات المحلية وأهلها ورضيت بها، دون إخلال بالإطار العام للدولة، وأنظمتها.
وكما صُنع تركي بن عبدالله تحت عيني والده مع أنه أصغر أبنائه، فقد بادر الإمام لصناعة نجله الأكبر الإمام فيصل تحت عينيه، فقضيا معًا سنوات في الحكم والإدارة والحرب، وفي معالجة مصالح الديار والأهالي، والتعاطي مع الداخل والخارج، ورسم المستقبل، ضمن ثنائية الأب والابن، وهي ثنائية بارزة في الأسر العريقة التي تعتني بالتأهيل والإعداد، وهي آية على التوفيق الرباني، وسمة يصرف في مثلها الكبريت الأحمر، وماء العيون؛ لنفاستها، وبركة نتائجها.
هذا هو الإمام تركي بن عبدالله، سادس حكام الدولة في أدوارها الثلاثة، وربما أنه أول أمير للرياض من آل سعود، وهو القائد الذي لم توهن عزيمته أو تنكسر نفسه بمقاتل أسرته وزوال ملكهم، ولم تلن قناته بهدم الديار وأسر الآل، وهو الذي لم تثنه الصعوبات المادية والمعنوية عن بلوغ هدفه الأكبر الشاق إن في الاستنقاذ أو إعادة التأسيس. وهو الذي عاش شجاعًا حصيفًا، وانتقل إلى الدار الآخرة حميدًا متقبلًا بإذن الله، ولفضله وتأثيره، دأب الملك عبدالعزيز على زيارة قبره، والسلام عليه، والدعاء له، ولا غرو فعبدالعزيز هو الحفيد المشابه لجده، المتشارك معه في مكرمات كثيرة.
وإن تركي بن عبدالله لإمام قوي راسخ القدم في دينه ودنياه، حتى غدا حاكمًا تاريخيًا له يد في كتابة تاريخ البلاد السعودية قاطبة، ولذلك فلا غرو أن يحمل اسمه الكريم عدد جمّ من أنجال الأسرة الملكية في جميع طبقاتها وفروعها وأزمانها، بل إن الملك عبدالعزيز أطلق اسم جده الثاني “تركي” على اثنين من أولاده أحدهما نجله الأكبر، ولأجل ذلك تكنى به، والله يمن على الجميع بالرحمة والعفو والغفران لمن ارتحل عن الدنيا، وبالعون والسداد والتوفيق للأحياء والقادمين.
الرياض- الأربعاء 22 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445
06 من شهر ديسمبر عام 2023م
One Comment
كان قائدًا سياسيًا حكيمًا، تمكن من إدارة الدولة السعودية الثانية بنجاح رحمه الله