أبو حسين يصف علي النملة!
هذه سيرة ذاتية مختلفة؛ عنوانها : “أبو حسين: النشأة–البيئة–التعايش“، تأليف علي بن إبراهيم الحمد النملة، صدرت طبعتها الأولى في كتاب عن دار الثلوثية عام (1445=2023م)، ويقع في (315) صفحة مكونة من استهلال وتمهيد ومقدمة، ثمّ وقفات عددها اثنتان وأربعون وقفة، تعقبها الوقفة الأخيرة، فسرد للمصادر والمراجع التي ورد ذكرها في مجريات السيرة ويقترب مجموعها من الخمسين، وأخيرًا ملحق بالأعمال العلمية المنشورة للمؤلف على هيئة كتب أو دراسات أو مقالات، وتعدادها مجتمعة يفوق المئتين.
لماذا هذه السيرة مختلفة؟ لأنه لن يتعسر على القارئ خاصة إذا سبق له قراءة بعض كتب السير الذاتية أن يكتشف في هذه السيرة قدرًا من العفوية والتلقائية التي صبغت بها شخصية المؤلف أ.د.علي النملة منذ القدم، وسيجد قدرًا من الانجذاب للعلم والتعليم والكتابة والتوثيق في حياته، ويرى أنموذجًا من القدرة على صنع الطرفة، مع ما يكسو شخصية صاحب السيرة من حياء ومهابة، وزان ذلك كله الصدق الذي يفوح عبيره في الأرجاء، وهل بربكم شيء أزين من الصدق؟! وبالتالي فأبو حسين يصف علي النملة كما هو دون تحسين أو إضافة أو تعمية.
ومن جوانب الاختلاف اللافتة في السيرة أن مؤلفها ذكر ما عليه دونما تلكؤ، ومن الطبيعي أن سيقول ما له أيضًا وإنما الفرق في ألّا يقتصر عليه، ومنها خلو السرد تمامًا من التفاصيل الإدارية التي أثقلت سير ذوي المناصب؛ حتى لكأن هذا الفن السيري الجميل يُغتال تحت طائلة من قيود الإدارة وأغلالها. ومع أن المؤلف أضاف لكتابه تمهيدًا عن فن السيرة الذاتية، ومعلومات ومراجعها، إلّا أن بصيرته في الرصف، ورشاقة قلمه، قد حالتا بتوفيق الله وفضله دون الإملال والإثقال وما أسرعهما إلى القراء.
كذلك من جليل ما في هذه السيرة ما نشعر به من نبرة الاعتزاز المعتدل من الكاتب بالأصول الراسخة، والعراقة الشامخة، والأعمال والآراء، وتحاشي التنكر للماضي، والاعتراف بالمسغبة والحاجة، وما قد يراه الناس نقصًا أو سببًا للمؤاخذة من فرط حب الإنسان لنسيان مرحلة كان عليها، وحذف ما يتعلّق بها. ومنها إيراد التاريخ الهجري الدقيق عند الحديث عن الأحداث العالمية والمحلية، وإنه لتاريخ يكاد أن يهجر جهلًا أو تجاهلًا، ويأتي بعد ذلك كله أن كتابة هذه السيرة استغرقت عقدين من الزمان، وفوق ذلك راجعها كاتبها عشر مرات حتى استوت أمامه قائمة ذات أهلية للنشر.
تعود أسرة المؤلف العريقة التي تستقر في البكيرية إحدى مدن القصيم إلى أسر عريقة متسلسلة، منهم العقيل في عيون الجواء بالقصيم، الذين يرجعون لأسرة العقيل في حرمة بسدير ومنهم ملاك مكتبة جرير التي كان أول مالك لها من هذه الأسرة مديرًا لمدرسة المؤلف وهو طالب. وقد انتشرت هذه الأسرة حتى سكن قسم منها الزبير، وأبرزهم الوجيه الشيخ محمد السليمان العقيل، وشقيقه القاضي والمحامي إبراهيم السليمان العقيل.
ولوالد المؤلف الشيخ إبراهيم الحمد البراهيم النملة (1350-1412) تاريخ من الكفاح مثل بقية أبناء جيله؛ حتى عمل في خط التابلاين مع نشأته الأولى، وفي مشاريع أمواه الرياض، ولم يجد المؤلف حرجًا وهو وزير يتحدث أمام جمع حاشد من دول عربية كثيرة ليخبرهم أنه ابن عامل اشتغل في السباكة يومًا ما، وقد شارك الابن أباه في هذه المهنة، واستقل بمحاولات بيع شملت الماء والبطيخ والخضروات، وغالبها لم يكتب له فيها من النجاح ما يغري بالمواصلة في باب التجارة.
ومن جميل ما في الكتاب الذكر العاطر من المؤلف لوالده كما سلف، وأيضًا لوالدته حصة بنت عبدالله العلي اللحيدان (1355-1419)، وثنائه عليهما وعلى صنيعهما التربوي مع ثمار زواجهما البالغة أربعة عشر ابنًا وابنة، وكثرة الدعاء لهما، مع ظهور أعمال البر للوالدين في المحيا والممات؛ فمن ذلك زيارة أهل ودهما، ومنه اختيار العنوان الفريد للسيرة بناء على تكنية الأم الحنون لوليدها إبان صغره؛ إذ تناديه “أبو حسين“، فأصبح هذا الاسم المحبب هو عنوان السيرة كي تخلد قصته، ويبقى الدعاء لصاحبة الابتكار!
كما يجد القارئ لكتابنا الاعتراف الوفي لذوي الفضل وأهله، وهم كثرة كاثرة من الملوك والأمراء والعلماء، وفيهم جمع من المسؤولين وأعضاء مجلس الوزراء؛ فمنهم مدير جامعة الإمام ووزير الشؤون الإسلامية أ.د.عبدالله التركي الذي تفرس في مواهب أ.د.النملة تفرسًا مبكرًا فاستعمله في مواضع مهمة داخل المملكة وخارجها؛ حتى أصبح قريبًا من العالم أ.د.فؤاد سزكين الذي أدرك تميز أبي حمد وسعى لاستبقائه في معهده دون جدوى. ومنهم الشيخ محمد بن جبير أول رئيس لمجلس الشورى الجديد، ويرد معهم عدد غير قليل من أساتذة جامعة الإمام، وأعضاء مجلس الشورى، وموظفي وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وبعض الوجهاء والأدباء مثل الشيخ عبدالمقصود خوجه، وعمومًا فمن يقرأ الكتاب سوف يقع على فائدة أو أكثر عن كل اسم جاء فيه.
أيضًا في السيرة لمحات خلقية، وتربوية، وأسرية، وزوجية، ومجتمعية، مع إضاءات إدارية، ومنهجيات علمية، ولو جمعت لكانت زادًا حسنًا مأمونًا للمجتمع وأجياله؛ فالدنيا بأسرها لا تستأهل التلون والمخاشنة والمكائد. وفيها بيان لأثر الصديق الجاد والمثقف والقارئ، وآثار حفظ الوقت وضبطه حتى لا يطير ويضيع، ومن دلائل تلكم الجدية أن ظهرت نتيجتها في بحث تخرج كتبه المؤلف بخط يده وهو طالب جامعي من سبعمئة صفحة، ثمّ فيما أصدره من مؤلفات عقب تمام النضج العلمي والمعرفي.
ومن فوائدها العليّة أن المرء قد يكون عاجزًا بالإحساس؛ لكنه قادر بالإرادة، وأن خوفنا من القابلية للتأثر حجبت تأثيرنا عن الآخرين، ومن الحكم المتكررة فيها الاستشهاد في سياق بديع بنصيحة الشاعر بترك أي شيء غير مستطاع، ومجاوزته إلى ما يمكن صنعه. ومن بصائرها الإدارية أن وفق الله المؤلف لتمثيل المستفيدين أمام الإدارة الحكومية التي يعمل بها سواء في الملحقية خدمة للمبتعثين، أو في الكلية نفعًا للطلاب، أو في المؤتمرات العمالية تقديمًا لكلمة العمال على الكلمات الرسمية!
وفي السيرة مواضع طريفة مستعذبة، مثل حوض النخلة الشبيه بمستشفى الولادة، والنخلة التي قامت مقام القابلة، وما جرى لها فيما بعد، ومنها حكاية “كل واص“؛ وهو طعام لذيذ بالمناسبة، ومنها البحث عن بقية أطعمة يرميها “العسكري” والحمدلله على نعمه، والحصول خمس مرات على مكافأة من الملك سعود بطريقة احتيال ذكية، ومشاهد هروب الطالب النملة من أستاذه وهو مشهد سينمائي بارع يلهث معه القارئ، ومن أطرفها أن صكه بالكفوف غدًا جزءًا من تكوينه التربوي، وأن والده رفض ركوب سيارة “بيجو” بسبب نعومتها ورقتها الزائدة!
ومن المحزن في سرد الكتاب مواقف بعض الأساتذة في التعليم العام من شتم الطلاب، والتشفي بضربهم، والاستنكاف عن الاعتراف بالخطأ، وأما في التعليم العالي فمنها سوء تقدير جهود الآخرين لعلل في النفس أو الواقع من قبل بعض المحكمين، وانتشار الدسائس وتتبع العثرات؛ حتى أن المؤلف يحتفظ بكتاب لوم وإنذار من جامعة محلية، في مقابل كتاب ثناء وإشادة من جامعة أجنبية! ومن مواضع الحزن العام قول أحد الفرقاء الأفغان وهو يوقع على اتفاقية مع بقية القادة: أوقِّع ولا أتوقَّع! ومنها أخبار وفيات الأقارب من أصول وإخوة وزوج، وكم في الفراق من ألم.
ومما يلفت في سيرة العالم الوزير النملة توافق تاريخ زواج المؤلف من زوجته الأولى (25 من صفر عام 1401) مع تاريخ زواجه من زوجته الثانية (25 من صفر عام 1433) بعد وفاة الأولى، ولو تأخر زواجه سنة واحدة فقط لتوافق التاريخ الهجري والميلادي لمناسبتي الزواج، وهذا التاريخ محبب لي ذلك أن يوافق التاريخ المدون رسميًا لميلاد والدتي رحمها الله. كما يبرز جليًا في السيرة انجذاب راويها صوب التطوع والعمل الاجتماعي وخدمة المجتمع منذ أن شارك مع مدرسته في تنظيف شارع بالعاصمة، إلى أن امتد التطوع لديه في نواح علمية وعملية كثيرة، ونرى كيف أثرت فيه كلمة عالم الرياضيات اليهودي الأستاذ “بوركو” حين قال له: المسلمون هم من صدروا لنا علم الرياضيات! فانقلب الطالب المبتعث من مبغض لهذا العلم إلى متفنن فيه؛ بل ويأرز إليه رفاقه للشرح وتلقي العلم على يديه، مع أنه كان يلّقب عند بعض زملاء الدراسة الأولى بوصف “الشيخ“؛ لأنه من طلبة المعهد العلمي.
ومن صريح السيرة ما ذكره المؤلف عن انتقاد الآخرين له لأنه بتلقائيته لم يصل إلى مقام الوزير، وببعده عن المظاهر لم يدخل إلى جو المظاهر! ومن صريحها النادر في سير الوزراء إيراد طريقة الإعفاء من المنصب والإخبار بذلك. ومنها تقييم بعض الأساتذة له بأنه لا يصلح للتدريس الجامعي، وهو تقييم جائر يئده ثقة أعلام وجامعات وجمعيات به، وينفيه كليّة أنه حين تقاعد من الوزارة لم يتقاعس أو ينكفئ، وإنما أقبل بكليته على رواق العلم، فهو من الوزراء الأكاديميين المنفردين في هذا الباب، ويدل على ذلك انتقاد كاتب صحفي متعجل، وأستاذ جامعي غير مدقق، للوزير المؤلف على توالي التأليف إبان عمله وزيرًا؛ وما عرف ذلكم المنتقد كثرة المؤلفين من الوزراء وإلّا لما تساءل: أهو مسؤول أم دار نشر!
أيضًا في السيرة إسهاب مفيد عن كيفية تعامل الوزير وأركان وزارته من رجال الدولة المخلصين مع المنظمات الدولية العالمية والعربية، وكيف استطاع النملة وفريقه وعلى رأسهم الأستاذ عبدالعزيز الهدلق الذي أصدر سيرته قبل أعوام تغيير انطباعات هذه المنظمات وقادتها عن أحكام الشريعة الإسلامية، وتطبيقات الحكومة السعودية، وطبيعة المجتمع المحلي؛ حتى صار بعضهم مدافعًا عنها من تلقاء نفسه، وفي منصات دولية، وما أحوجنا لبسط هذه الخبرة يا قوم، وليت أن الوزارات المعنية بالشؤون الدولية والمنظمات تستضيف أفرادًا من هذا الفريق؛ للإفادة من تجربتهم في حوارات مع موظفيها.
ليست هذه قطعًا هي فوائد هذه السيرة التي حكى فيها معالي العالم والوزير والأستاذ الجامعي أ.د.علي بن إبراهيم الحمد النملة عن مجتمعه وأناسه، وعن آخرين صادفوه في الحياة وصادفهم، وعن أحداث ووقائع، ولذلك أدعو القارئ ليستمتع خلال إجازة العيد وموسم السفر مع أبي حسين؛ وليقرأ أكثر في السطور والمسطور دون أن ينقب عما بين السطور أو في الصدور فربما أنه الظاهر كالباطن، ولعلي مع القارئ أن أقتبس من حكمة الوزير العالم الشيخ صالح الحصين حسبما يروي النملة أن الحصين استعفى من الملك عبدالله حينما طلب منه إمامتهم بالصلاة بحجة أنه يحمل فوق ظهره آثام سبعين سنة! ولعلي أعلم مع القارئ أن خدمة الناس والمجتمع شفيع لصاحبها، ولذلك كانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أحب عمل وأقربه لقلب الوزير الشيخ إبراهيم العنقري كما صرح بذلك لأبي حسين!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف –الرياض
الأربعاء أول أيام عيد الأضحى المبارك عام 1444
28 من شهر يونيو عام 2023م