سير وأعلام عرض كتاب

صالح الوشمي والإرث الباقي

صالح الوشمي والإرث الباقي

سيرة الكرام آل الوشمي من أهل عيون الجواء عذبة مورقة، وهي كثيرة الورود المحاط بالحب والتقدير على لسان جدي ووالدي -رحمهم الله جميعًا- حتى ورثنا عنهم هذه المحبة، وذلكم التقدير، وإنهم القوم الذين يستحقون أن يكون لهم في القلب مكانة، وفي قاموس الحب موضع هذا أولًا. وأما الثاني فلهذه الأسرة النابهة بأعلامها فضل علمي وتعليمي وتوجيهي على منطقة الجواء والقصيم سواء في المساجد أو المدارس أو الأندية الثقافية والأدبية أو التأليف والكتابة حتى صيّروا من صيتهم رصيدًا لبلدتهم وأهلها.

أما الأمر الثالث فقد قرأت كلمة موجعة منسوبة للبروفيسور عبدالله بن صالح بن سليمان الوشمي يصف الحال عندما تقدّم جده الشيخ سليمان وهو يناهز المئة، للصلاة على ابنه -الدكتور صالح- الذي توفي في أمريكا وهو في منتصف الخمسينات من عمره في منتصف الشهر الخامس عام (1413)، ومن المصلين المأمومين الذين احتشدوا للوداع الابن والحفيد -عبدالله- وهو لما يبلغ العشرين بعدُ، وتقول تلك الكلمة: إن الجدّ أم الناس على ابنه وهو يبكي على التاريخ والماضي وذكرياته مع ولده الراحل مبكرًا، بينما صلّى الابن والحفيد خلف جدّه على أبيه وهو يتقاسم البكاء مع الجدّ الأسيف لكنه بكاء من خوف المستقبل الآتي المجهول!

ورابع أمر هو أن هذا البيت العزيز العريق من البيوت التي تسلسل فيها العلم والفضل والنفع الثقافي، فالجدّ الشيخ سليمان الناصر الوشمي (1322-1417) ممن عرف بقوة الحفظ والضبط، وحسن الخط وجودة التوثيق، حتى غدا مرجعًا لأهل بلدته الذين يذهبون من الجواء إليه في بريدة فلا يرجعون إلّا وقد زال ما لديهم من إشكال، أو حسم بقوله أو رأيه الأمر الذي قصدوه لأجله، ولهذا اصطفاه أقوام منهم ليكون وصيًا على صغارهم بعد وفاتهم حتى لو لم يكن بينهم قرابة. وفوق ذلك كان الوشمي الجد موضع الثقة والتجلّة من العلماء والقضاة في بريدة بمنطوقه ومكتوبه، وله أثر باق على نجله وحفيده إن بالوصية، أو بالكتب القديمة، أو بالتربية القويمة.

وممن سار على نهج الجدّ وإن توسع في العلوم والفنون، واتضحت لديه المنهجية البحثية الصارمة، ابنه الدكتور صالح بن سليمان الناصر الوشمي (1357-1413) الذي واصل التعلّم ابتداءً من الكتاتيب حتى تحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ، وضرب بسهمه الصائب غير الطائش في ميادين علمية تاريخية وبلدانية ومجتمعية وأدبية مقالية وشعرية، وكانت القراءة مع الكتابة والتأليف والبحث والتنقيب شغله الأهم، والعلامة الفارقة في حياته؛ فدأبه أن يقرأ ويكتب، أو أن يكون في خدمة القلم والكتاب وأربابهما.

ثمّ شاء الله أن ينقضي عمر الوشمي الابن مبكرًا قياسًا لجيله والله يكتب له الأجر وحسن الخلف والعوض؛ بيد أنه ترك وراءه ذرية امتن الله عليها بالحفظ، والعلم، والفهم، حتى حمل بعضهم الراية الوشمية التي لم تسقط، وعرف من أولاده أستاذ اللغة أ.د.عبدالله بن صالح الوشمي، الذي برز في ميادين أسرته العلمية بتخصص أكبر، وانفتاح أوسع، وساهم بفعالية في أندية أدبية، ومجمعات لغوية، وقاعات جامعية، مع مشاركات منبرية وتأليفية، وإنها لذرية بعضها من بعض، والخير في الأسر العريقة النبيلة باق أصيل، والآمال عليها معقودة في أبواب من الفضائل والخيرات لا تحصى عددًا، ولن تغلق السبل إليها إن حالًا أو مآلًا.

أقول ذلك بعد أن قضيت ليلة ثقافية وكانت لغيري رياضية، فظفرت بوقت صفاء مع كتاب عنوانه: صالح الوشمي سيرة ومسيرة، وهو من إصدارات نادي القصيم الأدبي ببريدة عام (1428=2007م)، ويقع في (477) صفحة مكونة من مقدمة لرئيس النادي د.أحمد الطامي، ثمّ خمسة محاور يعقبها صور مختارة للمترجم. والكتاب وثيقة وفاء وبر مشتركة من النادي تجاه أحد مؤسسيه والفاعلين الأوائل فيه، ومن نجل الوشمي د.عبدالله الظاهرة جهوده في المحتوى، وعندي أن ما كتبه عن والده نموذج يُدرس، وهي من أجمل ما في الكتاب؛ وليت الابن البار أن يخرج بقية آثار والده، والله يبارك لنا وله في الوقت والجهد.

نجد في محاور الكتاب الخمسة أن المحور الأول خاص بعرض نماذج من كتابات د.صالح الوشمي وهي متنوعة في الزمن والموضوع ومكان النشر، وعنوان المحور الثاني الذكريات التي كتبها آخرون عن الوشمي، بينما حفظ ثالث المحاور صدى الوفاة التي كانت أليمة موجعة، وتبعه الرابع بقصائد رثاء من المحبين والمتأثرين، بينما رصد الخامس الدراسات عما كتبه د.صالح الوشمي، وهو أطول المحاور مادة، والصبغة العلمية فيه أظهر، ويتضح جليًا لقارئه الشخصية البحثية والعلمية المستقلة لدى د.صالح الوشمي.

ومما يوقفنا عليه الكتاب أن الأديب المؤرخ الوشمي كان حلقة وصل ثقافية بين القصيم وأدباء الحجاز والرياض، وربما إلى خارج الحدود التي عرفت مؤلفاته ودراساته. ونلحظ براعته الكتابية الباكرة حتى أن مجلة المنهل الرزينة العميقة نشرت له بعض المقالات، ولم يكن مؤسسها الأديب عبدالقدوس الأنصاري متساهلًا في النشر، ونلمح فيه تقديم العلم والحقيقة التي يعقد عليها خنصره على الرموز مع توقيرهم، وبدا ذلك في آرائه البلدانية حول طريق الحج التي خالف فيها الشيخ حمد الجاسر، وكان رأي الوشمي هو الأصح كما كتب الجاسر بنفسه. وطرق د.الوشمي كتاب البخلاء للجاحظ من زاوية اجتماعية لم يُفطن لها، وبادر لدراسة شعر ابن خميس دراسة وافية متجاوزًا الرأي المعلّب بأن أزهد الناس في عالم أهله.

كما يتجلى في سيرته ولعه بالآثار وتتبعها وتصويرها، وهو افتتان ذاتي المنبع، معرفي الغاية، ليس له أبعاد وظيفية، وإن استثمرت إدارة التعليم شغفه الآثاري فيما بعد. وله إسهامات تجاوزت الكتابة الصحفية والبحثية إلى مشاركات إذاعية وتلفزيونية عسى أن تظهر مطبوعة عمّا قريب، ومن لطيف مسيرته الثقافية أن والده الشيخ سليمان هو أول قرائه وناقديه، وهي السمة التي ورثها د.صالح وفعلها مع أولاده وما يكتبونه، وبعد رحيله واصل الجد مع الحفيد تلك المسيرة التعليمية حتى أخبره كما قال لوالده من قبل بأن تحرير مسألة فقهية من الابن أو الحفيد أحب إلى الجدّ من كتابة قصيدة شعر؛ ولربما أن هذا الرأي قد أبعد د.صالح الوشمي عن بحور الشعر إرضاء لوالده المسكون بعلوم الشريعة الشريفة السامية.

كذلك لمؤرخنا د.الوشمي أوليات منها أنه أول من رسم خريطة حديثة لمنطقة القصيم باليد، وهي خريطة مبنية على جولاته الوظيفية في مدارس القصيم؛ فكان يستثمر العمل للملاحظة والسؤال والنتيجة هي هذه الخريطة. ومنها أن أول كتاب طبعته مكتبة الملك عبدالعزيز ضمن سلسلة الدراسات المحكمة كانت رسالته للدكتوراه عن منطقة اليمامة، وقد اغتنم نادي القصيم فور تأسيسه وجود بحث مجاز من الأزهر للوشمي عن شخصية أبي مسلم الخراساني؛ فسارع إلى طباعته وصار هو الكتاب الأول للنادي. ولم يتوان الوشمي في المعاونة للتأليف في سلسلة هذه بلادنا؛ فكتب عن الجواء، وربما أنه أول كتاب معاصر عن هذه المنطقة التاريخية.

هذه سيرة رجل حوت سيرًا لثلاثة أجيال هاجسها مقتصر على محيط العلم والأدب والتاريخ واللغة؛ فالجدّ يذهب مع قوافل العقيلات، ويشتري مقامات الحريري من دمشق عام (1357)؛ فلا يطيق الانتظار؛ وإنما يقرأ الكتاب وهو على ظهر راحلته العائدة لنجد في عام مولد ابنه صالح الذي نال هذا الكتاب هدية من أبيه لاحقًا؛ ثمّ آل الكتاب بعد وفاته إلى مكتبة الابن والحفيد أ.د.عبدالله ليصبح شاهدًا على مركزية العلم والقراءة والكتاب في حياة الأسرة الوشمية.

وهي سيرة فيها توقير الرب العظيم وإجلاله، والنفوذ إلى خدمة الوطن من بوابة العلم والمعرفة، وإنها لبوابة واسعة خليّة من الأغراض والكذب وما يسوء، وقد دخل فيها آل الوشمي بتمكن فخدموا التوثيق، واللغة، والتاريخ، والعلوم البلدانية والآثارية. وفي السيرة والمسيرة تجارب مجتمعية في العون والمؤازرة والاستضافة قدر المستطاع والوسع بما ينطبع في ذاكرة المستفيدين فلا يمحى ولا ينسى، وفيها عبق الثقافة ولذاذة القراءة والكتابة، ومن أفخم ما فيها تلك الصورة البهية عن الأب المثقف الذي يكون في بيته ومع أنجاله والدًا شفيقًا، ومربيًا حنونًا، ومعلمًا بصيرًا، وقارئًا متذوقًا، حتى يصبح لهم عقب غيابه حنانًا تدمع العين لذكراه، وإرثًا نفيسًا يتجاوز المال إلى قمم شوامخ من شؤون الوعي والعلم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 07 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

الأول من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)