سير وأعلام

أحمد الصالح مسافر مقيم!

أحمد الصالح مسافر مقيم!

تداول الناس يوم أمس رسالة عن تميز تاريخ ذلك اليوم الهجري؛ فهو اليوم الرابع من الشهر الرابع من عام ألف وأربعمئة وأربعة وأربعين من الهجرية النبوية الشريفة، وفي وسط هذه الرسائل تأتي رسائل تحمل في طياتها النعي والوجع والوفاء والمحبة للشاعر السعودي الكبير أحمد بن صالح بن ناصر الصالح (1362-1444) الذي دهمه مرض لم يطلع عليه كثير ممن حوله حتى أجاب داعي مولاه، وألقى عصا التسيار، وتركنا نقول له ما قاله عن الشيخ ابن باز: ‏”كبيرٌ أن تكون لنا المصابا“! ومن الموافقات أن يكون هذا المقال هو الرابع لي في هذا الشهر الرابع! وهو الرابع عن المربي الشيخ صالح بن صالح ونجله، والسادس عن كرام من أسرة الصالح الغالية العزيزة.

وإذا أردنا أن نستجلي على عجل شيئًا من حياة شاعرنا الراحل فسوف نرى بجلاء أثر والده المربي الشيخ صالح بن صالح وعمه الشاعر الشيخ عبدالمحسن، فمن آثارهما تلذذه بالشعر حين يتذوقه والده ويترنم به مستشعرًا معانيه وأحاسيسه وليس هذًا من الذاكرة فقط. ثمّ يحضر الابن النجيب مجالس الأب والعم فيستمع ويلتقط ويعي، وهي مجالس تقوم مقام المدارس والمسارح الراقية بما ومن فيها. وثالث شأن تلك الدواوين والكتب التي يتعاهده بها أبوه المرة تلو المرة، وآخرها أن الأب البصير حين آنس من ولده العناية بالشعر سأله عن طموحه تقديرًا لاهتمام الابن وموهبته، وبعد أن سمع الوالد جواب ابنه أرشده إلى الارتقاء بطموحه ليناله أو ليكون قريبًا منه، وتلك لعمركم لفتة تربوية عظيمة.

لأجل ذلك تعمق أحمد في الشعر قراءة وترديدًا ومتابعة ولقيا، حتى أنه سافر لملاقاة كبار شعراء العصر، وجمع الله له بين البصر بالشعر القديم الأصيل، والمعرفة بالمعتبر الراقي من الشعر الحديث؛ ولذا جاء شعره في المسارين من ناحية فنية فقط، دون أن يتقحم ما لا ينبغي لمثله تقحمه من شطآن وحدود وعقبات، ولذلك أصبح مسافر شاعر قصيدة التفعيلة، وشاعر القصيدة العمودية؛ فيجد القارئ في قصيدته القديمة تجديدًا منضبطًا، ويبصر في قصيدته الحديثة رزانة لافتة، فلا هو من أهل الجمود الممل، وليس من أصحاب السيولة المائعة.

واختار مسافر الشعر الفصيح مطية له مع أنه وثيق الصلة بنوعي الشعر، وما ذلك إلّا ليكون صوته مسموعًا مفهومًا أينما نطق عربي أو سمع، وليكون شعره من المعين على فهم القرآن العظيم والسنة الشريفة، وحتى يصبح شعره سببًا في التواصل مع الإرث العربي الضخم نثرًا وشعرًا، وكي يضمن لمقوله الخلود لارتباطه بحرف محفوظ لا يضيع ولا يندثر، وآخر شيء حتى يغدو شعره من الجنود العاملين لأجل العربية والمحافظين عليها، وإنها للغة جميلة عذبة باسقة تتوافق مع النفوس العلية السامية.

ثمّ إن شاعرنا الذي سافر عنا بالأمس وسوف يصلى عليه اليوم لم يجعل شعره من الكلام المزخرف الخلي من المعاني حتى لو ترنم بشيء من الإخوانيات، ويجزم النقاد الدارسون لآثاره أن أحمد الصالح صادق في شعره وفي عمره، نبيل في أذواقه وأشواقه، مرهف في عوائده وقصائده، رفيع في أبياته وحياته. ومن خبر شعره أنه ألقى عام (1416) قصيدة في اجتماع أسرته العريقة الممتدة بين المجمعة وعنيزة والزبير والكويت؛ فأضحت تلكم القصيدة أحد أركان الملتقى الأسري لآل صالح، وفيها إشادة بكبار الأسرة وصغارها، وبالنساء والرجال، وفي مثلها قدوة للأسر.

ولم يبخل مسافروحاشاهبموهبته عن حراك مجتمعه، فعندما أخبره قريبه د.عبدالرحمن الصالح عن حفل لتخريج حافظات الكتاب العزيز ومنهنّ ابنة عبدالرحمن، وطلب إليه كتابة قصيدة عن تلكم المناسبة العزيزة، بادر أبو محمد ولم يتوانَ عن التفاعل الجميل؛ فأيّ شرف أجلّ من خدمة الكتاب العزيز، وأيّ ثناء أسنى من الثناء على حفاظه وحافظاته العاملين به والمهتدين بهديه، ومما جاء فيها قوله:

شـكراً لمن شَـــرُفَتْ بهم أفراحــنا***** من أمهات سعيهن مــــقدر

شكراً لمن هُنَّ المشاعل في الدجى*** علم وإخلاص وطبع خــيِّرُ

كما أن مسافرلم يتأخر بتعليم من قصده أو كان حوله، ولا غرابة من نجل مصباح عنيزة أن يفعل ذلك. ومما قرأته تأكيدًا لذلك نقلًا عن ابن خالته الأديب الأستاذ حمد القاضي أن لمسافر أثرًا عليه في حب القراءة والأدب، ولقد أثمرت جهوده في ابن الخالة العطر في حضوره وحروفه وسيرته. وقال المحامي الأديب د.محمد المشوح إنه قابل مسافرفي المطار فأهداه بعض كتبه مع أن المشوح حينها شاب في الثانوية؛ وتلك لعمركم منقبة للصالح على تواضعه، ومنقبة أخرى له بحسن فراسته وواقع المشوح خير شاهد بثلوثيته الفاخرة جدًا.

ومن بديع ما وقعت عليه في بحث عجل لضيق الوقت أن مسافرًا طبع مجموعته الشعرية الكاملة بعد أن صدرت مفرقة على دواوين قبل ثلاثين عامًا، ولم يغيّر فيها حرفًا حتى لو كانت من الأغلاط المطبعية، وغايته تربوية تعليمية تشجيعية لمعاشر الكتّاب والشعراء وأهل الإبداع عامة إذ يقول معللًا صنيعه الحكيم: “ليعلم الموهوبون الذين يحبون الشعر ويكتبون إبداعاتهم الأولى أن الشعر يبدأه المبدع بدايات غضة لينة العود، ولكنه بالقراءة وسعة الثقافة ورعاية الموهبة سيكون ذا شأن في ركب المبدعين؛ فأين بعض الكبار الذين يأنفون من ذكر البدايات، والاعتراف بالعثرات، ويتناسون عتبات الدرج الأولى؟!

كذلك فإن مسافرأستاذ في البر وحسن الصلة، فهو بار بوالده وبسيرته الطيبة الزكية، إذ كان نعم فرع لخير أصل، ومن بره حرصه على سيرة والده وأستاذه الأول، وتواصله شاكرًا مع من يكتب عن أبيه وشيخه الجليل. ومن البر لدى شاعرنا صلته الممتازة بعمه الشيخ عبدالمحسن، وعمه الشيخ عثمان الذي كان يحضر اثنينيته ويواظب عليها قدر استطاعته. ومن صنوف البر لديه روابطه العميقة بالمجمعة وعنيزة، وذكرهما الدائم في شعره، ومن أبرز ألوان البر عنده حسن تمثيل بلده بالشعر والمحافل، وإطراء الوطن شعرًا بعد توقيره وخدمته واقعًا:

وطني لِحُبِّكَ في العظامِ دبيبُ*** وبكَ الأحبةُ..والزَّمانُ يَطيبُ!

ومما سرني كثيرًا في سيرة الرجل وحياته، أنه على صمته وبعده عن المناكفات والأضواء والردود؛ إلّا أنه تعرّض لعناية علمية من خلال الرسائل الجامعية التي كتبت عنه، والدراسات التي ناقشت جوانب التميز في شعره، وفوق ذلك كتب عنه ملف في ثقافية صحيفة الجزيرة، واستضافته اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجه وكرمته، وهكذا فعلت الجمعية الصالحية بعنيزة، وكثير من الأندية الأدبية والثقافية والفكرية، والله يجعل فينا من العراقة والسمو ما يصرف التبجيل والتقدير لمن يستحقه؛ فأولئك قوم هم في الحياة زينة وبهجة، وعند الرحيل يصدق عليهم ما قاله شاعرنا راثيًا بلديه الشيخ ابن عثيمين:

بآية الحب فض الحزنُ أفئدةً **** فأوجع القلب والأكبادَ والحدقا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأحد 05 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

30 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)