ملوك وأمراء في حياة القصيبي الإدارية
الاقتراب من أبناء الأسر العريقة ورموزها يمنح الإنسان عوائد شتى؛ ذلك أن العراقة –أيًا كان مجالها– تظهر تلقائية في أهلها من خلال السلوك، والرأي، وطريقة التفكير، وأسلوب التفاعل، والموفق من حرص على الإفادة من أيّ موقف أو إنسان فيما يعود عليه بالنماء الروحي والمهاري والعلمي والمادي. وقد نجح د.غازي القصيبي في الاقتباس من مناقب الملوك والأمراء الذين قُدّر له أن يلتقي بهم مبكرًا، وجنى من ذلك فوائد –ليست مادية فقط– بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع العلم أنه لم يتعمّد الحصول على فرصة اللقيا؛ فأوائلها جاءت عرضًا، وما بعدها حدثت بحكم العمل ومقتضياته.
وحين نقلّب صفحات سيرة القصيبي الإدارية الماتعة بعنوان حياة في الإدارة، سوف نجد فيها أنه عاصر وهو في منصب رفيع عهود أربعة ملوك، وعمل معهم، لكنه كان قريبًا جدًا من ملكين، وتعامل إبان تاريخه الوظيفي مع عدد من الأمراء منهم أميران أصبحا ملكين فيما بعد. أما الوزراء فقد سبق لي كتابة مقال يصف حديث القصيبي عن زملائه الوزراء الذين سبقوه أو رافقوه أو حتى أتوا من بعده. كما كان لتجربته التعليمية ظهور لافت في سيرته؛ إذ ذكر شيئًا من خبرته النافعة للأستاذ إن في الجامعة أو في غيرها.
فأول من وردت الإشارة إليه في الكتاب هو الأمير سلطان، وكان اللقاء العابر معه في مكتبة كلية التجارة بجامعة الملك سعود، وهو لقاء غير منتظر إذ كان أبو يارا يمضي سحابة يومه في المكتبة يقرأ وليس عنده كبير عمل، فلتحيا المكتبة والقراءة دومًا، وهذه أول فائدة في تلك المصادفة، والثانية أن المكاسب قد تأتي من طرق غير محبوبة، فلم يكن خلو الأستاذ الجامعي حديث التعيين من أيّ عمل تعليمي أو إداري أمرًا محبذًا لديه، وإنما هو قدر الله يأتي به بحكمة تخفى على عبيده الذين يكرهون ويحبون، وهم عن الغيب محجوبون، وكم في الأقدار من خبايا.
وقد شاهد القصيبي الأمير سلمان –الملك فيما بعد– أول مرة في البحرين خلال زيارة الأمير الرسمية لها، بينما قدم د.غازي من صنعاء في إجازة أسرية بعد مشاركته في مفاوضات إنهاء الحرب، ومن لطائف ذلكم اللقاء الأول أن الأمير سلمان توقع فيه علنًا بأن القصيبي سيصبح وزيرًا يومًا ما، والفائدة هنا هي أن بعض الأشخاص يؤتى قدرًا من الفراسة والإصابة في التنبؤ، ومن المؤكد أن الأمير رأى في غازي مواهب مجتمعة، تجعل التفرس فيه وجيهًا؛ فغازي شاب متعلم نشيط، ونجل رجل من وكلاء الملك عبدالعزيز، وينتمي لأسرة عريقة معروفة، ولربما أن رأي الملك المعلن فيه زيادة تحفيز وتنشيط لهمّة الأستاذ الجامعي الشاب، وهو دليل على أن مسألة الترشيح للمناصب تأخذ وقتًا وجهدًا.
ثمّ جاءت أسباب الصلة الملكية إلى غازي من طرق أرادت به الشر حين تعالت الشكوى عليه بسبب نشر ديوان شعر، فأصبح اسمه معروفًا لدى الملك فيصل، وعند الأمير عبدالله –الملك لاحقًا– إذ حثّ عبدالله أخاه فيصلًا ألّا يستجيب للاعتراضات ويتجاوزها تمامًا، ويبدو لي أن حادثة الديوان الشعري صنعت مكانة للقصيبي في نفس الملك عبدالله، وصيرته أحد أهم الوزراء في آخر سنوات ولايته للعهد، وفي النصف الأول من سنوات حكمه (1423-1431).
وليس خبر الديوان هو الوحيد مع الملك فيصل الذي وافق على ترشيح القصيبي ليكون عضوًا في لجنة تسوية سلمية باليمن بحكم تخصصه في العلاقات الدولية، وبالمقابل رفض الفيصل بعض آراء القصيبي المعارضة للدراسة عن طريق الانتساب في الجامعة، وهو المقترح الذي نقله للملك مستشاره د.رشاد فرعون، ومنطلق الملك خدمة أكبر عدد من المواطنين والموظفين، ودوافع القصيبي أكاديمية صرفة، وربما أنه تشجع على إبداء هذا الرأي بعد عدة زيارات إلى قصر الملك؛ تناول فيها الطعام على مائدته، وشعر بمتعة الحديث والحوار بمشاركة الملك أو بإدارته للنقاش بكلمات قليلة قبل المائدة وفي أثنائها وبعدها.
وعندما عُرضت على الأستاذ الجامعي إدارة السكة الحديد وترْك الجامعة شاور الأمير سلطان الذي حفزه على المضي قدمًا وقبول العرض؛ بل أخبره أنها مرحلة عبور ووظيفة مؤقتة؛ لأن سكة الحديد من الأماكن الوظيفية التي اختبر فيها عدة وزراء قبل استقطابهم إلى عضوية المجلس. وفيما بعد زار الملك فيصل المنطقة الشرقية وركب القطار لأول مرة خلال حكمه، فطلب الشيخ النويصر من د.القصيبي شرح معالم الطريق للملك الصامت خلال سبع ساعات، ويبدو أن د.غازي قدر ألّا يستجيب لمقترح رئيس الديوان الملكي كي لا يكون متطفلًا على تأملات رجل الدولة الكبير؛ فالتطفل على الزعماء وخيم العواقب، وحكمة القصيبي هذه تغيب عن بعض محدثي النعمة والمناصب.
ثمّ طُلب من د.غازي إلقاء كلمة أهالي الشرقية الترحيبية بمقدم الفيصل ففعل، وكانت كلمته خلوًا من الإطراء والعبارات عديمة الحياة؛ ولذا قال له الأمير سلطان معلّقًا على نقاوة الكلمة: إنه لم ير الملك فيصل يصفق بحماسة مثل تلك الليلة! وفي رحلة القطار ذاتها تحدث المؤلف مع ولي العهد الأمير خالد –الملك فيما بعد– حديثًا طويلًا، وقد سبق أن رآه فيما مضى ضمن زيارات قصيرة، ويبدو أن هذه الجلسة التي جاءت دون تخطيط قد ربطت بين الرجلين، ومن الملاحظ أن الملك خالد أحب اثنين من وزرائه بصورة خاصة هما د.القصيبي، ود.محمد عبده يماني، وكان الرجلان من أبرز الشهود الذين حفظوا لنا مواقف الملك وطريقته وأقواله.
كما التقى الأمير فهد –الملك لاحقًا– مع القصيبي في الدمام، وتحدث معه على انفراد حديثًا ينبئ عن مسؤولية قادمة للقصيبي الذي عرفه المسؤولون من خلال برامجه التلفزيونية، ومقالاته الصحفية، وتخصصه العلمي المهم، وسبق أن رآه الأمير النافذ في الرياض خلال لقاءات سلام عابر في بعض المناسبات. وفي ذلكم اللقاء أخبره الأمير أنه يعرف ماذا يريد المواطن من حاجات أساسية، وسوف يسعى لتلبيتها، ثمّ اصطفاه الأمير ليسافر معه في رحلتين رسميتين إلى أمريكا وفرنسا وهو في منصب مدير السكة الحديد؛ وليس معتادًا اصطحاب غير كبار المسؤولين.
وبعد أن أصبح الأمير فهد وليًا للعهد ومسؤولًا عن الإدارة اليومية للبلد، عيّن د.غازي أمينًا عامًا لمجلس البترول الأعلى؛ فشكره غازي على الثقة، بيد أن جواب الملك كان أكثر وضوحًا من أيّ تلميح سابق حين قال له: هذا منصب مؤقت وهناك مهمة أكبر في انتظارك! ثمّ صرح له الملك خالد دون تلميح أو احتمال بأنه سيدخل إلى الوزارة الجديدة في صيف تلك السنة 1395=1975م، وهي الحكومة التي سميت حكومة الدكاترة.
من أخبار الكتاب أيضًا أنه تلقى عروضًا وظيفية من بعض الأمراء؛ فالأمير نايف حاول استقطابه لمنصب في وزارة الداخلية ولم يكتب له، وأراد الأمير سعود الفيصل اجتذابه لوزارة الخارجية قبل أن يصبح القصيبي وزيرًا، واقترح عليه أن يصبح سفيرًا في بلد كبير بعد إعفائه من وزارة الصحة، وفي الحالتين لم يتم الأمر، واستقطاب النابهين محمدة للإداري، ودليل على ثقته بنفسه. وأشار القصيبي إلى طريقة تعامل الأمير –الملك– سلمان مع المكاتبات بسرعة؛ إذ يركز على قراءة الثلث الثاني الذي فيه لبّ موضوع المكاتبة، ويتجاوز عبارات الإطراء التقديمية، وجمل الدعاء الختامية حفاظًا على الوقت، وحرصًا على الإنجاز.
كذلك أشاد المؤلف بمؤازرة الأمير نايف له خلال عمله وزيرًا للصحة، ومساعدته للوزير في الخلاص من أيّ موظف لا يستحق البقاء في قطاع حيوي مثل الصحة؛ فمثله لا يُستأمن على أرواح البشر. وذكر عدة قصص عن كيفية الظفر بأراضٍ تملكها وزارة الدفاع لصالح وزارة الصحة، بعد أن يستخدم القصيبي أسلوبًا هجوميًا في المطالبة لا يقوى رجل كريم مثل الأمير سلطان على رفضه. ومن بصيرة القصيبي أنه أراد تكوين مجلس جديد لشركة كهرباء الرياض حتى ينتشلها من عثراتها؛ فاستشار حاكمها التاريخي الأمير سلمان فهو بأهلها أعرف، وبتجانس الناس وقدراتهم أدرى.
وللملكين خالد وفهد ظهور كبير في سيرة القصيبي الإدارية؛ لأن عضويته الأولى بمجلس الوزراء كانت في عهدهما (1395-1404) وهي التي شملها كتابه خلافًا لعضويته الثانية (1423-1431) التي غابت أخبارها. ولذا ذكر استعانة خالد بفهد في تصريف شؤون البلاد اليومية، ووصية الملك خالد لوزرائه أن يعتنوا بالضعيف لأن القوي يعرف كيف يأخذ حقوقه. وروى عن الملك خالد مقته للمتكبر والمتملّق، وحينما سأله الملك خالد: متى تنتهي مشكلات الكهرباء؟ أجابه: بعد خمس سنوات! فقال له: هل نفهم أنك تريد البقاء وزيرًا لمدة خمس سنوات؟! وقد حظي القصيبي بعباءة ملكية من الملك خالد بعد تأخر حقائب الوزراء عن الوصول للمطار أو ضياعها، وأبى أن يعيد كاتبنا للملك بشته المستعار!
أما الملك فهد فقال عنه: لا أستطيع أن أوفي الملك فهد حقوقه عليّ، وهو الذي تعامل معي بود وأبوية، وقال لبعض مستشاريه: لو رزق غازي الصبر لكان مثاليًا. ونقل لنا أن الأمير فهد والملك فيما بعد يرفض أن يمتنع أحد من الوزراء عن التصويت أثناء التداول في مجلس الوزراء حرصًا على سماع الآراء كافة. وأخبرنا القصيبي عن قصة تكريم الملكين خالد وفهد للمهندس محمود طيبة على نزاهته وأمانته، وصنيع المهندس طيبة فيه منزلة من النقاء والإخلاص رفيعة في زمن كثر فيه الراتعون.
كذلك أبدى الأمير عبدالله –الملك لاحقًا– استغرابه من انخفاض قيمة عقود أبرمها القصيبي بعد أن فاوض الشركات، وخفّض القيمة دون تخفيض الجودة حتى قال له الأمير عبدالله: ولماذا لا يفعل غيرك من المسؤولين مثلك في مشروعاتهم؟ وحينما تعرض القصيبي لتهديدات بعد غزو الكويت، أرسل له الأمير عبدالله سيارة مصفحة، وأمر الملك فهد بتجهيز فريق حراسة له. ومن لطائف الكتاب أن الأمير سلطان التقى مع المثقفين والأدباء والأكاديميين في منزل د.القصيبي خلال أمسيات حوار متفق عليها، ولقاء السياسي مع المثقف مفيد إذا خلا من التصنّع الذي يُبتلى به بعض أرباب الكلمة.
ومن غير زعماء المملكة وردت إشارة عابرة إلى شاه إيران الذي لم يأبه لكون السفرجي في قصر الملك خالد أحد العاملين سابقًا في قصر ملك مصر فاروق، وهو ممن زف زوجته الأميرة المصرية فوزية للشاه في عرسهما الباذخ. ومنهم ملك البحرين عيسى بن حمد وولي عهده الأمير حمد بن عيسى –ملك البحرين عقب ذلك– إضافة إلى رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان، وجاء الحديث عنهم لأن القصيبي عمل سفيرًا في البحرين (1404-1412)، وحظي من الملك وولي عهده ورئيس وزرائه بمعاملة استثنائية، وأوسمة تذكارية، ووداع كبير حين مغادرته المنامة إلى لندن، علمًا أن في كتاب الوزير المرافق من أخبار زعماء العالم ما يتلذذ به القارئ.
ومما ذكره المؤلف د.غازي القصيبي في موضع مبكر من كتابه إن لم تخني الذاكرة قوله: لم يحاسبنا المسؤولون على الماضي ويعني به النشاط الفكري والثقافي لهم حين درسوا في مصر وأمريكا وبريطانيا، وهذه فضيلة نفيسة. وأضاف: لم نوجه بترسية عقد؛ وتلك حسنة إدارية لأن التدخل في عمل الوزير اليومي يبطل سلطته. وأردف أخيرًا أنه حظي بقدر كبير وربما استثنائي من ثقة القيادة به، وهذه الثقة لازمته في وزاراته الخمس التي أسندت إليه، ونالها من ثلاثة ملوك عمل معهم عن قرب، وليت أن أبا يارا وجد من الوقت ما يكفيه لسرد باقي تلك الحياة؛ فقد كانت حياة فيها الخُبر والخَبر، وذات سردية جمالية شائقة بريئة من الملل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الخميس 05 من شهرِ صفر عام 1444
الأول من شهر سبتمبر عام 2022م