خطبة العام خلال مئة عام!
ربما تكون خطبة عرفة التي تُلقى مرة واحدة على منبر مسجد نمرة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة كل سنة هي أعظم خطبة خلال العام الهجري؛ لارتباطها بوقفة عرفة أهم أركان فريضة الحج، ولأنها تكاد أن تكون متابعة من جلّ الوسائل الإعلامية في بلدان المسلمين وغيرهم، ولربما استمع إليها من الملايين عشرات أو على الأقل حظيت بشيء من اهتمامهم؛ فهي خطبة مشهودة ومثلها يُحفظ ولا يُنسى.
وقد عنيت بتتبع خطباء عرفة في العهد السعودي على هامش البحث في بعض التواريخ وعن عدد من الشخصيات، ثمّ سمعت عن أكثر من مشروع علمي لرصد خطباء عرفة عبر التاريخ منذ حجة الوداع، وعسى أن يكون في هذا الرصد أو غيره دراسة لمضمون الخطب إن توافرت نصوصها، وهو أمر يسير فيما يخصّ آخر خمسة عقود تقريبًا، وإنها لفكرة بحثية جميلة لأيّ رسالة ماجستير أو دكتوراة تختص بدراسة خطب الأعوام الخمسين الأخيرة، وتحليل نصوصها ورسائلها.
فيما كتبته سابقًا أشرت -بفضل من الله وتوفيق- إلى اسم أول خطيب لعرفة في العهد السعودي سنة (1343) وهي معلومة لم تكن منتشرة فيما قبل، ونصصت على اسم خطيب موسم حج عام (1370) وهي إضافة لم تكن في حسبان أحد. واجتهدت في تحديد خطباء أعوام تقع بين سنتي (1344-1397) إذ لم أجد مصدرًا رسميًا يؤكدها جميعًا، فاعتمدت على الرواية الشفهية لما لم أجده مكتوبًا في الصحف، وليت أن الأجهزة الحكومية المعنية تفيدنا إذا كان لديها علم؛ فبعض من سألتهم أفادوا بنفي العلم، وبعضهم لم يجيبوا من الأصل، وسألت إحدى المؤسسات الإعلامية عن الأشرطة التي سجلت الخطب القديمة عليها؛ فأخبروني بأنهم أعادوا تسجيل مواد أخرى عليها بسبب الضرورة الملجئة.
وبناء على ما كتبته وردتني أسئلة كثيرة تستفسر عن خطب للملك سعود في عرفة، وكان جوابي لمن سأل أن المحفوظ كلمات ترحيبية فقط ألقاها الملك، وليست خطبًا منبرية في مسجد نمرة، ولم أجد ما يثبت أن الملك خطب بالحجيج على المنبر، وإن ورد أنه صلى بهم صلاتي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في مسجد نمرة في ثلاثة أعوام هي: (1374 و 1378 و 1379)، ولكن لم يشر الشيخ أ.د.صالح بن حميد مؤلف كتاب “تاريخ أمة في سير أئمة” إلى أن الملك الراحل قد خطب بالناس، وإنما ذكر الصلاة فقط، ولو خطب لنصّ عليه لأهميته.
كما كرر القراء السؤال عن خطبة منسوبة للشيخ اللغوي المفسر محمد متولي الشعراوي، والراجح أنها خطبة خاصة في مخيم أو عظة لجمع من الحجاج، وليست خطبة عامة في مسجد نمرة، وخطب المخيمات أو الكلمات الوعظية فيها من المعتاد في الموسم الميمون سواء في يوم عرفة أو قبله أو بعده. وسُئلت أيضًا عن خطبة لإمام الحرم الشيخ عبدالظاهر أبو السمح عام (1365) أو حولها، فقلت: لا أدري، وسألت فيما بعد الشيخ محمد العبودي فكان جوابه مثل جوابي. ومع هذه الإجابات عن تلك الأسئلة إلّا أن المجال مفتوح لمن استطاع الإفادة أو إثبات خلافها، وسأكون من أسعد الناس بالمعلومة، ومن أسرعهم رجوعًا للصواب بإذنه تعالى.
وفي هذا العام، سيعتلي المنبر الشريف الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، وهو الخطيب الثامن في عهد الملك سلمان، والخطيب الثالث عشر في العصر السعودي منذ عام (1343)، والمتوفى من هذه القائمة أربعة خطباء ثلاثة منهم يرتبطون بعلاقة أسرية لصيقة إذ أنهم الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ وابنه الشيخ محمد وابنه الشيخ عبدالعزيز، والرابع هو الشيخ اللحيدان، والبقية أحياء أطال الله لهم العمر على طاعة وإيمان ويقين، وأمتع بهم ونفع بعلومهم ووقانا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وبذلك يكون الشيخ هو ثامن خطيب لعرفة ليس من أئمة الحرمين، وسابع خطيب في نمرة من أعضاء هيئة كبار العلماء، وثاني اثنين منهم فقدا العضوية في الهيئة ثم أعيدت لهما من جديد، وهو سادس خطيب ليس من أسرة آل الشيخ، وثالث خطيب عمل مستشارًا في الديوان الملكي، وثاني خطيب سبق أن كان عضوًا في مجلس الوزراء، وثاني خطيب رأس المجلس الأعلى للقضاء، وأول خطيب تولى أمانة رابطة العالم الإسلامي، وأول خطيب لموسم الحج بعد رفع الإجراءات الاحترازية التي أعقبت نازلة كورونا، وأول خطيب له علاقات دولية واسعة، ومتشعبة، ونشاطه العالمي موضع عناية ومتابعة لما يحمله من دلالات وإشارات واحتمالات، والله يوفقنا وإياه لصالح القول والرأي والعمل، ويعيذنا وإياه من الزلل فإن المنبر شاهد ومشهود في أيامه وفي ذاته.
ومن الأفكار الجميلة لخدمة خطبة عرفة ما سيبدأ هذا العام العمل به بترجمتها إلى عدة لغات إسلامية وعالمية، ويتوافق ذلك مع كون الخطيب شخصية متقاطعة مع حضارات عديدة، وبلدان متنوعة، ومثل هذه الترجمة توجب المزيد من الوضوح في الخطبة، والحذر مما يجلب سوء الفهم. من الأفكار الإضافية أنه قد يناسب جمع الخطب المتوافرة كلماتها في كتاب، وصناعة مقاطع مرئية منها مفردة، أو مكونة من مقطع لجميع الخطباء المحفوظة خطبهم منذ عام (1398) حتى يومنا، وهي فكرة اقترحتها فيما مضى، ورأيتها منفذة والحمدلله حتى لو لم يكن التنفيذ بناء على مقترحي لصعوبة الجزم بذلك، وربما أن ترجمة مثل هذه المقاطع أدعى لذيوعها وانتشارها بين عدد ضخم من المسلمين.
وكم أتمنى أن يضع خطيب عرفة في كل عام جهده في خطبة العام نحو بيان المعاني العظيمة لشعيرة الحج، وركن الإسلام الخامس، وأثر مكة والمشاعر والكعبة على النفوس، ومكانة النبي الذي نأخذ عنه المناسك، ووجوب توقيره والذب عنه، والتأكيد على مرجعية القرآن العزيز والسنة المطهرة، وحفظهما الرباني من التحريف والتأويل، إضافة إلى تعزيز استعلاء المؤمن بدينه ومفاهيمه، وتجلية مفاهيم الولاء والبراء، والحث على تعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وبيان مكانة المملكة وجهودها لخدمة الحجيج، مع حثهم على الانصراف عن الشعارات نحو الشعائر.
أقول ذلك لأن هذه المعاني مركزية وتلازمنا طوال العام، وإصلاح التصور بها يصلح كثيرًا من الشؤون، ويقضي على الانحراف والزيغ، هذا غير أنه في جلّ الحملات فقهاء ومفتون يعلمون الناس، إضافة إلى ما تؤديه مشكورة المؤسسات الحكومية من ناحية الإرشاد والتوجيه وإبراز الجهود، والله يتقبل من الجميع نسكهم، ويعيدهم إلى أهاليهم خيرًا مما كانوا في التصور وفي القول والعمل، ويجزي خيرًا وإحسانًا جميع من أعان الحجاج، وخدم موسم الحج.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-المزاحمية
الثلاثاء 06 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1443
05 من شهر يوليو عام 2022م
One Comment
صدرت موافقة ملكية يوم الاثنين 19 من شهر ذي القعدة عام 1445 بأن يكون خطيب عرفة لموسم حج عام 1445 هو الشيخ د.ماهر بن حمد المعيقلي إمام المسجد الحرام وخطيبه، والله يوفقه للصواب والسداد.