مواسم ومجتمع

طرف من أخبار الامتحانات!

طرف من أخبار الامتحانات!

أبناؤنا ربما لا يصدقون أن من سبقهم يهربون من الشارع إذا لمحوا أحد معلميهم وهو قادم من بعيد، ولا عجب من موقف الطالب المعاصر؛ لأنه يتواصل مع أستاذه عبر الواتساب، وربما لعب معه بواسطة أحد أجهزة اللعب عن بعد! ومما لا يصدقه الأبناء أن الطلبة ممن سلف يرابطون قبل الاختبارات بمدة ربما تصل إلى شهر، وهم حينها عكوف على كتبهم وأوراقهم استعدادًا لامتحان مهول مخيف، ولا غرابة من موقف الأجيال الحالية؛ فبعضهم يدخل لقاعة الامتحان وفي عنقه مسؤولية عن ورقة أو بضع ورقات فقط، ومثلها ليس مجلبة لهم ولا لهمم ولا لاهتمام!

أذكر فيما يخصّ الاستعداد للاختبارات أننا نحجر أنفسنا ونحجزها عن المتع -على قلتها- قبل بداية موسم الامتحانات بأربعة أسابيع أو ثلاثة، وتصبح المسابقات الكروية المحلية خلال موسم الاختبار شبه متوقفة، وأما الدولية فليست محل متابعة من قبل الكثيرين. وكانت أمي -غفر الله لها- تعمل بالتنسيق مع أبي -رحمة الله عليه- من أجل تفريغنا للدراسة والاستعداد لبدء الامتحان، ولكأننا – وكل الناس مثلنا- في معسكر صارم الإجراءات والتدابير والأنظمة.

ومن الطبيعي أن يتولى أكبر الإخوة في كل بيت إدارة هذه المرحلة إبان هذه المدة العصيبة حقًا، وله صلاحية العقاب اللفظي وربما بالعصا إن لزم الأمر. ومن طريف ما أذكره أني كنت مسؤولًا عمن هم أصغر مني من إخواني حفظهم الله، ونظرًا لمقدرة امتن الله بها عليّ تجاوزت حدود المتابعة إلى مراجعة الدروس معهم كي أتأكد من جديتهم وانكبابهم على المنهج بحرص، ومن اكتشف عنده خلاف ذلك عاقبته.

من أقسى صور العقاب التي ابتكرتها حرمان المهمل من الحصول على نصيبه من الحلوى والعصائر وأضرابهما من صنوف الطعام المحببة عند الأطفال والشباب، وربما تجاوزت الحرمان إلى أكل الجزء المخصص للمقصر لا شهوة في الطعام وإنما ليكون وقع الجزاء مريرًا عليه باليأس من استرجاع ما ذهب. وعندما عرفت والدتي-رحمها الله- بما صنعته غضبت كثيرًا، وربما أنها عوضت المتضرر، ثمّ أخبرت والدي -غفر الله له- بما كان مني، وظلا يتندران على طريقتي “التعسفية” زمنًا غير قصير دون أن ينالني منهما عقوبة.

ومما أذكره أن زارني زميل وذو جوار عقب إحدى الصلوات، وطلب مني أن نعقد حلقة تدارس ثلاثية يشاركنا فيها أخوه الأكبر الذي يزاملنا بسبب رسوبه المتكرر، ولم يكن زميلي هذا مجتهدًا في الدراسة ولا سريعًا في الفهم، فاعتذرت منه، وحين ألّح طالبًا مني الموافقة، وزاعمًا أن التعب سيكون مقسمًا على ثلاثة؛ قلت له اسمع يا فهد: أنا مسؤول عن إخواني هذا أولًا، وثانيًا سبق أن قرأت حكمة تقول: إذا درس واحد نجح واحد، وإذا درس اثنان نجح واحد فقط، أما إذا درس ثلاثة فلن ينجح أحد! وأكدت له رفضي القاطع للمذاكرة الجماعية، فذهب مغضبًا ولم أقابله بعدها.

هذا موقفي من الدراسة الجماعية؛ بينما يطرب آخرون للدراسة المشتركة، إذ أخبرني صديق أنه كان دائم المراجعة مع زميله، ولم ينقطعا إلّا في آخر سنوات المرحلة الثانوية حينما أحضر ذلكم الزميل حبوبًا منشطة فحمى الله صاحبنا منها، وقطع العلاقة كلية مع رفيقه. وقال لي أحد المشايخ الفضلاء: لا أعرف الدراسة استعدادًا للامتحانات من الصف الرابع الابتدائي إلى نهاية الجامعة إلّا في المسجد مع أصدقاء المدرسة والحلقة القرآنية.

ومن طريف ما أعلمني عنه أحد الأصدقاء أنه ذهب إلى مسجد قريب لمنزلهم وغير مجاور له كي يدرس فيه على انفراد، ولربما أنه أعجب أحد جماعة المسجد بسمته وحفظه وبشاشته، فوقف هذا الرجل الأشيب أمام صاحبنا عقب صلاة العشاء وقال له: ألا تذهب معي للبيت فعندنا لك أرنب! فلم يفهم المغزى وذهب إلى أن المعنى المراد دعوة للعشاء على لحم أرنب؛ بيد أن بسمات الرجل الداعي أوضحت له بأن المراد شيئًا آخر، ولذا اعتذر صاحبي من فوره بأنه صغير ولا يفكر بالزواج حاليًا!

أما ذكرياتي مع الامتحانات الجامعية -وما أكثر الاختبارات في كليتنا- فمن ألطفها أني دخلت اختبار المادة الثانية عن الميكروبات التي يدرسها لنا في كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود د.عاطف شبل، وهو يدرس أيضًا المادة الأولى منها. وجلس أمامي زميل أعرفه بحكم تداخلنا معًا حسبما يتيحه نظام الساعات وليس الفصول، وبعد مضي نصف الوقت نظر د.شبل إلى الطالب وقال له: ماهي المادة التي عندك؟ فكان رده بأنها المادة الأولى! فقال أستاذنا بطريقته اللذيذة: هذه قاعة المادة الثانية وليست الأولى والعجيب أنك تجيب فوق ذلك!

وعندها أخرج الطالب عجلًا إلى قاعته الخاصة بمادته الأولى عسى أن يدرك ما تبقى من زمن. وفيما يتعلق بصيغة أسئلة الاختبار لم يكن أستاذنا يؤمن -خلافًا لجلّ الأساتذة- بغير الأسئلة التي تستوجب كتابة من الطالب، ولا يحب أسئلة الاختيار المتعدد، وعلّل ذلك بأنه وضع ثلاثين سؤالًا على صيغة الخيارات المتعددة، وطلب من أحد عمال النظافة الإجابة عنها كيفما اتفق؛ فحصل على أربع وعشرين درجة من ثلاثين وهو لا يفقه كلمة مما فيها!

كما أذكر من اختبارات الجامعة أن أحد الأساتذة يوزع علينا الحلوى والعصير في لفتة لطيفة غير معتادة، واقترب مني مرة د.فاروق الفرلي وهو أحد أشهر أساتذة مادة العقاقير وسألني: كم درجتك في الامتحان النصفي؟ فقلت: ستة عشر من ثلاثين! فأبدى تعجبه لأني كما قال أفتي فتاوى حلوة! طبعًا يقصد أني أجيب عن أسئلته خلال المحاضرات إجابات موفقة. وقد سبق أن كتبت مقالة عن ثلاثة مواقف جامعية كانت سببًا في نجاحي وخلاصي من غثاثة الاختبارات، ولامني بعض المحبين على جزء مما أوردته فيها؛ بيد أنه الحق.

وفيما يرتبط بغيري أتذكر أن أحد الزملاء الأعزاء جدًا يتأخر كثيرًا عن المحاضرة الأولى لأنه يأتي للجامعة من مكان بعيد والطرق مكتظة بالزحام، وفي الامتحان النهائي وصل متأخرًا، فغضب أستاذنا د.عبدالقادر الحيدر منه وقال له كلمتين لطيفتين هما: يبدو أن التأخر صفة سائدة في أمشاجك! والثانية: لو لم تكن من بني خالد لما أذنت لك بالدخول! وطبعًا هو يمزح في الثانية فقد كان منصفًا مع الجميع.

ولأني ذكرت هذا الأستاذ المربي الحريص على الإصلاح رحمه الله؛ فلا بأس أن أشير إلى أنه في أحد الامتحانات النهائية توقف أمام طالبين من قبيلة كبيرة مهمة، وقد صنعا بشعورهما مالم يرض عنه، وظهر عليهما من التنعم الزائد ما لا يُقبل من رجال أمثالهم؛ فخاطبهما قائلًا: آخ لو رآكم فلان! وفلان هذا هو أشهر شيخ لتلك القبيلة العريقة، ويوصف بالكرم والشجاعة والرجولة الظاهرة.

أعود مجددًا إلى ذكرياتي مع الاختبارات، فمنها أني أجريت عملية جراحية مكثت على إثرها في المستشفى أسبوعًا كاملًا وأنا في الصف الثالث المتوسط، وحين خرجت يوم الجمعة ذهبت يوم السبت مباشرة لأداء الامتحانات النهائية، وتفضلت إدارة المدرسة بجعل قاعة الامتحان أرضية كي لا أتعب في استخدام الدرج، وبعد الامتحانات أصبحت الأول ليس على مدرستي فقط بل على عدة مدارس متوسطة في المنطقة التعليمية التي تشمل عدة مدن من الحدود الشمالية، وطبعًا ليس من عادة الأبناء تصديق “بطولات” آبائهم الدراسية، ويظنون -إذا أحسنوا الظن- بأنها من قبيل الحثّ والحضّ فقط، مع أن الشهادة تثبت صدق الدعوى.

ومن طريف ما مرّ بي أن والدتي -رحمها الله- طلبت مني تدريس غير واحد من الأقارب والجيران بناء على طلب من أمهاتهم، وسوف أرجئ الحديث عن تجاربي التدريسية لآخرين وأكتفي بواحد منهم درسته عدة مواد كي ينجح في امتحان الدور الثاني؛ لأنه سقط فيها جملة واحدة. وبعون من الله نجح في الرياضيات والعلوم والنحو واللغة الإنجليزية حتى مع صعوبة إفهامه؛ إذ لم يكن له جلد على الدراسة، لكنه لم ينجح في الحديث والجغرافيا والنصوص؛ فمن الصعب إجباره على الحفظ أو هدايته للفهم.

وبعد معاناتي معه كتبت له بخطي ورقة من عدة أسطر وقلت له: اقرأ هذه الورقة على جدتك، وحين رجع لي بعد أيام سألته عنها فأفادني بأن خاله الأكبر قرأ الورقة وضحك كثيرًا، ثمّ سارع لدعوة بقية إخوانه -أخوال الفتى- كي يسمعهم المكتوب، ومع الأسف أني لم أحتفظ بنسخة منها لكن معناها حاضر في ذهني، وكنت أقول مخاطبًا تلك المرأة الكبيرة الحبيبة إلى قلب أمي وقلبي: إن حفيدك لا يصلح للتعليم، والعمل أجدى له، وهو ما آمنوا به بعد سنوات، غفر الله لهم جميعًا؛ فقد مات أطراف هذه القصة بمن فيهم الفتى، ولم يبق منهم سوى الخال وراويها الذي أدى عمل المدرس.

أسأل الله أن يعين كل ممتحن ومختبر، ويوفقهم للهدى والصواب، ويعيذهم من الغش والتهاون، وأن يجعل طلبنا للعلم خالصًا مثمرًا، وألّا نكون من قوم آخر عهدهم بالقراءة والبحث والسؤال والنقاش العلمي أيام الامتحانات أو الدراسة؛ ذلك أن الدراسة النظامية مهما أفلحت في المناهج والبيئة والنظام والمعلمين ستبقى مرهونة بجدية الطلبة، وقدراتهم، ومواصلتهم التعلم وجني الفوائد، والتزامهم بالتفكير والتجريب والتطبيق، والله ينفع بالكافة سواء في البيوت التي تعلم وتربي، أو المساجد والجوامع التي تعلم وتزكي، أو المدارس والجامعات التي تعلم وتفتح الآفاق الواسعة، وهي بمجموعها ذات أثر خالد على القلب والذهن، وعلى الحياة والمستقبل المنشود.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 23 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

23 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. كلية الصيدلة مشهورة بكثرة الامتحانات وأذكر أنهم يستدعوننا يوم الخميس للامتحان
    حتى قمنا بحملة لمناهضتها ومنعها
    وأصدر العميد بعدها منعا لامتحانات الطلاب وقت الاجازة الاسبوعية.
    ود.الحيدر من ذكرياته الجميلة رحمه الله أنه كان يقول للطلاب ساعدوني بالحل في الامتحان عشان أساعدكم
    بالتصحيح ولم يكن يقصر مع مختلف الطلاب.
    وأذكر أني قلت له حينما رأيته إني خايف من المادة قال أنت ما تفكر كذا لازم تفكر بشي ثاني. رحمه الله وأجزل مثوبته.
    وأذكر أن أحد الأساتذة أحضر الطلاب في احدى الدفعات بعد صلاة التراويح في رمضان لأداء امتحان لتحسين درجاتهم المتدنية في الاختبار وكان عبارة عن ٣ درجات لكن المصيبة أن الامتحان استغرق وقتا طويلا تقريبا ٣ ساعات وكان صعبا جدا فقال أحدهم حينما سلم الورقة للدكتور ليتك مختبرنا قبل التراويح يا دكتور قال ليش قال عشان ندعي عليك فضحك الدكتور…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)