حمد العبدالله الجابر والأثر الذي يحكي!
أضرع لمولاي الرحمن الرحيم أن يغفر للشيخ الراحل حمد العبدالله الجابر ( 1355-1443) الذي توفي يوم أمس الأحد، وصلي عليه ظهر اليوم في جامع الراجحي بمدينة الرياض، ثمّ دفن في مقبرة النسيم شرق العاصمة. وأسأل الله أن يحسن العزاء لأبنائه وأسرته وآله، وأن يجعل ما أصابه في أواخر عمره من الأجر المذخور الباقي له، ومن أسباب رفعة الدرجات وإقالة العثرات.
ومع أني لا أعرف الرجل عن قرب، إلّا أني أرى آثاره، وأتلمس بعض ثماره بطريقتي في النظر للشخصيات والأحداث، وأبحث في ذلك كله عن مواطن الإشراق، ومواضع الاقتداء، ومكامن النبوغ، وأعوذ بالله من أن أكون نباشًا، أو مستقصيًا، فلست أكتب لسان ميزان، أو كتاب كمال في الرجال، أو مثلهما من كتب رواة الحديث التي يكون الجرح فيها عبادة وقربه، وهذه طريقتي الأساسية فيما أكتبه، ولن أحيد عنها.
فأول أمر أعظ به نفسي، وأفيد به قارئي، أني أعرف من ذرية الرجل المباركة ثلاثة أبناء كرام، وتختلف درجة المعرفة والقرب بيني وبينهم، بيد أني أشهد لهم بالتقوى والصلاح –أحسبهم والله حسيبهم– وبالحرص على نفع المجتمع والبلاد وأهلهما، وبحسن تمثيل أسرتهم وبلدتهم ومهنهم، وهذا التماثل بين شخصيات هؤلاء الأبناء يدل على تربية منزلية موفقة، وتوجيه نبيل راقٍ، ورعاية من الأبوين آتت أكلها الطيب بحمد الله.
أكبر هؤلاء الأنجال هو د.خالد الطبيب، والأستاذ الجامعي، والعالم بالنفس وعلاجها المعنوي والمادي، البصير بتخصصه دون أن ينخدع بنظريات غربية أو ينساق وراءها وهي تخالف نصوص الشريعة، أو تعاسر طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، أو تناقض حقيقة الإيمان والاعتقاد في الدنيا والآخرة، وموقفه هذا مما يحدث فرقًا كبيرًا في الفهم والتحليل. ومنهم الشيخ عصام المهتم بالعمل القرآني والتربوي وأعظم بالقرآن من منهج وأكرم بالتربية من عمل. والثالث هو د.نايف المتخصص بالتسويق الاجتماعي، والعامل بنشاط في القطاع التطوعي وغير الربحي، ولعله أن يكون قد سجل شيئًا من ذكريات أبيه حسبما عرفت منه فيما مضى.
أما الأمر الثاني الذي أعلمه علم اليقين عن راحلنا الغالي فهو محبته الكبيرة لعنيزة ولأهلها خاصة الذين تربطه بهم علاقة الانتساب إلى أسرة واحدة مثل آل الخويطر والنعيم، أو الذين يمتون إليه بحبل صلة من طرف الخؤولة مثل الشيخ المربي صالح بن صالح، وقد عرفت ذلك من تواصله معي شاكرًا على ما كتبته عن عنيزة وأهلها؛ إذ كان نجله د.نايف يعرف سرور والده بذلك فيقرأ عليه تلك المقالات برًا بأبيه وإدخالًا للبهجة على نفسه، ثمّ أسعدني أبو مالك ذات يوم بإجراء اتصال بيني وبين والده الجليل الذي لم يكتف بالاتصال فبعث لي رسالة رقيقة كريمة وفاءً لعنيزة وحبًا لأهلها.
وثالث أمر هو استثمار وجوده في مؤسسة حكومية مهمة مثل الديوان الملكي للربط بين المسؤولين والعلماء فيما ينفع العلم، والعمل الدعوي، وبناء المساجد، ويخدم شؤون عنيزة والمملكة عمومًا، ومن ذلك أنه كان رسولًا أمينًا بين العالم الرباني –أحسبه– الشيخ محمد بن عثيمين وبين رجل الدولة ورئيس الديوان الشيخ محمد النويصر، والدرس من ذلك أن الرجل لم يبعد نفسه عن الخدمة وبذل الجاه، ولم يخش من حساسية مرجعه العملي كما يفعل آخرون يقطعون الحبال مع كل أحد بمجرد أن يشتم الواحد منهم رائحة خبر بانتقاء قادم له أو تعيين محتمل، ويا لحسرة مَنْ تحرز وتلكأ ولم يفز بمراده أو أمنيته!
ومما لاحظته خلال مكالمات قصيرة مع الشيخ حمد أنه يملك حس اللطف والدعابة؛ ذلك أنه أعارني عددًا من المجلات الثمينة الخاصة بعنيزة، ومعها كتب ومواد أخرى، ثمّ قال لي عبر اتصال هاتفي: بعضها لك، وبعضها تعيدها لي لأنها نادرة وأنا متعلّق بها، ولو لم يكفلك أبنائي لما أعرتكها لأهميتها عندي! وقد شكرته وقرأت المجلات كاملة فألفيتها فعلًا نفيسة ومهمة، وتزداد قيمتها بانعدام أيّ نسخة إلكترونية منها.
كما أني شاهدت حول قبره كثرة الذين يثنون عليه بأبوته ووصله وحنانه، ولعمركم إن تلك المكرمات لمن الباقيات بعد الذهاب من الدنيا وفناء الأجساد. ولاحظت كذلك أن السكينة خلال الدفن قد عمت المكان خلافًا لما يصاحب أعمال دفن الموتى من لغط ورفع أصوات مع الأسف. وحين أهيل عليه التراب وقف على نواحي قبره بنوه الصالحون، وأصحابهم الذين عليهم سمات الصلاح –أحسبهم– يدعون للرجل المدرج في قبره بالثبات، والرحمة، ويعيذونه بالله من فتنة القبر وما فيه، وذلكم وربي من أعظم آثار النجاح في مسيرة الحياة، فاللهم ارحم شيخنا، وثبته، وأسبغ عليه الرحمة والضياء والنعيم والسرور.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الاثنين 06 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
07 من شهر فبراير عام 2022م