سير وأعلام عرض كتاب

آل سايح: منارات في ذاكرة الجواء

آل سايح: منارات في ذاكرة الجواء

لكل مكان ذاكرة، ومن أعبق ما تحتفظ به ذاكرة أيّ بقعة شيء من سيرة وخبر أولئك النفر الكرام الذين كانوا مشاعل علم أضاءت السماء وأنارت السبل، وبقيت أسماؤهم حية حتى وإن أدرجت الأجساد في القبور منذ أزمان متطاولة. وفي منطقة الجواء شمال غربي القصيم تبرز لنا أسماء أسر كريمة تسامت فحملت أمانة العلم والتعليم ثمّ أكملت واجب الأداء على خير وجه ممكن، حتى نجم من المنطقة علماء ووجهاء وأدباء ووزراء وفضلاء كثر، وإنما جزاء أولئك المصابيح وثوابهم عند الحميد الكريم سبحانه.

من هؤلاء الأماجد أسر عريقة لها سمة التعاقب مثل آل السايح، والمطلق أبا الخيل، والراجح، والعجلان، والعقيل، والرديني، وغيرهم رحمة الله ورضوانه للجميع. وقد صدرت عن بعضهم كتب مستقلة، وربما سُطّر شيء عنهم في المراجع المختصة بطبقات الحنابلة أو علماء نجد أو علماء مدرسة آل سليم أو غيرها، وأغلب الظنّ أن جلّهم بحاجة لخدمات بحثية خاصة حفظًا لسيرهم، ووفاء لجميل صنيعهم، وعسى أن ينهض بهذه المسؤولية بعض آلهم وطلابهم وذوي القدرة من مؤرخي الجواء وكتّابها.

وحين قرأت ما كتبه الشيخ د.صالح بن راشد بن عبدالله القريري الباحث العميق المجتهد في المخطوطات التاريخية عن إحدى هذه الأسر المباركة تجددت لدي تلك الأمنية والهاجس. وقد نشر د.القريري بحثه المختصر هذا في شهر رجب عام (1442) تحت عنوان من أعلام أسرة آل سايح بعيون الجواء، ويقع في (48) صفحة عاد فيها إلى ثمانية وعشرين مرجعًا، وترجم لعشرة أعلام من أسرة السايح الجوائية.

ومن حسنات الباحث -ضمن حسنات أخرى- أن هذه المادة تجمعت لديه عرضًا وهو يبحث فيما يخص مشروعه الكبير عن نساخ المخطوطات في بريدة؛ فلم يكتمها -وحاشاه-، ولم يؤخرها بحجة الاستكمال ومزيد البحث، وهذا من توفيق الله له؛ فكم وأد تطلّب الكمال من أعمال حتى حجبها وربما دفنها. ومن مزايا هذا البحث المختصر أنه منح المفتاح لمن شاء الإكمال، وختمها بدعوة نادى بها الباحث القادرين لمواصلة السير على هذا الدرب الصعب واللذيذ في آن واحد، ولم يفته الإشارة إلى ما دون عن الجواء في معجم القصيم للعبودي، أو عبر كتابي الوشمي والسلمان.

أول علم ورد اسمه في البحث هو الشيخ حمد بن حمود آل سايح، وظهر للباحث أنه أب وجدّ لجميع الأعلام المحصورين بعده من أسرته، وكان عالمًا ومعلمًا وكاتبًا يثق الناس بتدوينه وضبطه وخطه، وهي السمة التي استمرت مع أسرته عبر أجيال متوالية. وممن درس عليه ابنه حمود، ولربما أن الشيخ حمد كان لباقي ذريته مثل الأب الصالح الواردة قصة أحفاده في سورة الكهف، فجعل الله بركته متسلسلة نامية غير منقطعة. وتظهر بعض الوثائق أن تاريخ كتابتها من قبل الشيخ حمد يعود إلى سنة (1268) و (1287) مما يعني أن وفاته بعد هذه السنوات.

ثمّ جاء بعده الشيخ محمد بن حمد آل سايح، وهو ذو خط جميل كما يبدو من الوثائق، وقد درس في بريدة على علمائها، وبعد أن نهل من العلم قدرًا يؤهله للجلوس على كرسي التعليم عاد إلى بلدته وأناسه في الجواء للتدريس، واستثمر وقته وخطه الواضح بنسخ عدد من الكتب المحفوظة في أقسام المخطوطات بالمكتبات الشخصية أو العامة، وإن وجود ظاهرة النسخ ليدل على بيئة تحتفي بالعلم والكتاب.

ومما نُقل في سيرته العلمية أنه درس في بريدة على يدي جمع من أشياخها، ودرس معهم عند بلديه الشيخ إبراهيم العجلان، ومن المنتظر بحسب حواشي بحث القريري صدور كتاب عن سيرة الشيخ العجلان العلمية للباحث الشيخ وليد العبدالمنعم، علمًا أن حفيده ياسر بن صالح بن عبدالعزيز بن عبدالله بن إبراهيم العجلان سبق أن ألّف مشكورًا كتابًا عن سيرة جده بعنوان: الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن عجلان وذريته (1237-1307).  

ويظهر من نصوص تقييدات الشيخ محمد بن سايح ووثائقه المكتوبة في أوائل القرن الرابع عشر علو لغته وأثر طلب العلم على عباراته. وحصر الباحث له عشرين كتابًا من نسخه، وبعضها أصبحت المخطوطة الأساسية لإعادة طباعة بعض الكتب وإخراجها. كما أوقفت عليه كتب شرعية وجعل هو الناظر عليها مما يعني أنه طالب علم ذو عناية بالطلب والكتب والقراءة، وأنه كتبي ثقة يحتفظ بتلك الكنوز ولا تضيع عنده، ومن ضمن وثائق الأوقاف له ما كتبه الشيخ عبدالرحمن الراجح سنة (1304)، وبعض هذه الكتب آلت لمكتبات وقفية في مكة وبريدة بواسطة ذريته وأحفاده.

 ثمّ يأتي بعدهما الشيخ إبراهيم بن حمد السايح (توفي بين عامي 1323-1326) الذي يكتب معرفًا نفسه في نهاية الوثائق والمخطوطات “القصيمي العيوني وطنًا”، ومن الكتب المنسوخة بخطه عدة نسخ محفوظة في مكتبة الحرم، ومكتبة الشيخ الشغدلي بحائل، بل ظهر اسمه على مخطوطات عليها تملكات لعلماء خارج الجزيرة العربية في الهند أو في العراق لآل الألوسي تحديدًا؛ وكان الألوسيون يستكتبون علماء القصيم بواسطة العقيلات، ومن يدري فلربما نقلت أحبار علماء الجواء وأحباره العلم والكتب إلى عواصم أخرى غير بغداد من البلاد التي يرتادها العقيلات في الشام ومصر.

ومن هذه الأرومة الطيبة الشيخ حمود بن حمد السايح (توفي بين عامي 1328-1334) وهو الشهير بمطوع قصيباء وخطيب جامعها ومعلّم أهلها، ولمكانته العلمية أوقف أمير بريدة الأمير حسن بن مهنا عليه وعلى ذريته كتابًا، ولا ريب في أن الرجل يستحق هذه المكانة العلمية وإلّا كان بوسع أمير بريدة أن يصرف وقفه العلمي تجاه غيره من علماء بريدة أو القصيم. ويليه في قائمة علماء الأسرة الشيخ عبدالرحمن بن حمد السايح الذي نقل بعض إخوانه وثائق كتبها بيده.

أما العلم السادس وهو من رموز هذه الأسرة العلمية ومشاهيرها فهو الشيخ عبدالله بن محمد بن حمد السايح (1308-1381)، المعدود من طلاب المشايخ والعلماء من آل سليم في بريدة، وهو خطيب جامع العيون التاريخي وإمامه، والمعلّم الأكثر ذكرًا في تاريخ الجواء المعاصر سواء في الكتّاب أو في المدرسة الحكومية، وعلى يديه درس كثير من أهل المنطقة ممن واصلوا التعليم، أو الذين انقطعوا بسبب دخولهم المبكر مع آبائهم في تجارة قوافل العقيلات مثل والدي -جلله الله برحمته وأنواره- الذي ظهر عليه أثر دروس ابن سايح في ضبط الكتابة والحساب، وحسن قراءة القرآن، وهو ما وهبه بعد ذلك سلامة اللغة في لسانه، وعذوبة الحديث في بيانه -برد الله مضجعه-. ومن طلاب ابن سايح النابهين الشيخ عبدالرحمن العجلان وشقيقه الشيخ محمد، غفر الله للجميع.

ومن لفتات كتّاب ابن سايح أنه درّس الجنسين من الفتيان والفتيات، ومن المؤكد أنه لم يكن يخلطهما معًا حتى وهم أطفال صغار، بيد أن الدلالة الأعظم تشير إلى أن تعليم الفتاة ليس مرفوضًا مجتمعيًا ولا مشيخيًا لا في القديم ولا في الحديث -على الأغلب- وإنما الاختلاف في الماهية والكيفية فقط، وهو ما لا يريد كثير من المرجفين أن نعيه. وللشيخ وثائق مكتوبة، وله كتب أوقفت عليه أو تملكها وبعضها من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومن اللطيف أنه تملك كتاب تعطير الأنام في تعبير المنام للنابلسي، فاشتراه فيما بعد الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه- وأصبح من مقتنيات مكتبته الوقفية.

وقد أرسل لي الصديق البروفيسور محمد النذير رسالة صوتية ثمينة للغاية، حبيبة إلى النفس فوق الوصف؛ لأنها بصوت أبيه العم الشيخ عبدالله العثمان النذير -متعه الله بالصحة والعافية- وهو صديق أثير عند والدي-رحمه الله-، وفي الرسالة الصوتية يقول أبو عثمان: درست عند الشيخ عبدالله بن سايح في غرفة ملحقة بالمسجد، وكان درسنا عقب صلاة الظهر وعددنا يصل إلى ثلاثين طالبًا، والشيخ يلقي دروسه في التفسير والحديث من حفظه وليس من كتاب، وذكر عن ابن سايح أنه كان يعبر الرؤى. وأفاد أبو عثمان سلمه الله بأن الشيخ ابن سايح تلقى شيئًا من تعليمه في الجامع الأموي، ومن براعته أن طلب إليه أشياخه هناك البقاء عندهم؛ بيد أنه آثر القفول إلى بلدته وأهله لتعليمهم ونفعهم.

بعد ذلك سرد الباحث الخبير أخبار الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن حمد السايح، فوجدتُ وثيقة بخط يده شهد عليها جدّي سليمان الناصر الرباح عام (1331)، والجدّ توفي مع والده وبعض إخوانه في سنة الرحمة عام (1337) رحمهم الله جميعًا، وخلّف الجدّ ابنته الوحيدة جدتي لوالدي نورة بنت سليمان الناصر الرباح (1329-1397) -رحمها الله-، علمًا أن أسرة الرباح الجوائية تعود مع بني عمومتها من أسر الراضي والغانم والضبعان والفهيد إلى أسرة الحقيل من المجمعة، وإنهم جميعًا لشجرة طيبة المنبت والثمر، كريمة الخُبر والخَبر.

كذلك ذكر الشيخ القريري من ضمن علماء هذه الأسرة الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن حمد السايح الذي تولى الإمامة والتدريس في قصيباء خلفًا لعمه حمود، وذكر أيضًا الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز بن سايح الذي أشرف على بيع مخطوطات آبائه للشيخ عبدالله بن حميد أو للشيخ صالح الخريصي بناء على طلبهما وحرصهما، وهذه المخطوطات من محفوظات مكتبتي شيخي القضاء. وهو الذي نقل المخطوطات الوقفية إلى مكتبة بريدة وحسنًا فعل في البيع والنقل. وخُتمت هذه القائمة المنيرة الزكية بالشيخ سليمان بن عبدالرحمن السايح وله وثائق بخطه جريًا على نهج أسرته.

اللهم اغفر لآل سايح ولجميع الأموات المذكورين معهم، وعمّ بالرحمة والمغفرة جميع من شارك في تعليم الناس الخير، وحثهم على المعروف، وزجرهم عن المنكر. وإنه لمما يحسن بي مع نهاية المقال أن أوضح بأن جهود أسرة آل سايح العلمية لم تنقطع في خدمة الجواء وأهلها بعد ذهاب هذه الأجيال الأولى، بل واصلوا المشوار النبيل من خلال أبنائهم وبناتهم في قطاع التعليم والتربية وهذا من فضل الله عليهم، ولم تقتصر أعمالهم على هذا المجال بل لهم حضور في حقول تنموية وبلدية وغيرها، والله يديم البركة، ويعظم الأثر، ويتقبل العطاء والأداء بقبول حسن من عنده سبحانه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 20 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

23 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. ونعم الأسرة

    يظهر في احد المخطوطات سند بأسم جدي مطلق العلي أبن مطلٌق ( راعي قصيباء)
    ووالدي فهد ابن مطلٌق

    مهتم بجمع الوثائق ولدي 600 سند 300 منها تقريبا بخطر آل سايح رحمهم الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)