سياسة واقتصاد سير وأعلام عرض كتاب

إنجيلا ميركل وسحر السياسة

Print Friendly, PDF & Email

إنجيلا ميركل وسحر السياسة

اشتريت هذا الكتاب بمجرد أن رأيته، وعنوانه: انجيلا ميركل: سحر السياسة، تأليف: ماريون فان رنترغيم، نقله إلى العربية: سامي خضر، وهو من مطبوعات جروس برس ناشرون، صدرت الطبعة الأولى منه عام (2019م)، ويقع في (239) صفحة مكونة من تمهيد ومقدمة فخمسة عشر عنوانًا ثمّ كلمة شكر تتلوها قائمة بالمراجع. ومؤلف الكتاب فرنسي، ومن المعروف تاريخيًا ذلكم العداء الأزلي بين البلدين، والمنافسة، وأثرهما في قيام الاتحاد الأوروبي والحفاظ عليه، ومن لوازم العلاقة بين البلدين أن تصبح ألمانيا قبلة المرشحين للرئاسة الفرنسية، وأول دولة يزورها الرئيس المنتخب بعد تولي السلطة، ومع ذلك لم يخف الرجل انبهاره الشديد بسيدة ألمانيا.

كتب “ألاستير كامبيل” -كاتب وسياسي بريطاني- تمهيدًا ذكر فيه أن بعض الشخصيات المهمة لا تمثل عصرها فقط بل تعرفنا به، خلافًا لشخصيات تأتي وتذهب دون ترك ندبة أو أثر. ومن أمثلة تلك الشخصيات المهمة في عصرنا المستشارة الألمانية “إنجيلا ميركل” التي امتازت خدمتها للشعب بالقيم والتحكم بتعقيدات القرار على أحسن حال ممكنة. ويقول المؤرخ في مقدمته: أضافت دروس التاريخ للشعب الألماني وعيًا كاملًا بمفهوم السلطة التشاركية التي تطبقها ميركل دون حيدة؛ مما جعل بلدهم منارة في أوروبا وأملًا للعالم، وأبعدها عن صفتين مذمومتين لدى الإنجليز والفرنسيين ملخصها الانخداع بالإعلام وترهاته، وكثرة الاحتجاج على أيّ وضع معوج وعلى لوازم إصلاحه إذا بدأ تطبيقها!

كما أشار المؤلف إلى أنه أمضى عشر سنوات وهو يلاحق المستشارة دون جدوى؛ لأنها نادرًا ما تعطي وعودًا للصحفيين من أجل مقابلتها؛ فهي تقلل من ظهورها الإعلامي، وعوضًا عن ذلك تقابل المؤلف مع مستشاريها ووزرائها وأصدقائها وأعدائها وبواحدة من صديقاتها المقربات، واغتنم المؤلف معها فرصة سانحة من خمس دقائق فقط قالت له فيها: ألا تخشى من غيرة “هولاند”؟ فأجابها: لقد كُتب عنه بما فيه الكفاية!

ولدت “ميركل” عام (1954م)  وهي ابنة قس تربت على احترام قيم دينها في بلدة شرقية شيوعية يُعدُّ الانتماء الديني بحد ذاته شكلًا من أشكال المقاومة، وعاصرت في طفولتها أحداثًا سياسية كبرى مثل دخول دبابات الروس إلى بودابست، وبناء جدار برلين، واغتيال كيندي، وأمضت خمسًا وثلاثين سنة من حياتها محرومة من الحرية. ومن الطريف أن والدها القس أراد تأهيل طلاب الدين اللاهوتيين وتدريب الكهنة في الجزء الشرقي من بلاده عقب انشطارها فهاجر هجرة عكسية من الغرب، وبسبب تدينه حرمت زوجته-والدة المستشارة- من تدريس اللغة الإنجليزية في مدارس الحكومة لأنها زوجة قس.

ثمّ درست “ميركل” الفيزياء والكيمياء وحصلت على الدكتوراة سنة (1986م)، ومارست العمل السياسي بتدرج بطيء، وتزوجت مرتين لكنها احتفظت باسم زوجها الأول بعد طلاقهما، ووقع الرئيس الفرنسي “ساركوزي” بخطأ حين رحب بزوجها الثاني وناداه باسم الزوج الأول، ولم تكن المستشارة ترتاح للعمل مع هذا الفرنسي بسبب عجلته وتهوره. وبعد أن شاهدت سقوط جدار برلين في نوفمبر (1989م) عملت ناطقة باسم الحزب وحكومة القسم الشرقي التي كانت غايتها الأهم إلغاء الدولة ودمجها مع الشطر الغربي، وشهدت توقيعات صنعت التاريخ وقعها الرئيس السوفييتي وخمسة وزراء خارجية يمثلون القوى الأربع الذين احتلوا برلين عام (1945م)-موسكو وواشنطن وباريس ولندن- إضافة للوزير الألماني الغربي، والهدف من التوقيع إلغاء التقسيم المفروض بسبب الحرب العالمية الثانية.

وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر نوفمبر عام (2005م) أُعلن اسمها في البرلمان لتصبح أول امرأة مستشارة لألمانيا وأصغرهم سنًا وثاني مستشار لم يشهد الحرب العالمية الثانية، وتحققت بذلك نبوء سياسي مخضرم توقع لها عام (1999م) بلوغ هذا المنصب، ودحض فوزها جزم سلفها “شرودر” باستحالة تتويجها بالمستشارية، وبعد الإعلان رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها لا أكثر مع أنها استطاعت إقصاء منافسيها بما لديهم من تاريخ وصلابة، وواظبت على السعي للمنصب بهدوء وحكمة، وأصبحت مثالًا ناصعًا على “رجل الدولة” أكثر من رجال آخرين.

يحتوي هذا الكتاب الماتع على فوائد كثيرة، بعضها منسوب لشخصية الكتاب “ميركل”، وبعضها منسوب لغيرها أو من قول المؤلف واستنتاجه. وسوف استعرضها على قسمين ابتداءً بما قاله الكاتب أو غيره:

  1. شعبيتها متنامية وتسمى الأم “ميتي”، والمرأة الصارمة، والسيدة “لا”.
  2. التفرد بالسلطة أمر غير وارد في النظام السياسي الألماني وهو ما تصر عليه المستشارة حتى لو أغضبت زعماء العالم القوي، وترجئ الموافقة على مقترحاتهم الاقتصادية إلى حين نقاشها مع البنك المركزي والبرلمان.
  3. هي هادئة رشيدة، وتعتمد على أسس مقنعة.
  4. هي امرأة آسرة لا بأنوثة طاغية ولا بقوام فاتن، ولا تتمتع خارجيًا بالكاريزما، ولكن داخليًا لها عدة خصال تتجاوز المظهر الجيد والملابس الأنيقة والخطب الرنانة.
  5. لم تصرخ قائلة إنها قوية لكنها في الواقع كانت كذلك.
  6. عملت مع أربعة رؤساء لأمريكا ومثلهم لفرنسا واشتهر عن “شيراك” تقبيل يدها وملاطفتها مع أنه يتحفظ على المرأة في العمل السياسي. وعملت مع خمسة رؤساء وزراء بريطانيين، ولم ينافسها زمنيًا سوى “بوتين” مع فرق واضح كونه يحكم بقوة الاستبداد والغطرسة وهو ما تعارضه “ميركل” التي تتشارك مع “بوتين” بمعرفة اللغتين الألمانية والروسية، وتختلف معه في بغضها للكلاب المحبوبة عنده.
  7. جميع معاطفها متشابهة مع اختلاف اللون ولا تجد إشكالًا في ذلك.
  8. شديدة الثقة بنفسها ولا تهتم حتى بطريقة قص شعرها.
  9. تقود ألمانيا بهدوء مهيب بعيدًا عن مصاعب الإصلاح الجوهري.
  10. عالمة فيزياء وسياسية مفاوضة تجيد صنع التحالفات.
  11. إنها الربان الهادئ الأخلاقي الفعال المتواضع المتعقل الذي يحتاجه البلد.
  12. تتسلى بالكتابة وتتفوه لمرت عديدة بكلمة بحث.
  13. هي امرأة وسط الرجال، بروتستانتية وسط الكاثوليك، ولا يوجد أحد من نظرائها يعرف ما تعنيه الحرية مثلها.
  14. عرفت من خلال الديكتاتورية الصفقات القصيرة، والحلول الوسطية، واللعب على الحبلين، وفن رسم الطريق دون جعل نفسها في وسط عدائي؛ ولذا فهي مختلفة وأقوى امرأة في العالم.
  15. بعد ثمانين عامًا تقريبًا من زمن “هتلر” تعود ألمانيا الموحدة نحو قيم الانفتاح والتعددية والدفاع عن الحريات؛ حتى أضحى بلدها أمل الديمقراطية بعد أن كان مهدًا للجرائم السيئة.
  16. سياستها ارتكزت على قيم أكثر من إستراتيجية خاصة حين فتحت بلادها للمهاجرين.
  17. هي الزعيمة الأكثر ثقة في العالم حسب مراكز الأبحاث.
  18. تتمتع بانضباط مبتسم والتزام دون غطرسة وبقوة هادئة، وتكره القفز والعجلة.
  19. تزور أمها وتتسوق وحدها وتطبخ في بيتها، ولا يطلب أحد منها التقاط صورة مشتركة.
  20. موهوبة في الرياضيات واللغة الروسية والإنجليزية.
  21. مزاجها السياسي بطئ في اتخاذ القرارات.
  22. تعلمت من الرقابة الأمنية المحكمة على كل شيء الحذر والتفكير مرتين قبل أن تصيغ جملة جذابة مع تحديد ما تقوله ولمن تقوله.
  23. علمتها أمها على الارتجال، وأخذت من أبيها الروية، فهي خليط من والديها.
  24. دعاها قس إلى إلقاء محاضرة عنوانها أن تكون مسيحيًا وتمارس السياسة!
  25. في منزلها لا تنفصل السياسة عن إيمانها وتربيتها في بيت قس.
  26. لم ترغب ببناء حياتها في معارضة النظام ، ولها ملف في أمن الدولة الشرقية الديكتاتورية.
  27. تعلمت البطء من العلوم على طريقة فرضية فتجربة فنظرية.
  28. ليس لديها رأي ثابت ودائمًا تأخذ وقتها في التفكير.
  29. حين يكون القرار جاهزًا تتمسك به بحزم.
  30. حتى نفهما لابد ألّا ننسى أنها جاءت من دوائر إنجيلية تعمل داخل ديكتاتورية.
  31. تؤمن أنه في معارضة الديكتاتورية من السهل التفاهم على هدف مشترك للتخلص من الطغيان، ومن الصعب بقاء الاتحاد عقب سقوط الديكتاتورية.
  32. الهدوء هو أعظم قوة لها.
  33. لديها طريقة خاصة للتحدث مع الناس على انفراد وجعلهم يتفقون.
  34. هي معادية للأناقة وللإفراط فيها.
  35. أراد “هلموت كول” وضع امرأة شرقية في وزارة خاملة هي وزارة المرأة والشباب والرياضة فاختار “ميركل”.
  36. تؤمن بأن القاعدة الذهبية في السياسة: لا يمكن تحقيق أي شيء دون نواة من المخلصين.
  37. قوتها في أنها لا تقلق ولا تزعج ولا تجذب النظر.
  38. لا تدين إلا لنفسها وهي من تصنع نفسها.
  39. ترش الرسائل الهاتفية كثيرًا على من حولها.
  40. لا تحب الاجتماعات.
  41. ميركل ليست إيديولوجية فهي تتكيف مع الزمن دون عدوانية وهو الشرط للحفاظ على السلطة.
  42. تعتمد على قاعدة قيمها لبناء تكتيك سياسي.
  43. تتمسك بقوة بحياتها الخاصة ولا تخلط الأمور ولا تختلط مع فريقها خارج أوقات العمل.
  44. إنها مخلصة لفريقها ولا تغيرهم وتبني على مر السنين الثقة معهم.
  45. قانونها هو التحفظ أمام العالم الخارجي.
  46. تمقت الإسراف والبذخ وجنون العظمة وتكره الرفاهية ولا تحيد أبدًا عن طريق التواضع.
  47. تتكتم حول حياتها الخاصة، وتحب المشي في الجبال حيث لاوجود لشبكة الجوال.
  48. تجيد الانتقادات ولا تجذب غيرة النساء ولا شهوة الرجال، ولديها سحر بلا جاذبية، سلطة بلا منافسة، قوة قابلة للتكيف، وتمتاز بصفتي الهدوء والاستمرارية في العمل.
  49. أصبحت مرجعا أوروبيًا وأيقونة عالمية.
  50. آخر حاكمة تدافع عن القيم الغربية.
  51. قال عنها “بلير” كل شيء فيها وفي طريقة تمثيلها لألمانيا مختلف، وجلس معها قبل أن تصبح مستشارة مدة أطول من جلوسه مع المستشار “شرودر” الذي غضب من تأخر رئيس وزراء بريطانيا على موعده معه بسبب امتداد لقائه مع “ميركل”.
  52. تتصرف في القمم العالمية كما لو كانت في بيتها.
  53. هي سيدة احتفالات ماهرة وتدير التعليقات ببراعة.
  54. إذا تصاعدت النبرة في الاجتماعات تهدئ اللعبة طالبة بحكمة الانتقال لموضوع آخر.
  55. ليس لديها إستراتيجية طويلة الأمد وإنما تكتيكات اللحظة مع سيطرة كاملة على الملفات.
  56. تعرف كيف تشعر الآخرين بأهمية ألمانيا دون أن ترفع صوتها.
  57. لديها روح الفريق.
  58. لا تذهب لأي اجتماع دون أن تطلب جدول عمل في غاية الدقة ومعلومات سياسية عن المحاورين ونقاط ضعفهم.
  59. لا تثقل نفسها بعبارات التهذيب وإظهار الاهتمام الذي لا طائل من ورائه.
  60. تفضل الوصول لمبتغاها بشكل مباشر.
  61. لا تنصب نفسها فيلسوفًا على العالم.
  62. لديها فكرة عما تريده من الحوار.
  63. لا تعمل إلّا ما يجسد ألمانيا ولو أغضبت زعماء أوروبا وأمريكا.
  64. لديها فن الاهتمام بالتفاصيل.
  65. شديدة المبالغة في الدقة وفائقة التنظيم وحازمة.
  66. لها حضور يوحي بالثقة وتجسيد القيم.
  67. هي رمز للاستقرار في عالم متغير، وقطب ثبات في عالم ينهار ولها كيان يفوق فعلها.
  68. لن تتأثر بعد تركها العمل فهي تنزعج من أي تواصل رسمي خلال إجازتها، وتحتاج بشدة للراحة والالتفات لحياتها الخاصة ولأسرتها.
  69. لديها فكر منطقي وقدرة تحليلية كبيرة.
  70. تصارع حتى النهاية، ولا تستسلم، ولا تقول عن شيء ما مستحيل!

أما أقوالها الواردة في سياق الحديث عنها وهي كلمات معبرة وذات دلالة فمنها:

  • السياسة تسحرني.
  • يوجد سحر في بداية كل شيء لكن لا يدوم السحر إلا إذا كانت هناك نتائج.
  • تكمن القوة في الهدوء.
  • ليس هناك حل بسيط.
  • أنظر إلى عاقبة الأمور.
  • واصل العمل دائمًا.
  • يكمن الأمل في البطء.
  • أحتاج للوقت فالقرارات لا تأتي إلّا في اللحظة الأخيرة وأتشبث بها في نهاية الأمر.
  • ألمانيا لن تكون بخير إلّا حين تكون أوروبا في أحسن أحوالها.
  • يجعلني الإيمان أكثر تسامحًا مع نفسي ومع الآخرين.
  • الإيمان بالنسبة لي عزاء.

ويظهر في الكتاب تأكيد على اعتدال المستشارة في قضايا النساء المثارة في الغرب داخل مجتمعاتهم؛ ذلك أن المرأة قضية عالمية لها محركاتها الكثيرة الظاهرة والخفية، ولا تقبل المستشارة إلصاق لقب “النسوية” بها، ولم تكن توافق على ثلاث وصايا مخصصة للنساء مع أنها وصايا معتمدة من حزبين كبيرين في ألمانيا، وهذه الوصايا للمرأة هي: أطفال، كنيسة، مطبخ! علمًا أن أحد الحزبين هو حزبها المسيحي الديمقراطي!

كذلك تعجبت من رأي “رولاند ريغن” حينما زارته في أمريكا مع مستشارها “هلموت كول” عام (1991م) وذكر أنه يعتقد بأن عمل المرأة هو أحد أهم أسباب البطالة. وقد أحاطت المستشارة نفسها بفريق مقرب من النساء لدرجة الالتصاق في العمل فقط، وفريق آخر من الرجال؛ لأنها كانت تستهجن ما يفعله الساسة الألمان من خلال تزيين أنفسهم بعدد قليل من النساء الغائبات! وحرصت على تنمية ثقافتها حتى لا يُقال عنها ما قاله لها “ميتران” مبديًا إعجابه بآخر رئيس لألمانيا الشرقية “دي مايزيير”: أخيرًا رجل سياسي في ألمانيا لديه الثقافة! وإنما قال الفرنسي ذلك نكاية بغريمه “هلموت كول” وليس لمجرد إعجابه برئيس يتلاشى هو ودولته التي لم تزد أيامها عن مئة وثمانين يومًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 28 من شهرِ ربيع الأول عام 1443

03 من شهر نوفمبر عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. كل هذا مما يدل على عبقريه هذه المرأة وليت ان الله يهديها للدين الحق تُعجب والله بهذه الصفات التي لو وجد بعضها في احد لعد من الحكماء فكيف ان الله جمعها لهذه المرأة واجل صفات الرجل السياسي هي الهدوء والبرود وقت العاصفه وحازتهما هذه المرأة بكل جداره سيره تستحق النشر ليستفاد منها وجزيت خيرا اخي احمد على هذا التشريح للكتاب وعرضه بقلمك الانيق بلفظه ورسمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)