سير وأعلام

الرّجل الرّشيد.. أمانة وفطانة!

Print Friendly, PDF & Email

الرّجل الرّشيد.. أمانة وفطانة!

حكى الخليفة العبّاسي المتوكل -رحمه الله- موقفاً شهده فلم يغب عن ذاكرته، حيث أحزنه إقدام الخليفة الواثق -رحمه الله- على قتل أحمد بن نصر الخزاعي -رحمه الله-، ووقع في نفسه شيء من ظلم خلفاء بني العباس الذين سبقوه؛ حين امتحنوا الأمة في مسألة خلق القرآن.

وخوفاً من تغيير رأيه بما يفسد الأجواء على الطّيف الفكري المسيطر، دخل على المتوكل ثلاثة علماء، كل واحد يزعم بملء فيه أنّ قتل ابن نصر هو عين الصّواب، ولزيادة التّأكيد دعا كل رجل منهم على نفسه إن كان غاشّاً للخليفة الحالي أو السّابق، واختلفت دعواتهم ما بين الإصابة بالفالج، والحرق، والتّقطيع إرباً!

وما لبث الثّلاثة أن أصيبوا بما اختار الواحد لنفسه، وتلطخت سيرهم بهذا الموقف الكيدي المشين، وحسابهم في الآخرة عند الله العالم بالسّر وأخفى، بينما غدا ابن نصر في مقام رفيع لا ينُسى، وأصبح قتله سبَّة في عهد الواثق بل وفي تاريخ دولة بني العباس.

وإنّ إسداء الرّأي بقتل حرام فردي أو جماعي لا يصدر عن رجل رشيد حين يتلفظ به، ولا يقبله حاكم فيه بقية من خشية أو فهم، وهو رأي مستنكر -أيّاً كان قائله-، فالقتل الحرام جريمة كبرى، تجعل من يقترفها سفّاحاً سفّاكاً أثيماً -كائناً من كان-، فالبغاة -وهم بغاة- يُناقشون قبل الشّروع في قتالهم، فكيف بمن يطالب بما يراه حقّاً له بطرق سلمية؟!

وأعتقد أنّ التّخبط الذي وقع فيه عدد من السّاسة ليس إلا نتيجة لغياب الرّجل الرّشيد عن بلاط الحاكم، أو فقدانه في المنظومة الحكومية، فيحمل الزّعيم من زور الوزير أوزاراً، أو يسمع من مستشاره كلمة خاطئة؛ ثم يلتقمها دونما تفحص؛ حتى تورده الهاوية، وتلوّث تاريخه، فضلاً عن إفساد آخرته.

ومن ذلك مثلاً أنَّ عدنان خير الله-أو والده خير الله طلفاح وهو خال صدام- قال مرّة بأنّ الرّئيس صدّام حسين لا يحتاج لمستشارين؛ فهو أقدر على الفهم من غيره في جميع الشّؤون! وربما أنّ هذه الكلمة الكاذبة دفعت صدام لإسقاط طائرة عدنان وهو وزير دفاعه! كما قتلت هذه المقولة الآثمة وزير الصّحة العراقي برصاصة فموية في الحلق مباشرة؛ لأنّه اقترح تنحي صدّام عن الرّئاسة؛ تمهيداً لإيقاف الحرب مع إيران فيما يُروى!

ويقابل غياب الرجل الرشيد، صمُّ الآذان عن وعي تصريحاته، أو عمه البصائر عن التقاط تلميحاته، مما يوقع السياسي في حرج، والبلاد في ضنك، ولا أزال متعجباً كيف اجتمع في نظام واحد عقل شلقم وتهور القذافي! وربما يكون السبب سيطرة الهواجس الشّخصيّة أو الأمنية على الزّعيم؛ فلا يستمع لصوت الحكمة، بينما تستفزه جهالات الأغرار، وجرأة الدّمويين، ورؤى المسكونين بالعظمة ولو كانت زوراً وإفكاً مبيناً.

ويغلب على من يفتقد صفة الرّشد أو يزدري حامليها سمات منها الجهل بالتّاريخ، وإهمال الجغرافيا، وضحالة المعرفة، وتغليب المنافع الضّيقة على المصالح العامة، والاستعداد للتّقلب وفق الهوى السّائد، وحسب مقتضيات امتطاء الموجة العالية، وإتباع شهوات من غلب.

ومن البلوى أنّ يقترب من البلاط صداقة أو عملاً رجال غرباء عن ثقافة البلد، وبعيدون عن إرثها الروحي، ولا يشاركون أهل البلاد في توقير مكوناتها الثقافية؛ فلن ينتفع الحاكم المسلم من مساعد أو مستشار ليس على دينه، أو لا يعرف أخلاق قومه وعاداتهم، ولا يعي تاريخهم، ومكوناتهم، علماً أنَّ خطل المعين أو المشير يُحسب بطريقة أو أخرى على مَنْ قرّبه ومكنّه، وكان يستطيع إقصاءه بعد إن استبان ضرره وعواره.

ومما لا بد منه في رجالات الدولة ذوي الرشد، أن يكونوا على إدراك تام لمكونات الأمن القومي، وعلى رأسها الثّقافة، والتّاريخ، والجغرافيا، وأن تكون تصرفاتهم من باب الإدارة السياسية وليست ردود أفعال؛ وألاّ ينخدعوا بوضوح الصّورة الظّاهرة دون إحاطة بدهاليزها وخفاياها، وأن يجنّبوا أوطانهم الورطات المنهكة، والمواقف المخزية.

وفي طريقة عمر بن الخطّاب، وسبطه عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنهما- قدوة لمن أراد انتقاء الأعوان والمستشارين، وما أكمل سيرة العمرين العظيمين، وأجدرها بالتّأمل من كل حاكم وفريقه؛ وفيما مضى استعرضت كتابين عن سيرتهما القيادية في مقالة واحدة منشورة.

وللملك عبد العزيز -رحمه الله- طريقة ناجعة في التّعامل مع المستشارين، فلم يمنح ثقته الكاملة لأي مستشار غريب اضطر إليه لسبب أو آخر، وظل يتّوجس من آرائهم مالم يجد فيها محض الصّواب وخالصه، كما حصر اختصاصهم في شؤون معينة، ثم ألزمهم بارتداء الزّي المحلي؛ ليقتربوا من ثقافة أهل البلد ومشاعرهم.

وبالمقابل كان ينصت للرّجال الأفذاذ من أبناء شعبه مثل فوزان السّابق، ومحمد نصيف، وماجد بن خثيلة، ومحمد الفضل، وعبدالعزيز الصّقير، وعبداللطيف المنديل، وعبدالله السّليمان، ومحمد الشّلهوب، وغيرهم رحمهم الله، ويشاورهم، ويتيح لهم حرية الرأي، والروايات حول ذلك كثيرة متداولة.

ويبلغ هذا الأمر لدى الملك عبد العزيز مدى بعيداً من الأهمية؛ فحين توقف في بلدة نجدية صغيرة، فحص زائريه من أهلها؛ فبهره أحد رجالاتها، وآنس منه آية الرّشد والعقل، حتى أمره بالانتقال معه للرياض، وقال: هذا جوهرة في غير موضعها! وشأن الحاكم الحاذق أن يصطفي رجالاته بمهارة فائقة؛ فهم أهل العمل، وأصحاب الرأي، وكلّ دائرة سوف تتأثر بمركزها، وتؤثر فيه قطعاً.

وفيما قرأت وسمعت عن سيرة الرّئيس الأمريكي المثير للجدل هاري ترومان، الذي دخل للبيت الأبيض فجأة ذات يوم ربيعي بعد وفاة روزفلت أحد أعظم زعماء أمريكا المعاصرين، ولم يكن ترومان ذا حصيلة تعليمية جيدة-هو آخر رئيس أمريكي لا يحمل شهادة جامعية- إلا أنّه استفاد من أمرين هما ولعه بقراءة التّاريخ، وقوة المستشارين حوله، ولذلك حفلت رئاسته خلال فترتين بقرارات جريئة، وإنجازات كبرى على الصّعد العسكرية والسّياسية والاقتصادية؛ بغض النّظر عن الموقف المبدئي منها.

ويُذكر عن المرأة الحديدية -كما سمّاها الرّوس وأطربتها التّسمية- مارجريت تاتشر التي درست الكيمياء، ومارست العمل الحزبي والسّياسي، أنّها حين ترأست الوزارة البريطانية لمدة عشر سنوات، أفادت من أكثر المستشارين خبرة وحكمة، وإن لم يوجد كيمياء نفسي بينها وبينهم! وظلّ مقرها في “داوننغ ستريت” يعجُّ بدهاة الإنجليز وخبراء العلاقات الدّولية، والقانون، والاجتماع، والاقتصاد، والحرب.

إنّ وجود رجل رشيد يمتاز بالأمانة في البحث عن رأي سديد يحقق المصلحة العامة، نعمة من الله على أي بلد وحكومة ومجتمع، خلافاً لمن يقدم هواه الشّخصي، أو الفئوي، أو الفكري، ويبني رأيه على ما يتوافق معها؛ ضارباً بالمصلحة العُليا، وبالاعتبارات الأخرى، عرض الحائط.

كما أنّ فطنة الرّجل الرّشيد تجعل لديه قدراً من الحساسية التي يستشعر بها مالا يُحسن غيره ملاحظته، ويستشرف من خلال أدوات التّفكير المستقبل الآتي، فلا يشير برأي قبل تقليبه، ولا يقترح رأياً فطيراً البتة، بل يدعه حتى يختمر ويكتمل، ويستبين وجه الصّواب منه؛ وتتأكد أهمية الأناة في المسائل الحاسمة، وطويلة المدى، ومع المسؤولين الذين وهبهم الله الجسارة، والجرأة، والإقدام.

ولا يكون الرّجل رشيداً إن كان يوافق-بلا قناعة- على جميع ما يتقاطع مع هوى الزّعيم ولا يخالفه أبداً، وبعيد عن الرّشد كلَّ البعد من لا يعرف إلا التّملق وكيل المديح الباطل، ولا يعني هذا التّرحيب بالمخالفة الهوجاء، أو بالمعارضة دون سبب وجيه؛ ووصف صاحبها بالرّشاد لمجرد تعمّد الاختلاف.

وإنّما يكون الرّشاد بأن يقول الإنسان رأيه الذي يعتقده بأدب، وحسن عرض، وحكمة في اختيار الزّمان، والمكان، والحال، وحينها لا تثريب عليه ولا ملامة سواءً وافق رئيسه أم خالفه، وإن أصاب أو أخطأ، ولأجل مثل هذا الموقف النّبيل الصّادق؛ يرتفع أناس فعلوه، ويهوي آخرون تركوه؛ ومكمن السّر في أنوار الرّشد، أو ظلمات الغي!

ولأهمية الرّجل الرّشيد، تمنّى نبي الله لوط -عليه السّلام- وجوده في قومه؛ ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: “وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ”، وأخبر مؤمن آل فرعون قومه أنّه يدّلهم على الطّريق الصّحيح خلافاً لأمر فرعون، الذي وصفه القرآن بقوله سبحانه: “وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشيد”، أي ليس فيه رشد ولا هدى، وإنّما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، حتى وإن زعم فرعون خلاف ذلك بقوله: “وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”.

ويوفق الله بعض الزّعماء للنّجاة من آراء نشاز تصدر ممن حولهم إمّا تملقاً، أو سوء تقدير، أو لمآرب خاصة، وفي تصّرف النّجاشي -رضي الله عنه- مع بطاركته الغششة عبرة، حيث حماه الله من فساد رأيهم، ومن خيانتهم له بسبب الرّشوة والهدايا التي أخذوها من موفدي قريش.

وقد كان الملك فهد -رحمه الله- حصيفاً حين أوصد الباب أمام من أتاه معترضاً على برنامج حفل رعاه الملك بنفسه، ومن الآيات التي تليت فيه قوله تعالى: ” إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها…” الآية، فقال الملك لمن تصنّع الغيرة على مقامه: هذه آية قرآنية، وردت على لسان الملكة بلقيس حين كانت كافرة، وقالتها عن نبي الله سليمان-عليه السّلام- وكان نبياً ملكاً، ولم يخطئ القارئ، وإنّما المذنب من فهم أنّي مقصود بها! وياله من حجر ضخم ملتهب ألقمه الفهد في أفواه الطّامعين المصطادين!

ومن القصص السّامية عن رشد الرّجال المحيطين بالزّعماء الكبار، أنّ الملك عبد العزيز-رحمه الله- استشار كبير عتيبة، وعقاب نجد، الشّيخ محمد بن هندي بن حميد -رحمه الله- عن الخطوة التّالية بعد معركة روضة مهنا الفاصلة عام 1324؛ كي يقرر ما سيفعله.

ولم يستفز النّصر المبين محمد بن هندي، فأشار على الملك المهيب بأمور ثلاثة، كما رواها الأمير سعود بن هذلول-رحمه الله- في لقاء تلفزيوني قديم مع د.عبدالرحمن الشّبيلي:

أولها: إرجاء أمر حائل؛ لأن الخلاف سيدّب بين ورثة الجنازة-رحمه الله-، وحينها يسهل أمرهم.

ثانيها: ترحيل حكّام بريدة إلى الرّياض، وإبعادهم عن القصيم.

ثالثها: إجلاء الحاميات التّركية عن نجد.

ولأنَّ الملك رجل بصير خبير يميز بين الرّأي الصّائب والرّأي المدخول، فقد أخذ أخو نورة بكل ما قاله أخو نوضا، وكانت الفائدة في ذلك حالاً ومآلاً، إذ تلاشت قوة إمارة حائل بالمؤامرات والاغتيالات حتى آلت للسّقوط، وأُسكن أمراء بريدة في قصور الرّياض حتى سكنوا، ورفض الملك أي مساومة من القائد الترّكي على البقاء في نجد؛ قاطعاً عليه الطّريق لمضايقته في بلاده، وأخرجهم منها بدهائه دون قتال.

ومن سعادة أي بلد، كثرة رجال الدّولة المخلصين فيها، واتصاف كل واحد منهم بأنّه رجل رشيد، يتحرى السّداد في قوله، والصّواب في فعله، والرّشد في رأيه، حتى يكون نعم المعين في الرّخاء والشّدة، وممن عضّوا بالنّواجذ على مصالح بلادهم، وأركانها ومكوناتها، وما يجلب لها القوة، والنّماء، والتّماسك، وليسوا ممن لا يأبه واحدهم بالنّتائج والعواقب؛ لسهولة التنّصل منها، أو لأغراض خاصة، أو لنقص الخبرة والفهم.

وللتّاريخ عين باصرة ترى، وأذن واعية تنقل، وذاكرة حافظة تسجّل، وكل رواية ستبقى ولن تطمس، ولا مناص من أن تفّسر وتعلل، ويُستجلى ما وراءها، إذ الدّراية ستتبع الرّواية لتضع عليها بصمتها، ومن المنن الإلهية على المرء أن يكون من أهل الرّأي الحاذقين، وأصحاب الإنجاز التّاريخيين، فيجعل الله له لسان صدق في الآخرين؛ فضلاً عمّا يجده في صحيفته يوم تنشر الصّحف، وتوضع الموازين.

أحمد بنعبدالمحسن العسَّاف الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 02 منشهرِربيع الأولعام 1439

20 منشهرنوفمبرعام 2017م

Please follow and like us:

4 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)