سير وأعلام

عبدالكريم الجهيمان: السادن المنير

عبدالكريم الجهيمان: السادن المنير

من طبيعة حياة الإنسان الممتدة أن تكون ذات مراحل متباينة، ومن الظلم قصر المرء على مرحلة واحدة دون غيرها، وهذا أمر مسلّم به نظريًا، وغائب عن بعض التطبيقات العملية التي تدمغ الناس بناء على حقبة أو موقف أو كلمة ربما مضى عليها سنون وعقود، وحدث بعدها مزيد نضج مع مزيج خبرات صيرت صاحب الشأن في موضع جديد صبغ بقية حياته وجلّ أعماله، وأضحى هذا التوازن البديع منقبة يجبُّ ما قبله.

وشخصيتنا النبيلة مثال على ذلك، فقد نشأ الشيخ الأديب عبدالكريم بن عبدالعزيز بن صالح الجهيمان (1332-1433) في قريتيه بالقراين من إقليم الوشم بين أبوين طليقين، ومع ذلك كان طفلًا جريئًا مقبلًا على الحياة بطولها وعرضها، حريصًا على السماع والمشاركات التي لا تخلو من مجازفة مثلها يغتفر لأنها من عبث الأطفال. وفي شبابه الأول حفظه الله بتدين صارم، بينما تحوّل في شبابه الثاني ومستهل رجولته نحو انفتاح يميل إلى الانضباط مع تدين عام ملتزم بالقواعد والأصول.

ثمّ التفت في رجولته التامة إلى الشأن العام ومصالح الناس والوطن، وظهر في مراحله الآنفة شيء من الاندفاع والصراحة والإقدام؛ ليستقر به المقام أخيرًا في حالٍ فريدة من التوازن والتصالح والهدوء الإيجابي تحت ظلال الشريعة، ولأجل تحقيق مصالح المواطن والوطن، وخدمة الثقافة والأدب والتراث، منطلقًا من تكوينه العلمي الراسخ، ومستمدًا من مكتبته وذاكرته وتجاربه ومشاهداته، ومستثمرًا آلاء الله ونعمائه عليه في حضره وسفره، وفي مكتوبه ومقوله، وفي الخلوة والجلوة.

هذا هو شيخنا الكبير كما بدا لي بعد قراءة ثلاثة كتب عن سيرته ورحلاته من تأليفه هي: “مذكرات وذكريات من حياتي” و “ذكريات باريس” و ” دورة مع الشمس”، ثمّ قراءة الكتاب الذي جمعه الأستاذ الأديب المؤرخ لصحافتنا المحلية محمد القشعمي بعنوان “سادن الأساطير والأمثال”، إضافة إلى مراجعة أغلب ما وجدته من مقالات منشورة حوله، والاستماع لمحاضرات وندوات وبرامج تحكي عنه، مثل برنامج “الراحل” الذي يعده ويقدمه الأستاذ محمد الخميسي، وندوة مركز الشيخ حمد الجاسر التي أدارها القشعمي، وغيرها.

كما يمكن وضع إطار لحياة الشيخ عبدالكريم الجهيمان، ضلعه الأول التعليم، والثاني الصحافة، والثالث التأليف، والرابع العمل الخيري والأسري. فقد نال الرجل حظًا من التعليم اليسير ولم يقنع بالوقوف عنده فسافر لإكمال تعليمه حتى لو فقد فرص العمل والاكتساب، ولم يحصر موارده العلمية على المناهج الدراسية بل قرأ من تلقاء نفسه، واستمع لوالديه ولعجائز بلده واستنطق كلّ ذي فائدة محتملة، وليس بعجيب أن يصبح فيما بعد سادنًا لتراثنا الشعبي المسموع وأحد أبرز حماته من الاندثار.

وعقب تأهله مارس التعليم العام والخاص في مدارس حكومية، أو في مدرسة الوزير ابن سليمان بالخرج، وفي مدارس لأبناء الأسرة الحاكمة، ومع أن تجاربه في تدريس الأمراء قصيرة إلّا أنها فتحت عينيه ومداركه، وساقته فيما بعد إلى رحلات دولية مبكرة، وعناية بشؤون الناس لافتة. ثمّ عمل في وزارة المعارف، وساهم في تأليف مناهج لمعهد مكي درّس فيه، وكانت له في مسيرته معلّمًا أخبار ومواقف تؤكد استقلاليته وجرأته ووضوح أهدافه، وإن خصاله الخطيرة هذه لتهون عنده إذا قادت لمنفعة عظيمة منحصرة في تعليم الأجيال ومدافعة ظلام الجهل.

أما في مجال الصحافة ورفع الوعي، فله حضور باذخ في تاريخ صحافتنا المحلية، فهو أول من أنشأ صحيفة في المنطقة الشرقية ورأس تحريرها يوم أن صدرت باسم “أخبار الظهران”، وله مشاركات كتابية في مجلات وصحف مثل اليمامة والقصيم والجزيرة، بل أدار بعضها دون أن يستعلن ذلك للجمهور. وعنده مشاركات أساسية في إصدار مجلة “المعرفة” التابعة لوزارة المعارف، ومجلة “المال والاقتصاد” عندما انتقل للعمل في وزارة المالية. وظلّ الكاتب الأديب يحمل قلمه بين يديه، ويعمل فكره ويدير ذهنه في مجالات رحيبة إلى أن غفت جفونه للأبد الدنيوي، ولا ريب أن يفعل ذلك وهو الذي سعى لإنارة العقول، وإيجاد الوعي أو بعثه بعد زمن من الركود؛ فالوعي قاعدة لأيّ إحسان وتحسين.

وقد جلبت عليه الكتابة التي يعشقها متاعب مزعجة، وحرمته من رحلة دولية على حساب الحكومة حين كتب عن وزارة الزراعة بأنها لا تعمل ونصح وزيرها بالاستقالة، وقبل ذلك قيّدت حريته مدة أسبوع كامل على إثر كتاب أرسله للملك عبدالعزيز فيه بعض الملاحظات على أحد مسؤولي التعليم. وأصبح عموده المعتدل والمائل مائلًا كله كما أخبره الملك سعود. وعندما نشر مقالة تدعو إلى تعليم الفتيات أوقف في محبس لواحد وعشرين يومًا ومنعت صحيفته من الصدور، والذي يتراءى لي أن مقالة تعليم الفتاة كانت هي القشة التي قصمت ظهر بعير طالما حمل كتابات صريحة مفتوحة مرسلة إلى مسؤولين بأسمائهم أو بأوصافهم، فضلًا عن مناداة لم تنقطع بحرية الرأي والصحافة التي تضمن سلامة المجتمع، وسلاسة الإجراءات، وتريح النفوس، وتقضي على التشنج ودواعي الفتن.

بعد الصحافة وعوالمها جمع الجهيمان كثيرًا من إنتاجه المكتوب عبر مقالات سياسية واجتماعية وتنموية في كتب مطبوعة تسأل أين الطريق، وتعبّر عن آراء فرد من الشعب، وفيها دخان ولهب، ومنها أحداث استوجبت أحاديث، ورسائل ذات تاريخ، وذكريات ومذكرات، ورحلات ومسامرات، وأشعار خفق بها القلب، وقصص أطفال لأعز الخلق، وختمها بدرة تآليفه، وأغزر كتبه وأشهرها، وهما معلمتان ضخمتان الأولى عن الأساطير الشعبية في الجزيرة العربية، والثانية عن الأمثال الشعبية فيها، وصدرا بعد حدب ربع قرن أو أزيد في خمسة عشر مجلدًا. وترجمت بعض الأساطير إلى اللغة الروسية، وأصبح الكتابان مادة للدراسات والأبحاث، وهذه يد للأديب الجهيمان على ثقافتنا المحلية المحكية والمسموعة، ولو لم يكن له سواها لكفته مجدًا وخلودًا؛ إذ حال دون عبث الرياح العاتية بها، وحفظ لنا جزءًا عزيزًا من تاريخنا الاجتماعي، ولو أنه نشر رحلاته حال تدوينها لكان تأثيرها أقوى، وانتشارها أسرع، ولفازت بمتعتي الإثارة والاندهاش.

ولأديبنا وكاتبنا جهود خيرية من الأموال التي جناها من بيع كتبه؛ ذلك أن تجارته ليست في دروب الدنيا، ولا ريب أن إحسانه أشمل مما عرف عنه من تبرعات، وعند الله المثوبة والأجر. فمن تبرعاته المشهورة ما صرفه لبناء مدارس، وتأسيس مراكز اجتماعية، وإنشاء جمعيات خيرية، والله يتقبل منه ويضاعف حسناته. وأما في بيته وبرنامج حياته الخاصة فهو المعلم لزوجه والمعلم والمربي لبنيه وبناته، القريب من أحفاده، يقرأ لهم ويقرؤون له، ويأنس بهم ويهشّ لهم، وهم يسعدون به وبمقدمه وبحلو حديثه المستطاب. ولم يسلم من الابتلاء بفقد البنين إذ جمع سهيلًا مع الثريا فإذا بهما لا يجتمعان فاكتفى بسهيل تاركًا شأن الثريا لآخرين بعد أن أبان لهم المدار.

ويضاف لبرنامجه اليومي المشي الطويل، والسباحة المستمرة، والغذاء الصحي، وهذا بعد فضل الله مكنّه من قضاء بقية عمره المديد مشاركًا في أبواب الثقافة قدر استطاعته، عاكفًا على المصحف ودواوين السنة والسيرة؛ سائلًا مولاه حسن الختام وكريم اللقاء، فاتحًا بابه للزوار في وقت معلوم، وإن المجالس العامرة لمنابع علم، وتربية، ووعي، وسبب انشراح وبهجة؛ خصوصًا حين تكون منتدى يجمع الشيوخ مع الشباب، والمثقفين والعامة، تحت سقف واحد لرجل أحسن إنزال الناس في مواضعهم، وأجاد التعاطي مع كلّ أحد بما ينفعه دون ممارسة التعالي أو التشدق بأستاذية أو خنق الآخرين بنرجسية بغيضة.

ولا يمكن استكمال الحديث عن سيرة الجهيمان دون التعريج على علاقاته الوثيقة بطيف كبير من الناس على اختلاف أعمارهم ومناطقهم ومنازع اهتمامهم. ومن لطيف علاقاته أن بعضها ابتدأ بخصام ثمّ آل إلى وداد مثل خبره مع الشاعر حسين سرحان، والأديب عبدالله عبدالجبار، والوزير محمد عمر توفيق. ومن أعلاها سموًا أن صداقته مع العلامة الشيخ حمد الجاسر استمرت ثلاثة أرباع قرن فلم يكدّر صفوها سجالهما العلمي الساخن عبر الصحف. ويستبين لنا من علاقاته الواسعة براءته من المناطقية، والفئوية، وانزواؤه عن التصدر وتسيّد المجالس والمنصات، وأنه لم يعهد عنه الحج إلى حيث تؤكل الكتف وتنال الأعطيات.

ومن أوثقها صداقته المتينة مع الكاتب الأديب عابد خزندار التي بدأت من جوارهما مدة عامين في سجن ناجم عن سوء ظنّ ثبت خطؤه فيما بعد، وإنما طالت مدة بقائهما لتشابك الأمور، ولأن الصغار يخشون من نقل الحقائق للكبار كما يقول أبو سهيل. وإذا تجاوزنا أبناء جيله ففي غيرهم من أعمار بنيه وأحفاده أسماء كثيرة مثل محمد القشعمي، وناصر الحميدي، وعبدالله حسين، ومحمد السيف، وغيرهم، ولذا فليس بغريب أن يُحتفى بالشيخ في حياته في مهرجان الجنادرية، وإثنينية عبدالمقصود خوجه، ومركز ابن صالح، وصحيفة الجزيرة.

لأبي سهيل كلمات جوامع تعبر عن آرائه وثوابته، فهو ملتزم بالمرجعية الشرعية ووقاف عند ما يناسب بيئتنا المحلية دون جمود ولا انهزامية، ويسعى لرفد ثقافة الطفل بمؤلفات من رحم حضارتنا، وإن خطاب الأطفال من هذا المبدأ لمنهج ضعيف مع الأسف والضرورة له قائمة تتعاظم. وهو يكره السياسة الاستعمارية وجرائم الإبادة؛ ولذا فمع انبهاره بالدول التي زارها لم يغمض عينيه عن تاريخهم في الإجرام، ولم يغمطهم حقوقهم فيما أصابوه من مدنية، وهذا التوازن في الرأي والنظر مطلب أساسي يمنع الحيدة ويخفف من حدّة الانبهار.

وعندما حرم بسبب أحد مقالاته من رحلة دولية طويلة خشي أن يمنع من الكتابة التي اختلط حبها بلحمه ودمه وفكره. كما وصف نفسه بأنه خيالي يحب الانطلاق من القيود، ويأنس بالتجريب والاندهاش، وأفاد من القراءة أكثر من الدراسة، لذلك يستغرب ممن لا يجد لذة الحياة مع الكتاب. ومع ما امتاز به من وضوح، ومباشرة، ونية صادقة، وتاريخ صحفي عريق؛ إلّا أنه يحذر من تصديق وسائل الإعلام لما فيها من تدليس وحجب للحقائق. ومن لفتاته قوله إن الذباب من أشد أعداء البشرية ومن أكثر الحشرات ضررًا وفتكًا.

خلاصة القول لم يكن الجهيمان ليبراليًا ولا تنويريًا بمعانيهما المصادمة لشريعة رب الأرض والسماء، فهذا إجحاف بحقّ الراحل ومسيرته، ولا يمنع هذا من أن يكون أستاذنا أحد دعاة الحرية، وحاملًا لمشاعل الإنارة، ومدافعًا عن كرامة الإنسان، مع الاعتزاز بدينه وعروبته ووطنه، فالتوسط وفق سنن الهدى خير كله، وهذه المعاني الباسقة من مقاصد الشريعة وشيم العرب ومرتكزات الأوطان.

وبالجملة فليس من الحسن محاولة استخدام الرموز لتلميع فكرة أو طريقة؛ فكلّ أحد يؤخذ من قوله ويرد، ولم يخل تاريخ إنسان برز للمجال العام من رأي فيه جنوح أو حتى شطط ينغمر في محيط من الصواب والإجادة، أو يلتغي بنقضه والرجوع عنه؛ بيد أن بني آدم يحبون حيازة الثمين لمساحتهم، والانفراد بالغالي النفيس في محيطهم؛ فجامع الأساطير غدا حقيقة ناصعة تشبه الأسطورة، وجامع الأمثال أمسى خير مثال على سمو المجتمع الذي نذر شخص واحد منه نفسه لسدانة تراثنا والارتقاء بأجيالنا، فلا ريب أن يتسابق إليه أجناس الناس بالوصل الأصيل فما دونه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 15 من شهرِ صفر عام 1443

22 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)