عاطر الأثر عن الشيخ بكر!
دخلت إلى مكتبتي لتنظيمها، فلفتت نظري كتب الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد آل غيهب (1365-1429)، ومنها فقه النوازل في شؤون طبية واقتصادية وغيرها، والإبطال للتحذير من خلط دين الإسلام بغيره من الملل والنحل، وكتاب تصنيف الناس الذي استعرت لظاه حتى أصبح التصنيف على لسان من لا يعلم قبل من يعلم، ويقابله رأيه في الانتماء حتى تتوازن المسألة. ومن ضمن كتبه كتاب عن التعالم، وآخر يصف حلية طالب العلم، مع تحذيره عبر أبحاثه من العبث بالكتب خاصة التراثية والقديمة، ووضعه لأسس الردود والمحاجة.
من قائمة مؤلفاته أيضًا كتاب تصحيح الدعاء في زمن الاعتداء والتجاوز، وخصائص جزيرة العرب مع أحكامها الشرعية، وحراسة فضيلة الرجل والمرأة الذي لامست أعداد نسخه المطبوعة مئات الآلاف. وكتاب المدارس العالمية الذي ينبه لخطورة العبث بالتعليم، والانتصار للغة العربية، والنظائر ذات الفرائد الملتقطة بيد خبير نحرير إضافة لكتب حول الألفاظ والأسماء؛ فسبحان من ألهمه الإبداع والسبق، وأزال عنه الحُجب التي تصِم المبتلى بها بالغفلة.
وقد لا أكون بحاجة إلى إخباركم أن مهمة تهيئة المكتبة تلاشت وأنا أقلّب بيديّ شيئًا من تراث هذا العالم الذي سعدنا بخبر يشير إلى جمع مؤلفاته في موسوعة واحدة أسوة بما فعل هو وفريقه العلمي المتميز مع ميراث أئمة سبقوه مثل ابن تيمية وابن القيم والمعلمي والشنقيطي -رحم الله الجميع-، وعسى أن يكون ذلك قريبًا؛ فالحاجة ليست قائمة فقط لعلومه المرتبطة بالنص، الملتزمة بعقيدة السلف، المؤداة بلغة فصيحة رفيعة، ونفس اعتزاز وتسليم، وغيرة بادية متوازنة، بل هي ضرورية جدًا، هذا غير ما سيلحقه ووالديه وأشياخه والقائمين على هذا العمل من أجر منتظر من العليم الوهاب. ومع تشوقنا لمشروع الجمع وإعادة الطباعة ففي النفس حسرة على أعماله العلمية التي لم تظهر ولا ندري هل اكتملت أم حال المرض فالموت دونها.
اشتهر الشيخ بكر بأنه فطن طبن، غزير العلم بالشريعة واللغة والأدب والتاريخ، ذو بصيرة بمجريات الحاضر التي تعنيه وإن لم ينغمس فيها. بينما انفرد عن معاصريه بعلوم وأشياخ كالمواقيت والأنساب والمناظرة والجدل وملازمة الشيخ العلامة الشنقيطي صاحب أضواء البيان. وفتح الله عليه بمؤلفات كثيرة في فنون عديدة منها ما لا يقرأه إلّا العلماء وأهل الاختصاص، وفيها العام لكل أحد، ولا تخلو من كتب تبهر الناشئة ولا يستغني عنها المتقدمون، ولبعض كتبه حضور لافت مثل “حلية طالب العلم” الذي شرحه الشيخ ابن عثيمين مع أنه أكبر سنًا من الشيخ بكر، وأقدم منه في الظهور على الساحة العلمية.
وللشيخ مواقف علمية وعملية جديرة بأن تذاع، منها أنه ينصح موظفيه في وزارة العدل بأن لا يدققوا فيما يرد إليهم من رسائل ومخاطبات لأن الكتاب أو الخطاب إن فُهم مراده فيكفي، هذا مع أنه إمام في الفصاحة والجزالة. وله مشاركة سنوية في تفطير رمضان لم يقطعها حتى بعد تكفل مؤسسات خيرية بالتفطير كاملًا، ويهدي الكتب لمن يستحقها ولا يسلمها بنفسه دفعًا للمنة، ويقول عن كتبه المطبوعة من مؤسسات رسمية هي مبذولة من غيرنا نفيًا للفضل عن نفسه وهو يهديها لطلبة العلم.
وأرسل مرة لأحد خاصته نسخًا من كتابه المملوء غيرة على محارم الله وأنفة وتيقظًا “حراسة الفضيلة” حينما فهم منه رغبة بالكتاب، وقال لمن أثنى على الكتاب وانتشار توزيعه: استفدت من أوراق وأشياء جمعها بعض الأغيار، وهو يقلّل بذلك من صنيعه حتى لا يداخله عجب. وحين استنقص إنسان أمامه رجلًا يحافظ على الصلاة والصف الأول تغيّر وجه الشيخ وقال ذابًا عنه: المحافظة على الصلاة ولزوم الصف الأول أمر صعب ودليل خير إن شاء الله. وأذكر أن مديري استنكر عليّ القراءة في أوقات الفراغ من العمل، فاتصلت بالشيخ بكر على هاتف مكتبه واستفتيته والمدير يسمع؛ فأجابني بقوله: إذا أنهيت العمل، وليس لديك شيء تفعله، فالقراءة الخاصة لا شيء فيها، فسكت الرجل الذي لم يكن يهمه العمل وإنما يغيظه أن أقرأ!
ويظهِر الشيخ إعجابه بمدارك المغاربة، ومن يقرأ له سيقع كثيرًا على نصوص لشيخ تونس محمد الخضر حسين، ولشيخ الجزائر محمد البشير الإبراهيمي، وفي مسرد مشايخه العالم الموريتاني البارز محمد الأمين الشنقيطي. وله إعجاب آخر إذ قال لبعض محاوريه عبارة مؤداها أنه يعجبه النجدي الذي عاش في الحجاز؛ فيتكون من ذلك خلطة جميلة من الأدب واللطف والنبل والمروءة. وزاره في منزله أشياخ وقضاة فجرى معه الحديث حول لفظة “الدِّين”، فأخبرهم أنه قرأ بحثًا عميقًا عنها لأحد المفكرين المصريين المشهورين وأحالهم عليه، وفي آخر الجلسة استدرك على نفسه وقال لهم بل هي مقالة في كتاب أباطيل وأسمار لمحمود شاكر.
كما أن للشيخ بُعد نظر وفهم دقيق، من ذلك أنه نصح أحد مشايخ البلد الكبار بالامتناع عن الظهور في برامج إفتاء مباشرة؛ خشية من الإجابة المختصرة، أو سوء تأويل الجواب، أو العبث الفني بالمقطع، أو غموض السؤال ومكر السائل. ومنها أنه حين انتقل إلى بيته الجديد، وعلم أن المنطقة التي يسكنها صارت مقصدًا لكثير من الناس ذوي الوجاهة، خشي على وقته أن يضيع في التزاور والمناسبات، فهو من أحفظ أهل عصرنا لأوقاتهم. ومن خصائص الشيخ الفريدة نفرته من الفتوى، وإقباله على سؤالات المباحثة والنقاش العلمي. وإن حبه للعلم جعله يجزم بأن أعظم عمل علمي قامت به المملكة هو طباعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدًا. ومن تقديره للعلم وفاؤه لأشياخه كابن باز والألباني والشنقيطي سواء بالحديث المبجل أو الكتابة ونية التأليف عنهم، وكذلك مساعدته لمشايخ آخرين بتفريج كربة، أو شفاعة، أو شراء منزل.
أما كلماته المنثورة بين سطور كتبه فهي جديرة بأن تُلتقط ويعاد نشرها، فللشيخ المسدد كلمات مثل الدرر تغني عن قول كثير، وتختصر مقالات مسهبة، ذلك أن هذا الرجل المبارك قرأ كثيرًا كثيرًا، وباحث غيره كثيرًا كثيرًا مفيدًا ومستفيدًا، ولم يشغل نفسه بغير العلم والقراءة وما إليهما من تدبر وتفكر ونظر وفق منهج علمي رشيد بعيد عن الجنوح أو الشطط، ولعلّ هذه الفكرة هي التي يقوم عليها موقع الشيخ بكر على تويتر الذي يديره الشيخ د.علي العمران أحد أبرز العاملين مع الشيخ الراحل في مشروعاته العلمية الضخمة.
رحم الله شيخنا العَلَم الذي اختاره الله إلى جواره يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر الله المحرم عام (1429)، وكانت الصلاة عليه في المسجد المجاور لمنزله عقب صلاة العشاء دون تأخير، وتقدّم لإمامة المصلين على جنازته زوج ابنته، وأما الدفن ففي مقابر الدرعية التي ضمت جمعًا من العلماء والمصلحين. ومع أنه ارتحل عن عالمنا إلّا أن لسان الصدق له باقٍ وسيزداد في قابل الأيام بمشيئة الله، والبحث عن تراثه وعلمه لن ينقطع بفضل الله وكرمه، وأرجو أن يسارع المخلصون لخدمة إرثه العلمي الخصيب ورقيًا وإلكترونيًا إن الآن أو بُعيد حينٍ لا يطول؛ فظمأ الهواجر يحتاج إلى ماء بارد زلال.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 27 من شهرِ محرم عام 1443
05 من شهر سبتمبر عام 2021م