سير وأعلام

ريان: فطرة سكنت في إنسان!

Print Friendly, PDF & Email

ريان: فطرة سكنت في إنسان!

ثلاثون عامًا فقط هي عمر هذا الشاب الذي توفي يوم السبت التاسع عشر من شهر الله المحرم وصلي عليه عصر الأحد في جنازة مهيبة، واجتماع كبير، لم يكن باعثها دعوة رسمية، ولا أمل في رضا أو قرب أو ميراث أو دعوى بالوفاء وغيرها من أسباب قد تحفز البعض لشهود الجنائز وهو أمر صعب عند قوم، ومكروه لدى آخرين، ويخشاه قسم ثالث، وإنما الذي ساقهم إليه زرافات ووحدانًا شأن آخر، وأمر غاب عن البشر واطلع عليه ربّ البشر سبحانه الذي يعلم عن نقاء الفطرة، وإقبال القلب عليه بإخلاص ومحبة ورجاء وخوف.

فرحمة الله ومغفرته وعفوه لفتى الكهول الشيخ الشاب ريان بن عبدالله الموسى، وأحسن الكريم الودود عزاء والديه وإخوانه وأسرته وجميع آله، والعزاء كلّ العزاء مع المواساة لزوجه سليلة بيت الفضل والتربية والإصلاح والتاريخ، ولنجله الرضيع الذي سيفتح عينيه فلا يرى حوله الأب الشفيق، فاللهم احطهما بإحسانك، واحرسهما بعينك وركنك، وارزقهما من عندك، واخلف عليهما بخير إلى خير غير منقطع ولا ممنون ولا فيه لمخلوق عليهما منّة.

إن هذا الشاب الفقيد المغادر لدنيانا البالية قد مضى بثلاثين عامًا فقط في الحساب العددي، ولعلها أن تكون عند الله أكثر من هذا بكثير، فكم من ليلة قدر أدركها فأحياها ثمّ قبلت منه والواحدة منها بألف شهر، وكم من عشرٍ أواخرَ في رمضان اعتكف فيها وانخلع عن الدنيا وما فيها، وكم من عشرٍ أوَل في ذي الحجة صرمها مغتنمًا عظيم أجرها وإن أجرها لعظيم كبير.

وكم من أيام فاضلة أمضاها صائمًا في هجير وبرد متحريًا الثواب ورضا الرب، وكم من ليالي أحياها تاركًا دفء الفراش ولذيذ الرقاد، مفضلًا الخلوة بمولاه ساعة السحر، والمناجاة مع التلاوة، وكم من أعمال صالحة في مواضع مضاعفة مثل مكة والمدينة، وكم من باقيات صالحات اكتسبها وطوى عليها خبر نفسه، وتلك مما يجعله أوفر حظًا ونصيبًا بفضل الله وتوفيقه من أيّ معمَّر مفتون، أو كبير مخذول.

ومن أخباره العذبة ورعه منذ صغره، فإذا ما شك في مدة المسح خلع الجورب وغسل أقدامه، ومنها حفظه للقرآن الكريم حفظًا متقنًا ضابطًا وهو في الصف الثالث المتوسط، وهذا يدل على منبت كريم، وموئل شريف، في بيت مؤمن عند أبوين لهما عناية وحرص، وفي مسجد معمور ومدرسة نابهة، وإلّا فبعض أبناء جيله فمن بعدهم لا يأبهون لإتمام الوضوء فضلًا عن الاحتياط، ومن المؤكد أن الأوقات الثمينة لدى فئامٍ منهم هدرت فغدت بلا قيمة بين أيادي أجهزة الألعاب القتالية والكروية وأضرابها، وضاعت الجدية مع أخواتها بين طبقات صرخاتهم الفارغة.

ثمّ فتح الله عليه في التعبد والضنانة بالوقت ويا له من بخل يُعدّ ضمن المحامد خلافًا لكثير من البخل والبخلاء، فكان الريان صاحب صلاة تطوعية غير المفروضة والرواتب، وذا استخفاء عن الأعين قدر المستطاع، مع انكباب على القراءة وطلب العلم، والانقطاع في مكتبته، تلك المكتبة الغاصة بالكتب على الرفوف وفوق الأرض، وأكرم بالعيش مع الكتب فإنه نعيم يجوّد الحياة، ويخفف من لأواء الأيام وضنكها.

ولربما أن كتب مكتبته تنتظر يديه الكريمتين كي ترفعها أو تقلبها، وتشتاق لعينيه الوادعتين أن تنظر فيها، وكأني بالمكتبة وجدرانها وأرففها وكتبها تنادي أين صاحبي التقي النقي؟ وهل لي من ريان نصيب فارتوي به ليروى مني ويروي مجاله الخيري والدعوي الخصيب! ولعمركم إن الفراق كله لموجع ممضٌّ، وفراق المكتبة من أوجع أنواع الفراق المتخيّل والحقيقي.

ولم يقف الشاب الصالح عند حدود العبادات كما يفعل آخرون فُتح عليهم باب العبادات وأغلقوا على أنفسهم الأبواب دون المعاملات بأبوابها؛ حتى صار الواحد منهم في حال تصف التناقض، وهي حال البشر بعامة لمن فهم النفس البشرية على طبيعتها بما فيها من نزعات مختلفة وأحوال متباينة، والتوفيق للصالحات في كل شيء بيد الله بعد سعي المرء إليه، وكم نحزن كثيرًا من أقوام أتقياء في العبادات وهم في المعاملات دون ذلك ولا أقول أزيد!

أما ريان فهو حريص على إطابة مطعمه كي لا يأتيه قرش من راتب عمله وهو ليس بحلال، ولذا يتحرز من أوقات تمضي دون عمل مع أنه وضع طبيعي في الحدود المعقولة، ويتحرج من القراءة العلمية والثقافية في أوقات الفراغ مع أن القراءة في لحظات الفراغ أجدى من العبث أو تضييع أوقات الآخرين من زملاء العمل، وله في هذا الباب مواقف من استئذان مديره، وإرجاع قدر من المال تحوطًا، ويا ليت أن قطرات من نزاهة الريان تنزل على قلوب وعقول وأطراف أقوام آخرين؛ وحينها سوف ترتاح أجهزة الرقابة والتتبع والتحري.

كما عُرف بحسن الصحبة لوالديه وهذا المنتظر من كل شاب صالح وشابة صالحة، واشتهر برفق في الزمالة، وكمال في الصداقة، ومن المؤكد أنه كان خيرًا من ذلك مع زوجه وأصهاره وعدلائه الذين تفطروا حزنًا عليه، وإن المرء ليأسر بأخلاقه الذين حوله من أحباب وغيرهم، وإن المرء ليدرك بحسن الخلق أجر الصائم القائم، ويقترب من مجلس الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهنيئًا لريان أن كان صائمًا قائمًا في الواقع، وهنيئًا له أن صيرته أخلاقه الرضية الحسنة، ومحياه الهادئ الصبوح في منزلة الصائمين القائمين.

وهنيئًا له ذلكم الثناء والمحبة من قوم يغلب عليهم الصلاح والتقوى؛ حتى أنهم لم يبرحوا قبره ولم يغادروا مثواه البرزخي مع اشتداد الحر وطول النهار، رجاء أن تقبل منهم دعوة لصاحبهم وهو موسد في قبره، منفرد في لحده، ومن اللافت أنه كان في حياته يقف عند قبور لايعرف ساكنيها بعد منصرف أهلها عنها؛ ولا يمضي قبل أن يؤانس وحدتهم الوحيشة بدعوة وابتهال، والجزاء أتاه بعضه من رفاقه وإخوانه، ولعل أكثره مدخر له عند مولاه يوم أن يلقاه.

وإن أغفل فلن أغفل عن ملمح باهر في حياة الفتى القصيرة، ذلك أنه حين رزق بنجله الأول بعد انتظار غير قصير، اختار له اسمًا يوافق اسم جدّ الطفل لأمه الشيخ المحتسب فهد بن سليمان القاضي رحمة الله ورضوانه عليه، وكان ميلاد فهد السبط بعيد رحيل جدّه الشيخ عن الحياة بقليل، ولربما أنه دعوة استجابها الله للشيخ الذي يسره أن تسعد بنيته الكريمة بالذرية، وهذه التسمية وفاء يحسب لريان ولوالديه الشهمين، والله يجعل فهدًا كأبيه وأجداده الكرام من الجانبين، ويحفظه وينبته نباتًا حسنًا حتى يكون لهم ذكرًا وأجرًا وأثرًا من آثارهم.

فيا فهد بن ريان، إذا ما قرأت شيئًا مما قيل عن آبائك من مآثر ومناقب، فاعلم علم اليقين الراسخ الذي لا يزلزله شيء، أن أبناء الأصول الكريمة لا تضيع منهم الدروب الصائبة، وأن الأواخر يسيرون على النهج الرشيد لمن سبقهم، ولقد كان آباؤك من ذوي المحامد والمحاسن في شؤونهم كلها، وإنك لكذلك وخير من ذلك بإذن الله القدير، وهذا المرجو والمأمول، فكم من يتيم أشرقت به الدنيا، وكم من فقيد أب أصبح من العظماء، ولك الدعوات بالنماء والرواء والبقاء وبكل خير عاجل وآجل حتى تغدو كأسلافك للمتقين قدوة وإمامًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 25 من شهرِ محرم عام 1443

03 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحمك الله الرحمن الرحيم برحمته الواسعة ياريان واسكنك جنة الفردوس , والهم والديه وعائلته وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان . بارك الله في والديه على تربيته التربية الصالحة . النافعة التي تفيد لكل من حوله . ولك الكاتب الاديب الشكر على هذا المقال الذي اتمنى كل شاب ان يقراه ويقتدي به . عنوان المقالة اوجزت في اربع كلمات بليغة . بوصف المرحوم ريان{فطرة سكنت في انسان }

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)