البدر الذي لا يغيب

البدر الذي لا يغيب

غادر حياتنا الصاخبة ليلة البارحة شاب ثمّ أودع عصر هذا اليوم في لحده ومستقره البرزخي بعد الصلاة عليه، وأسأل الله أن يغفر لرجل الخير قبل أن يكون رجل الأعمال والتجارة بدر بن صالح بن عبدالعزيز الراجحي، ويعوضه عن شبابه أعظم تهنئة بالفوز في قبره، حتى ينهل من أنهار الجنان وهو في مقام منيف، فذلكم أغلى منال يبتغيه أولوا النهى. وبعد ذلك فالعزاء لوالدته السيدة الكريمة المحسنة عبلاء الصالح الدسيماني ولجميع إخوانه وأخواته وبناته وأسرته، وهو عزاء يمتد ليتجاوز البكيرية وعيون الجواء حتى يصل إلى أوساط العمل الخيري والمجتمعي في أصقاع لا تحصى.

فحين يتصفح القارئ كلمات العزاء التي صدرت طرية تلقائية من أغلب كاتبيها يتبين لنا ملمحان متشابكان هما أن ثناء الناس -وهم شهود الله في الأرض- انصرف ناحية أعماله الخيرية، وأن عددًا من مؤسسات العمل الخيري وأفراده ورموزه شاركوا في الوسم التويتري الخاص به، وهو وسم استخدمه وزراء وشخصيات بارزة في المجتمع المحلي إضافة إلى قنوات إخبارية للتعزية والتحزن على الشاب المرتحل، ولعلها أن تكون من عاجل بشراه التي لم يدركها بيد أنها ستخفف من أحزان آله، وإن مصابه لمصاب يهيج البواكي ربط الله على قلوبهم.

كما لفت نظري أن الشاب الراحل لم يملأ حياته بالعمل التجاري فقط نظرًا لأنه ابن أسرة تجارية كبيرة، ولم ينكفئ على خاصة نفسه ومتع الدنيا المتوافرة بين يديه، وإنما وجه قسمًا من جهوده للعمل الخيري والمجتمعي الذي برزت فيه أسرته أيضًا، وكان والده الراحل الشيخ صالح الراجحي من رموز المحسنين والواقفين في عصرنا، ولذا سعى بدر لإنجاز وقف أمه وإطلاقه دونما عثار، وكان من مشروعات هذا الوقف تبني عدد من التطبيقات الخاصة بالقرآن الكريم، وحديث النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، والأذكار الشرعية، ويا له من مكسب عصري يصل إلى كل مكان، ويستفيد منه كل إنسان، ويمكن النسج عليه والاقتداء به، فمن نعمة الله أن يختص عبدًا من عباده بجعله للمتقين إمامًا.

ومع هذه العصرية الطبيعية لم ينصرف الشاب عن العمل التقليدي، فله يد مذكورة في رعاية طلاب المنح وكفالتهم حتى في شؤون الغذاء والمعيشة، كما تكفل بذوي الاحتياجات الخاصة في جنوب المملكة، وهم فئة تستحق الحنان والعون. وحين أراد صنع شيء لوالده بنى له مسجدًا مع أن أباه الشيخ بنى كثيرًا من المساجد في محياه وبعد وفاته، ومثلما فعل لأبيه أشرف على بناء جامع ضخم لوالدته، وهذا الصنيع فيه خيرات حسان متواليه من بر بالأبوين، والأسرة، وخدمة للمجتمع والناس، وتكثير لسواد المصلين، وغيرها مما لا يخفى.

يضاف لذلك أن المساجد بقاع عزيزة حبيبة إلى الرحمن بل هي خير البقاع، فيها يتلى القرآن ويحفظ ويفسر، وتؤدى الصلوات عمود الإسلام، وفيها بركات وأذكار وعلم ودعوة واجتماع، وإنها لمواضع الهدى والإيمان في الأصل وزيادة، والسعيد من جعل لنفسه من عمارتها نصيبًا، وسبق إلى هذا الرشاد المتوارث في أمتنا، وعسى أن يكتب الله البدر من جملة الشباب الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد فنالوا الظفر بظلّ الله في يوم لا ظلّ فيه إلّا ظلّ عرش الرحمن.

إن أنجال الأسر العريقة الوجيهة بثراء أو سلطان أو غيرهما لكثر وفي ازدياد، وهم في مجتمعاتهم موضع القدوة وإليهم تشرئب أعناق الأجيال خاصة مع شيوع التواصل وفشو وسائله، وما أحراهم باستثمار هذه المرجعية وتطلع الشباب نحوهم بما يجعلهم على قدر المسؤولية الملقاة على عواتقهم، سواء في أعمالهم أو في أقوالهم أو في ظهورهم، فهم قادة رأي وصناع طريقة شاءوا أم أبوا، ويا لسعادة من كان منهم نموذجًا في محامد ومكارم ومحاسن سبق إليها حتى لو فرط من عالمنا زمانًا ومكانًا، فإنه سيبقى أثرًا وسيرة.

ثمّ إن البدر حين انفرط عقد عمره القصير فجأة، بكاه أقارب وجيران وفضلاء وأصدقاء، وحزن عليه من سمع أو قرأ عنه دون أن يعرفه أو يراه، وهكذا الإحسان والخير وصنائع المعروف تفعل، وهكذا يكون مصير المرء الذي يعمل ويستخفي، وينكسر قلبه إن ظهر شيء من العمل اضطرارًا، ويدركه الوجل طلبًا للقبول ورجاء للمضاعفة. ومن المجزوم به أن جمهرة المخلصين نجوم وبدور وشموس لا تحجبها غيوم ولا تغيب بقانون كوني أو غيره، وإن ضياءهم لا يخبو، وأنوارهم لا تنطفئ، حتى إن تباعد بهم زمان أو مكان، والله يجعل كلّ واحد من أهل المروءات والفضل والإحسان بدرًا لا يغيب، ويصيّر الشاب الفقيد منهم برحمته سبحانه ورأفته وإحسانه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 24 من شهرِ محرم عام 1443

02 من شهر سبتمبر عام 2021م