سير وأعلام

شيراك: رجل الدولة العاشق!

شيراك: رجل الدولة العاشق!

اشتهرت فرنسا قديمًا وحديثًا بعدد من رجال الدولة البارزين في مجالات سياسية وعسكرية وثقافية مثل “مازارين” و“تاليران” و”ديجول” و“ميتران” وغيرهم. وممن يلحق بهم الرئيس الفرنسي “جاك رينيه شيراك” ‏(29 نوفمبر 1932 – 26 سبتمبر 2019)، وهو سياسي أهلّ نفسه كثيرًا بالدراسة والمشاركات العسكرية والسياسية حتى أصبح زعيمًا لفرنسا مدة من أطول المدد الرئاسية عقب الحرب العالمية الثانية، وعشق في سبيل أهدافه ووطنه أشياء كثيرة.

فمن الإعداد الذي تعرّض له “شيراك” انتظامه في المدرسة الفرنسية للإدارة، وهي المعهد العالي الذي تخرّج فيه عدد كبير من موظفي الدولة ونال جمع منهم مناصب عليا في الرئاسة فما دون. كما شارك في حرب الجزائر وزعم أنه لم يظلم أحدًا أو يعتدِ على حقٍّ خلالها. ودرس في أمريكا التي لم تمنحه تأشيرة دخول بسهولة وحققت معه لاشتباهها في ميوله الشيوعية، ولم تتركه هذه الشبهة التي عشعشت في أدمغة بعض رؤسائه فلم يرتاحوا للعمل معه، وكم ظلم إنسان بمثل هذا الاشتباه وتلك الترهات التي يتكسب بها أفاكون ظلمة، وكم تُحرم الدول من الكفاءات بسببها.

ثمّ اقترب “شيراك” من شخصيات فرنسية كبيرة مثل رئيسي فرنسا الجنرال “شارل ديجول” (1890-1970م)، و خلفه “جورج بومبيدو”(1911-1974م)، ولكنّه استقل عنهما مؤسسًا حزبًا جديدًا اسمه الاتحاد من أجل حركة شعبية، ولم يجعل نفسه أسيرة لأفكارهما ومنهجهما حتى لو قال “شيراك” ناعيًا الأول: “تركنا ولن نتركه”، ووصف الثاني بأنه “الأب الروحي” له وهو الذي نعت تلميذه بأنه “بلدوزر”، وإن أسوأ أمر يغلُّ به المؤهل الكفؤ عنقه ويقيّد حراكه هو الارتباط التام بحزب أو تيار أو فكرة دون فكاك له ما يقتضيه من الصواب والمصلحة المعتبرة. ومع جدية “شيراك” في بناء نفسه وعشقه للدراسة والتعلّم ومعايشة الكبار إلّا أن هذا ليس هو العشق المقصود في العنوان مع أهميته لرجل الدولة.

كما أصبح “شيراك” رئيسًا لفرنسا طوال اثني عشر عامًا متتابعة، وكلّف برئاسة الوزراء مرتين لمدة عامين في كلّ مرة، واستقال من إحداهما مغضبًا من رئيسه ونادمًا على تصديقه في دعواه بأنه رمى الخلافات مع الآخرين في النهر، واستدرك “شيراك” بمكر إلّا إن كان الرئيس قد رماها في نهر جاف! وعقب ذلك صار رئيسًا لبلدية باريس ثلاث مرات، وقبلها أسندت إليه مناصب وزارية في الداخلية والزراعة، وإن هذا الشغف بالعمل والنهم بالإنجاز لأمر محمود ومركزي في مسيرة أيّ رجل دولة بيد أنه ليس المراد في العنوان!

وداخل نطاق فرنسا قلّص “شيراك” مدة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس، وألغى التجنيد الإلزامي، ولم يتضجر من المشاركة وسط الحشود الشعبية، حتى أثنى المراقبون على عاطفته الذكية. وشاعت عنه شهيته للأطباق الفرنسية، وثقافته الواسعة، واقتنائه لبعض الأشياء القديمة التي ذهبت إلى متحف يحمل اسمه يطل على نهر السين في باريس. ودأب على حضور المؤتمرات الزراعية وهو وزير إضافة لزيارة المزارعين في حقولهم، وشاهد المباراة النهائية لكأس العالم عام (1998م) في منصة ملعب “دو فرانس”، وهي المواجهة التي فاز فيها منتخب فرنسا على منتخب البرازيل القوي، وحصل على كأس العالم لأول مرة في تاريخ البلاد، واشتهر بحرصه على استعمال السيارة المصنوعة في فرنسا حتى لو كانت أقل فخامة، ومع أن حبّ الإنسان لبلاده مكرمة واجبة، وسعيه لمصالحها فرض وأمانة، وذلك في حقّ رجل الدولة أوجب وأوكد إلّا أنها ليست المعنية في رأس المقالة.

أما عربيًا فيُحفظ عنه رفض طلب الرئيس الأمريكي “ريجان” مرور طائرات أمريكية لضرب ليبيا إبان رئاسته لمجلس وزراء بلاده عام (1986م)، وتعاطفه مع العراق لعلاقته الوثيقة بصدام حسين الذي أكل معه المسكوف وأرسل إلى باريس طائرة مليئة بالسمك والطباخين، وغدا “جاك شيراك” أقوى من عارض الحرب الأمريكية البريطانية على العراق خلال رئاسته الثانية لفرنسا عام (2003م). وله جولة مشهودة في مناطق فلسطينية ومعها صرخة مثبتة إعلاميًا في وجوه جنود اليهود حينما حاولوا منعه من الحديث مع الأهالي. وارتبط بصداقات مع زعماء لبنان وسورية مثل أغلب ساكني قصر الإليزيه، ولم يقصّر الرجل في الثناء على حكام العرب بأنهم يتكلمون معه بصراحة ودون مراوغة خلافًا لزعماء الدول الغربية، وطبعًا غير ساسة اليهود الذين وصفهم بصعوبة المراس، وإجادة فنّ المحاورة والتفاوض، وتقديم مصالح إسرائيل على أيّ شيء.

كذلك عُرف عهده بأوليّة تمثلت في خلو الحكومة الفرنسية من أيّ وزير يهودي، ومع ذلك فمواقفه اللطيفة عربيًا هي مواقف سياسية لمناكفة أمريكا، أو هي سياسة مع بقايا فطرة لم تغيّر شيئًا على أرض الواقع في الجزائر وليبيا والعراق وفلسطين، ولن نكون أحسن ظنًا به من مواطنيه “أريك آيشمان” و“كريستوف بولتانسكي”، المحررين بصحيفة “ليبراسيون” اللذين ألفا عنه كتابًا عنوانه “شيراك العرب” قياسًا غير برئ على الإنجليزي الماكر المخادع “لورانس العرب”. وحتى لو كان يعشق العرب وتراثهم فهو على أيّ حال عشق غير مراد في العنوان.

ويمكن إضافة هذه الحكاية التي رواها الكاتب رضوان السيد في مقالة له بعنوان: “ما المطلوب: ضبط الإسلام أم فهمه؟” وأسوقها بالنص: “يوم عام 2003 أو 2004 (ما عدتُ أذكر) خطب شيراك ضد الحجاب، وأصدر البرلمان الفرنسي قانوناً بهذا الشأن. ولأنه كان صديقاً للرئيس رفيق الحريري فقد تمكنتُ من التحدث إليه، قلت له: الحجاب للنساء وهنّ لا يمارسن العنف، فلماذا هذا التحريم والتجريم؟ فاندفع يذكر قوانين الجمهورية العلمانية، وقلت: ما شأن العلمانية بما تلبسه المرأة ستراً أو عرياً وبخاصة إذا كان ذلك بسبب الاعتقاد، أنتم ضد «الاختلاف»، وكنت أظن أنكم ضد العنف وحسب، وإذا كان الأمر كذلك فاليهود والسيخ والهندوس مختلفون، فلماذا أنتم ضد «اختلاف» المسلمات والمسلمين فقط؟ سكت الرئيس شيراك لدقيقة، فالتفت إليَّ الرئيس الحريري رحمه الله عاتباً ظناً منه أنني رفعتُ صوتي فأغضبتُه، فابتسم شيراك وقال: ما سكتُّ للجدال، ولا لرفع الصوت، يا فلان لا ذنب للمسلمين والمسلمات إلا أنهم كثيرون وكثيرون جداً في فرنسا وفي العالم!”. وهي منشورة في صحيفة الشرق الأوسط، يوم الجمعة – 21 صفر 1442 هـ – 09 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد  15291.

في الجانب الشخصي لشيراك زوجة وابنتان توفيت أكبرهما “لورانس” مبكرًا فاستوثقت علاقة الأخرى “كلود” معه خاصة بعد أن كبرت سنّه، وكانت سببًا في تدوينه لمذكراته في جزءين الأول منهما يحكي إلى ما قبل صعوده لمنصب الرئيس وعنوانه “كل خطوة يجب أن تكون هدفا” وهو مترجم إلى العربية ولم اطلع عليه، والثاني بعنوان ” الزمن الرئاسي” يتحدث عن حقبة الرئاسة وأحداثها ولا أدري هل ترجم أم لا. وللرئيس أيضًا علاقات نسائية واسعة عابرة للحدود إذ وصلت إلى اليابان التي يعرف تاريخها وثقافتها ضمن اهتمامه العميق بآسيا، ولكنه نفى ذلك وإن اعترف علنًا بولعه النسوي وقال: أحببت نساء كثيرات بأكبر قدر من الحرص والسرية الممكنة، وعلى كلٍّ فليس هذا هو العشق المشار إليه أعلاه!

يبدو أني أطلت في نفي العشق المعنون عمّا مضى، وإنه لعشق شريف نبيل كريم، فهذا الرجل يعشق لغته الفرنسية ويتباهى بها، ويتجاوز الأعراف الدبلوماسية لأجلها. من ذلك أنه قاطع اجتماعًا أوروبيًا وغادره احتجاجًا على استخدام رجل فرنسي اللغة الإنجليزية في خطابه، وخرج معه وزيرا الخارجية والمالية، وسمعت منه كلمة حانقة إذ احتدّ على المتحدث قائلًا: لم لا تتحدث بلغتك الأم؟ وعندما سأله الصحافيون عن سبب ترك الاجتماع أجابهم: ” لقد صدمت لرؤية فرنسي يعبّر عن نفسه بغير اللغة الفرنسية، وقد انسحبت لكي لا أستمع إلى كلمة شخص لا يحترم لغته”.

وحينما قابل “بوش” الابن رفض مخاطبته بالإنجليزية التي يتقنها تمامًا، وحضر المترجمان بينهما في الاجتماع وعلى مائدة الطعام التي يفترض فيها الأريحية ورفع الكلفة. ووجهت إليه في قاعة الأمم المتحدة أسئلة بالإنجليزية فتظاهر بأنه لم يفهمها حتى تطوّع رئيس وزراء بريطانيا “توني بلير” لترجمتها له لأنه يجيد الفرنسية، ويا له من اعتزاز “شيراكي” جعل رئيس دولة كانت تحكم أكثر الدنيا يعمل مترجمًا من الإنجليزية الغالبة إلى الفرنسية الأقل شهرة وانتشارًا، ولعمركم إنه لعشق لا يُدانى وليس فيه مأثم ولا مغرم ولا رزية.

لذلك لا غرابة أن يقف هذا الرجل المثقف أمام منظمة اليونسكو في أحد اجتماعاتها، وهي قلعة ثقافية عالمية، فيخاطب الحاضرين بقوله الذي ينم عن بصيرة بتاريخ أوروبا والعالم: لقد كان القرن التاسع عشر قرنًا مشتعلًا بصراع القوميات، بينما اختصّ القرن العشرين بالعراك العقائدي بين الأمم، وسوف يصبح القرن الحادي والعشرين ميدانًا للتنافس وربما التصارع الثقافي! وإن اللغة لركن مهم من أركان الثقافة.

وقد اشتهرت فرنسا بحذرها من اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص مع اشتراك فرنسا مع الدول الناطقة بالإنجليزية في الدين والحضارة وأكثر الثقافة، ومع انتماء اللغة اللاتينية والجرمانية إلى أسرة واحدة أعلى. ولا تستسيغ فرنسا حديث الفرنسي بكلمة أجنبية لها مرادف فرنسي وربما تعاقب عليه، ويحفظ تاريخها الثقافي معركة اللغة مع الألمان التي دونها أديب فرنسي بقصة قصيرة ذائعة الصيت عنوانها “الدرس الأخير”، ولا غرابة أن يصنّف القوم لغتهم ضمن الأمن القومي لبلادهم ومجتمعهم، والله يرزقنا من هذا العشق الحميد فنحن ولغتنا به أولى ديانة وحميّة وثراءً لغويًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 17 من شهرِ محرم عام 1443

26 من شهر أغسطس عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)