عرض كتاب مواسم ومجتمع

الجوف والغاط في الوجدان والمركز!

Print Friendly, PDF & Email

الجوف والغاط في الوجدان والمركز!

من أحسن الأعمال التي تدل على جميل السجايا، وتثبت كرم المنبت وعراقة الأصل أن يبقي المرء على حبّ الأمكنة التي ارتبط بها بانتساب أو عيش أو تعلّم أو عمل، فتلك سجيّة تشير إلى النبل والوفاء ومحاسن الأخلاق بالجملة، وقد عرف العرب لصاحبها ذلك بكثرة حنينه وشوقه للمرابع والديار. ومن هذا الباب العناية التي أولاها الأمير عبدالرحمن الأحمد السديري (1338-1427) لبلدته الغاط التي تنتمي أسرته الدوسرية العريقة إليها، والرعاية التي خصّ بها منطقة الجوف التي كان على رأس إمارتها قريبًا من نصف قرن (1362-1410)، وخبره معهما يصح وصفه بأنه رجل عشق المدينتين معًا، وأبقاهما في وجدانه حيًا، وفي وصيته وهو يغادر الحياة، وأمانة لدى مركزه بعده.

ومن الموافقات أن تمتاز البلدتان بصفات تشتبك مع خصال الرجل وتفضيلاته، ولذا أسكنهما في مشاعره، وأبقاهما في وصيته ووقفه المتميز بالثقافة والارتقاء بالوعي الذي يرعاه مركز عبدالرحمن السديري الثقافي والمؤسسات المتفرعة عنه في الغاط والجوف. أيضًا من صفات هاتين البلدتين الواقعتين شمال غرب الرياض (الغاط)، وشمال غرب المملكة (الجوف)، الوداعة والهدوء والسكينة كصاحبهما تمامًا. ومنها أنها بيئات زراعية حوت من النخيل أصنافًا لذيذة ومن بقية الثمار مثل العنب والزيتون، والأمير السديري صاحب عناية لافتة بالزراعة وشؤونها، وارتباط وثيق بالأرض وتاريخها. وأخيرًا فهي مواضع قريبة من البراري التي تطيب للنزهة والمبيت بُعيد هطول الغيث المبارك، وتكون من خير البقاع للإبل والخيل التي فضلها السديري واعتنى بركوبها ورياضاتها، ولها إلهامات أدبية يعرفها الكاتب والشاعر، وقد كان راحلنا كذلك.

لأجل ذلك سعى مركز عبدالرحمن السديري الثقافي وما يتبعه من مؤسسات ومكتبات إلى خدمة المنطقتين ثقافيًا بدرجة تستحق الإعجاب والإشادة، حتى أن النشاط الثقافي فيهما يفوق مساحتهما الجغرافيا، ولا يتأثر بموقعهما، ويتفوق على جوارهما لدرجة صعوبة المقارنة أحيانًا، ويتمثل ذلك بالمكتبات، والندوات، والبرامج الثقافية، والاستضافات، والمؤتمرات والمنتديات، والجوائز، والمطبوعات التي تخصّ البلدتين وأهلهما في شؤون علمية وأدبية وفكرية وتاريخية.

وهاهنا كتابان بديعان يحويان مئات الصور الجميلة، وكلاهما بإشراف حفيد الأمير سلطان بن فيصل السديري، أولهما وهو الأقدم عنوانه: الغاط في عيون المصورين، صدرت طبعته الأولى عام (1437=2016م)، ويقع في (163) صفحة، حرره محمد صوانه، وراجعه محمد الراشد، وصممه: ظافر الشهري. وشارك في التصوير الإبداعي الفردي اثنا عشر مصورًا منهم مصورة واحدة إضافة إلى صور من مجموعات شخصية، وأكثرهم تصويرًا أيمن العامر الذي تعود إليه صورة الغلاف الأخضر، وهو مصور بارع الالتقاط، ذكي الاختيار لزواياه، ولا قصور في البقية.

بينما جاء الثاني تحت عنوان: الجوف في عيون المصورين، صدرت طبعته الأولى عام (1443=2021م)، ويقع في (189) صفحة، كتب نصوصه: أ.حسين الخليفة و أ.محمد صوانة الذي حررها أيضًا، وصمم الكتاب: ظافر الشهري، وترجمه: د.محمد الجبالي. وشارك في صور الكتاب مصورون شباب عددهم تسعة وعاشرهم أرشيف دار العلوم، وأكثرهم تصويرًا زايد اللاحم الذي أجاد في اقتناص صورة الغلاف البنفسجي من واقع الربيع في الجوف، وفي ختامه شكر للبروفيسور بشير جرار على مراجعته الأسماء العلمية لبعض الطيور والحيوانات.

يتشابه الكتابان في مكوناتهما التي تشمل التعريف بالمركز ومؤسساته في البلدة المرتبطة بكل كتاب، مع إيراد شيء من شعر الأمير الخاص بالبلد المقصود، ثمّ إيقاد ضوء للقارئ فمقدمة تعريفية بالمنطقة، ويعقبها التعريف بأمراء الجوف من خلال الصور وهو ما مالم يوجد في كتاب الغاط ولعله أن يستدرك لاحقًا. وتنقسم المحتويات إلى أربعة عناوين هي: التراث والآثار، والطبيعة، والأنشطة الثقافية، والحياة الاجتماعية، وأخيراً المراجع، وجميع نصوصه مترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ويظهر جليًا طول الفصل الخاص بالطبيعة، وما أولى هذه المناطق الساحرة بالعناية والاستعداد للسياحة الشتوية من أبناء البلد ثمّ من أهل جوارنا العربي فغيرهم.

أما صور الكتاب كما توضحها عناوين الفصول فمتنوعة، فيها القديم والحديث، ومنها الخاص بالإنسان أو الحيوان أو النبات، وفيها شيء من عبق المطر والبراري، وأحاديث السمّار والفرسان وملاك الإبل، ولا تخلو من شؤون ثقافية على طول المشهد الثقافي وعرضه، وتحوي أيضًا آثارًا قديمة لمباني ونقوش وأماكن تاريخية، وتحتفظ بصور لافتة لربيع الأرض، ومياه الأودية والمطر، وحيوانات الصحراء وطيورها، كما تخبرنا بشيء عن الحياة الاجتماعية والمهن في كلّ بلدة.

كذلك من اللافت الباهر في هذين الكتابين على كثرة الصور، وتنوع الميادين التي تناولتها عدسات المبدعين، أنها لم تخض في أمر يقع حوله خلاف، أو يثير شيئًا دون جدوى، وتلك لعمر الله سمة فيها عراقة، وفروسية، ونقاء، وفيها دليل كالشمس على أنه يمكن تقديم أحسن عرض، بأبهى الصور، وأجمل المظاهر، وأحسن الكلام، دون أن نضطر لشيء لا يتناسب مع ثقافتنا، فحقيقة الثقافة امتزاجها الكامل مع المجتمع؛ فترتقي به دون أن تتطامن عن أهدافها، وتستجيب لنبضه من غير أن تستسلم لأيّ قصور، وتلك معادلة ليست عسيرة على الرجال الميامين المخلصين إذا استعانوا بالله ثمّ أرادوا وعملوا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 26 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

05 من شهر أغسطس عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)