مواسم ومجتمع

كتب وأربعة مراهقين وامرأة!

Print Friendly, PDF & Email

كتب وأربعة مراهقين وامرأة!

أشعر بالحزن الأليم حينما أرى المناهج المدرسية ملقاة بجوار سلال المهملات أو على الأرصفة وفي الأراضي الفضاء، ولا أدري هل يمكن أن تكون الأجهزة اللوحية حلًا لهذه المشكلة المهينة أم لا؛ ذلك أن للأجهزة الذكية إشكالاتها الاقتصادية والتقنية والاجتماعية وربما غيرها إضافة إلى مسألة قطع الصلة مع الكتاب الورقي. وأتصور أن الحل الأسلم يكمن في مشروع ترعاه وزارة التعليم سنويًا دون أن تدفع أموالًا بالتنسيق مع شركات إعادة التدوير أو صناعة الورق، وربما جلب المشروع دخلًا إضافيًا للوزارة.

ومما أذكره حول الكتب المنهجية أنه كان من لوازم الاجتهاد في الدراسة إبان زمن مضى الاستعداد المبكر خلال إجازة الصيف الطويلة والمملة، وهو طول قُضى عليه أخيرًا بنظام الفصول الثلاثة الذي سيبدأ تطبيقه أول مرة في العام الدراسي القريب القادم ولا نعلم كيف ستكون نتائج تجربته. المهم أنه من مفردات استعدادنا القديم الحصول على كتب السنة الجديدة لقراءتها أو معرفة محتوياتها على الأقل قبل بداية الدراسة، وهو ما دأبتُ عليه منذ الصف الثاني المتوسط حتى نهاية المرحلة الثانوية.

فحين نجحت من الصف الأول متوسط إلى الصف الثاني، وانتقل شقيقي سليمان إلى الصف الأول ثانوي، اتفقنا مع طالب-سوف أرمز لاسمه بحرف الباء- وهو يسكن غير بعيد عن منزلنا، وينتمي إلى بلدة قريبة من بلدتنا، وملخص الاتفاق الثلاثي أن آخذ منه الموجود من كتبه ودفاتره ويأخذ هو الموجود من كتب أخي ودفاتره؛ لأن (ب) نجح من الصف الثاني المتوسط إلى الصف الثالث، وبالتالي فهو يقع في سنة تفصل بيننا، وقد نفذنا توافقنا قبيل آذان المغرب مباشرة، وربما بعد الفراغ من لعب مباراة كرة قدم طويلة ذات شوط واحد.

وبعد عودتنا من صلاة المغرب سمعت بمجرد دخولي إلى فناء منزلنا-الحوش- صوت امرأة يرتفع مزمجرًا فخرجت وإذا بامرأة نشيطة لسنة تسحب ابنها (ب) الذي تبادلنا معه الكتب كما لو كان سخلة- وهي صغير الماعز- وتقذف كلامًا غاضبًا عليّ وعلى أخي فحواه: غششتم ابني واجتمعتما عليه فأخذ منكم دفاتر كثيرة وكتبًا قليلة وأعطاكم العكس، وهي ترفع يدها خلال انتفاضتها الغاضبة، والحمدلله أن غطاء الوجه حال دون أن نرى شرر عينيها، وقذائف فمها، خاصة أننا في تلك الأيام كنّا نشاهد الشرير “شرشبيل” أحد شخصيات السنافر البغيضة!

فلم ندخل في جدال معها، وأخذت منها كتب أخي ودفاتره ودخلت للبيت مسرعًا وأخرجت لها كتب ابنها ودفاتره وسلمتها لها، وقد أخبرها أخي بمعلومة مهمّة قائلًا: الكتب سوف يأخذها الجميع من المدرسة في أول السنة، بينما الدفاتر هي الأهم وفيها الملخصات والإجابات وعليها اعتماد الأساتذة والطلبة- طبعًا مع الأسف فهذا الاعتماد فعل خاطئ خلاف الصواب- ولم يكن حديثه لثنيها عن رأيها، وإنما ليبين لها أن ابنها هو الذي كسب مما جرى بيننا، وليس ما تعتقده من غبنه وخسارته؛ ولعلّ سليمان أراد حماية الفتى الذي امتلأت عيونه من الرعب خوفًا من سطوة أمه التي كانت “رجل” بيتهم حتى مع وجود والده بضخامة جسده وجهورية صوته!

وحين انصرفت المرأة جاء إلينا جار قريب الدار، والطريق إلى مسكنه أقصر مسافة من بيت صاحبنا السابق (ب)، وكان جارنا-سوف أرمز لاسمه بحرف الحاء- يسمع ويرى ما جرى، وهو شاب مؤدب صالح من بيت صالح الأبوين وأكثر الأبناء، وينتمي لمنطقة بعيدة عن بلدتنا، ويدرس في نفس الصف الذي يدرس فيه (ب) العائد مجرجرًا خلف أمه بصُمات وذلة جبرية تُبكي العروس في ليلة الزواج.

ثمّ قال (ح) موجهًا كلامه لي: هل تريد الكتب؟ وهو بالمناسبة يتقدمني بسنة واحدة فقط مثل (ب)، فقلت له نعم، وحينها راغ إلى بيته وأحضر الكتب كاملة نظيفة من الخارج مليئة بالتعليقات الواضحة المنبئة عن جديته ومثابرته ومتابعته، ومعها دفاتر الفصلين مكتوبة بخط واضح ومعلومات صحيحة، علمًا أنه من المتفوقين والأوائل؛ ولأنه كذلك درس في كلية طبية فيما بعد، خلافًا لصاحبنا الأول (ب) الذي لم يكن متفوقًا، ولم يكمل دراسته، ولم تكن كتبه ذات إضافات وإفادات ولا حتى دفاتره من باب أولى.

فطلبنا منه الانتظار لنحضر له كتب السنة القادمة ودفاترها الخاصة بأخي، لكنه اعتذر لأنه على عجلة من أمره، وأكمل بأنه لا يحتاج الكتب والدفاتر أصلًا فلديه كتب أخيه الأكبر ودفاتره. ثمّ أردف واعدًا وهم يهم بالانصراف العاجل: سوف أعطيك كتبي ودفاتري كلّ سنة بمجرد نهايتها، وهكذا صنع موفيًا بوعده حتى انتهينا من المرحلة الثانوية بانتظام ومبادرة منه، ودون سؤال أو إلحاح من قبلي، وأصبحت دفاتره خير معين لي في الدراسة وإبهار المعلمين والزملاء، وكلما رأيته في مسجد الحي شكرته على ذلك، وهو بلطف لا يرى لنفسه فضلًا، ولا ينتظر جزاءً أو شكورًا.

وبعد زمن، تزوج الشابان ( ب و ح ) من فتاتين ضمن مجتمعي زمن الطفولة، ومع أن أخبارهما عني منقطعة لبعد المسافات ومشاغل الحياة، إلّا أني أدعو للثاني بالتوفيق والخير ولا أنسى كرمه وأريحيته. وبالمقابل فهمت سبب تصرف المرأة بعد سنوات، ذلك أنها كانت من النساء “الصقور” التي قلبت الأوضاع في بيتها فهي المسيطرة الآمرة الناهية، ولم تكن علاقتها بأمي-حفظها الله ورعاها وشفاها- جيدة لاختلاف الطبائع، وفرق السّن بينهما فهي أسنّ من أمي، وأيضًا لصداقة الوالدة مع نساءٍ قريبات لتلك المرأة وليس بينهنّ وبينها وداد أو ألفة، بل إن الصدام هو سيد الموقف النسوي الذي بناء على مثله لا يجدر إطلاق حكم أو قياس!

ويبدو أن مناكفات هذه العجوز مع النساء كثيرة، وقد امتن الله عليها فتداركت نفسها وهبطت على أمي ذات يوم قبل سنوات طالبة منها العفو عنها ومسامحتها، ولم يكن من الوالدة إلّا أن قالت لها: قد فعلت ذلك منذ زمن بعيد. وبعد مدة من حدوث تلك الواقعة علمت أن والدي رحمه الله كان يسمع الحوار الساخن فلم يتدخل في موضوع أطرافه امرأة ومراهقون كانوا بالأمس أطفالًا، ثمّ أعجبه ماصرنا إليه من تفاهم وفضٍّ للشراكة بسماحة، ورأى أن الخيرة في الانسحاب الآمن اللطيف لا في الانتصار الخشن خاصة مع جيران أو ذوي قربى.

أما الخلاصة من هذه الذكرى فهي دعوة للمحافظة على الكتب جميعها وعلى كتب المناهج بحسن تصريفها، وتحذير من توبيخ الأطفال والشباب أمام الناس قدر المستطاع، مع أهمية إشاعة الجدية في نفوس الطلاب لأن الأجيال المتراخية لا خير فيها، وإشادة بصنع المعروف وإن قلّ أو كان دون مقابل، وإشارة إلى خفاء الخيرة خلف الأحداث التي نكرهها أحيانًا، وحثٌّ على التسامح والمسامحة قبل فراق الدنيا.

ومن أهمها- وإن جاءت في زمن متقلّب- أن يعي الرجل حقوقه وواجباته والحدود التي يجب مراعاتها وعليه أن يلتزم بها، وأن تعرف المرأة نفس الشيء وتنضبط به، فلن يستفيد الجسد من تبادل الأدوار بين أعضائه؛ فكل عضو مهم في مكانه وعندما يؤدي وظيفته فقط، دون قفز على اختصاصات الآخر، أو تغيير فجٍّ للمواقع، فبعض الزيادة سرطان قاتل، وشيء من النقص لا يضر بل يحفظ الصحة والتوازن والحياة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الاثنين 23 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

02 من شهر أغسطس عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه. اسعدني مقالك هذا اليوم وارجعني سنوات لطفولتي . والتي لم انساها طوال هذه السنوات . . من اجمل الاوقات كانت عند انتهاء الفصل الدراسي واعلان نتيجة النجاح . عندما كنت ارافق اخواتي واخي الاكبر سنا مني لبيع الكتب مال السنة المنتهية . ففي الخمسينات غلب على شارع النجفي في الموصل . طابع الثقافة بافتتاح عدد كبير من المكتبات تخصصت معظمها في بيع الكتب القيمة القديمة . وبعضها الاخر تخصص في بيع القرطاسية للمدارس ومجلات مصرية ولبنانية . وهناك كانت تباع . وفيها على الارض خصصت مكان لبيع الكتب القديمة . كانوا يبيعونها ويشترون بثمنها القرطاسية . من دفاتر واقلام وادوات هندسية وغيرها . مااجملها من ايام . ذهبت ولن تعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)