سير وأعلام عرض كتاب مواسم ومجتمع

عيون الجواء بين عبق ورونق

عيون الجواء بين عبق ورونق

لا يُلام إنسان في حبّ دياره التي ينتسب إليها، أو مرابعه التي درج فيها، وإنما اللوم على من فعل خلاف ذلك. ومن لوازم المحبة أن يكثر المرء ذكر محبوبه وما يتعلق به، وخير من ذلك أن يكون مفتاح خير مغلاق شر لمن وما أحبّ، ومن مفردات هذا العمل المبارك أن يصبح المرء حسن التمثيل لبلده ومواطنيه وحضارته ودينه، وأن يسعى في أيّ خدمة يمكن أن يؤديها للدّار والدّيار، وإن من أجلّ الخدمات ما حفظ التاريخ، وأخبر عن البلاد وطبيعتها وأناسها، وقرّب المعلومة للبعيد مع رفدها بإبداع يعبّر عن شغف، ويجلب الشوق للقارئ والسامع.

ومن هذا القبيل ما جاد به كتاب عنوانه: عيون الجواء عبق الماضي.. ورونق الحاضر، تأليف: سلمان بن محمد السلمان، صدرت الطبعة الثالثة منه عام (1436=2014م) برعاية الجمعية السعودية لعلوم العمران، ويقع في (86) صفحة، مع غلاف خارجي تراثي، ويتكون من ترحيب ومقدمة ثمّ سبعة عناوين تخصّ الجواء وعيونها فخاتمة أخيرة قصيرة من المؤلف الذي تعمّد ألّا يطيل، مع إضافة خريطة جيب وصور وترجمة النص إلى الإنجليزية. وقد حاز الكتاب على جائزة أفضل كتيب سياحي ترويجي ضمن جوائز التميز السياحي عام (2013م).

من مزايا هذا الكتاب أنه مختصر مفيد مباشر، يعطي المعلومة واضحة بأقل عدد من الكلمات دون إخلال مع إحالة المستزيد إلى المصدر، ويحوي عددًا كبيرًا من الصور القديمة والحديثة يماثل عدد صفحات الكتاب، مع نسبة كلّ صورة لمن تألق في التقاطها، وهي ذات درجة وضوح عالية لافتة تسر الناظرين وتأسرهم. ومنها أن مؤلفه، ومراجع ترجمته، والمتعاونين مع المؤلف بالتصوير أو المراجعة اللغوية، أو تسهيل المهمة، إضافة إلى كاتب الترحيب، كلهم من الجواء وعيونها بالانتساب أو السكنى أو الخؤولة، والحمدلله أن تعاونوا على البر والتقوى، والله يديم التعاضد ويبارك في جهود الجميع.

كذلك من حسناته أنه يفتح الباب لمشروعات تأليفية على غراره في مناطق المملكة عظيمة الثراء بعراقتها وإرثها الحضاري والتاريخي، ثمّ ترجمة النصوص إلى لغة أجنبية شائعة تعين الزوار من غير العرب، والابتعاد في الصور والنصوص عمّا لا يليق ببلاد إسلامية الدين، عربية الشيم، سامية القيم. ولعلّ مثل هذا المشروع أن يحفز المؤسسات الحكومية المعنية مثل وزارتي الثقافة والسياحة أو دارة الملك عبدالعزيز إلى جمع الصور الخاصة بالمملكة ومناطقها من الناس والكتب والمتاحف والمكتبات ومراكز الحفظ في العالم، وإتاحتها عبر معرض افتراضي بعد تعريف الصورة وتاريخها وملتقطها ومصدرها.

أما الجواء وعيونها فهي منطقة قديمة، عرفها العرب بأشعارهم وأيامهم وحروبهم، وقصدتها قوافل الحجيج والتجار بالمرور عليها للتزود بالماء، أو البيع والشراء، وزارها رحالة ومستشرقون فمقل ومستكثر، وإلى الرحالة الإنكليزي “ليتشمان” تعود أول صورة معروفة لعيون الجواء عام (1912م). وكانت المنطقة بحكم موقعها الفاصل بين حائل وبريدة عرضة لعبور الجيوش المتحاربة خاصة أيام أميرها عبدالله بن عساف الذي استطاع مع جماعته تجنيب منطقتهم الضرر قدر المستطاع. كما عُرفت البلدة بالمرقب التاريخي الرفيع، والمسجد القديم الفسيح، والكتاتيب التي أتمنى توثيق أخبار أشياخها ومعلميها.

واشتهر أهلها بعزة النفس وإن “مضحى أهل العيون” لخير شاهد على تعففهم عن السؤال أو استعطاف الآخرين، وفي هذا الموقف ذات ضحوة دليل على ما حباهم الله به من حسن تصرف وفطنة تمامًا كما يظهر ذلك في “الدرب فوقاني”. والقصص كثيرة وربما يكون كتاب الأديب الوشمي أوسع من عرضها، وليت من يسمع طرف قصة جوائية أن يحرص على جمع كامل الحكاية بالعودة لكتاب د.الوشمي أو غيره؛ ليعلم لماذا نحن قوم “ندفن” الصدق دون أن نكذب، وما معنى “حريشا” عندما طقطقت؟!

ثمّ إن سألت عن عيون الجواء في حاضرها أنبأك الكتاب عن أزيد من عشرة آلاف إنسان يقيمون فيها والعدد في تزايد خاصة بعد عودة أهلها المنتشرين داخل المملكة وخارجها، وفيها ألفان وخمسمئة مشروع زراعي مع مليون نخلة أو شجرة ذات ثمار أخرى، وإذا نزل الغيث المبارك على أراضيها سالت شعابها، وزانت براريها، وطاب المقام في مرابعها وكثبانها، وانتعشت أسواقها الشعبية والحديثة، هذا غير وقوعها على طريق حديث يؤدي إلى حائل فالجوف وما بعدهما.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

ومع أن المساجد فيها منتشرة بحمد الله وفضله إلّا أنها امتازت بوجود جامع الملك فهد بتصميمه الفريد، ومساحته الكبيرة، ومآذنه الباسقة، وملحقاته الكثيرة من مكتبة وقاعات ومسارح وملاعب مع إضافات داخلية باهرة، وإطلالة جميلة عن بعد وعن قرب، ليلًا ونهارًا، ومواقف وساحات أتاحت البيع والشراء، ونشطّت الحركة الدعوية والتجارية، وغير ذلك من الخدمات العظيمة التي يقدمها الجامع للمنطقة وأهلها في محياهم وبعد مماتهم.

إن الكتابة والتوثيق لنعمة ومسؤولية، ومن الضرورة بمكان أن يسارع الناس كافة -وأهلنا في الجواء وعيونها على وجه الخصوص- إلى كتابة تاريخ المكان والإنسان، ورصد تطور الحال والعمران والخدمات، وحفظ الوثائق بعد جمعها، واستنطاقها عقب ذلك، وإعادة سرد روايات البلد في حلّ أهلها وترحالهم للتجارة مع العقيلات أو لطلب العلم، وفي سلمهم وحربهم، وليس من المقبول التراخي في مثل هذا العمل العريق، ففي تاريخ المنطقة وحاضرها علماء وأدباء، وتجار ورحالة، وكرماء ذوو سماحة، ووزراء ورجال دولة، وأسر عريقة، وأفراد مؤثرون، ولهم على ذويهم الحق في تخليد سيرهم، وإبقاء مآثرهم، وهذا من أعمال الرشاد والوفاء، وإن أهل الجواء وعيونها لذوي نبل وكمال عقل وأحاسن أخلاق على رأسها البِّر والوفاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الإثنين 02 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

12 من شهر يوليو عام 2021م 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. جذبني عنوان الكتاب للمولف سلمان بن محمد السلمان عبق الماضي – ورونق الحاضر حفظه الله ورعاه . اخذني المقال بسفرة ممتعة في منطقة عيون الجواء متمنية ان يكون لنا نصيب اذا زرنا بلاد الحرمين زيارتها والتمتع بطبيعتها الخلابة . ان شاء الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)