سير وأعلام

الشيخ الشثري وملامح لا تخفى!

الشيخ الشثري وملامح لا تخفى!

ثمت ملامح وضيئة في سيرة معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الشثري (1347-1442) الذي ارتحل عن الحياة الدنيا ليلة الجمعة الماضية غرة شهر ذي القعدة الحرام، وهذه الملامح جديرة بأن يُشار إليها خاصة مع تسارع الحياة، وسعار المادية، وانجفال الناس نحو شؤون قد يكون جني الفوائد منها أعجل من غيرها؛ بيد أنها مؤقتة، أو سريعة الذبول، أو دون أثر حميد، أو مقتصرة على نطاق محدود.

فمن هذه الملامح شموخ العلم، فالشيخ ناصر نجل عالم كبير من مشاهير علماء نجد، فوالده الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري “أبو حبيب” (1305-1387) مدرسة علمية مؤثرة من ثمارها -غير ابنه الشيخ ناصر- مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، ومفتي قطر الشيخ عبدالله المحمود، والعالم البارز الشيخ عبدالله بن جبرين، والشيخ الداعية محمد الدريعي، وآخرون.

ومن عظيم فضل الله عليهم أن هذه السلسلة لم تتوقف، ففي نسل الشيخ ناصر أبناء وبنات من ذوي العلم والمكانة في تخصصات مختلفة، وأشهرهم معالي الشيخ سعد، هذا غير ما في عموم الأسرة من علماء في فنون كثيرة. ولقد امتنّ الله على الأنبياء بالبركة حتى صاروا ذرية بعضها من بعض، والفضل بالعلم لا يرثه إلّا المستحق، وأما أهل التفريط فهم إلى تضييع الأمجاد أقرب.

كما يظهر لنا ملمح آخر مرتبط بالعلم، فالشيخ درس العلوم الشرعية على يد والده وغيره من المشايخ، ثمّ انتظم في كلية العلوم الشرعية والعربية وتخرج فيها، ومارس بعد ذلك التعليم الرسمي في المدارس والمعاهد والمساجد، ولم يمنعه هذا من الصعود إلى منصب رفيع بقي فيه بمرتبة وزير أزيد من أربعين عامًا حتى وصف بأنه رجل دولة ومستشار الملوك لأنه عمل مع أربعة حكام متعاقبين، وكانت علاقاته بكبار الموظفين فمن دونهم وثيقة متينة، وبعض قصار النظر لا يأبه بالعلم الشرعي، ولا يرفع بمهنة التعليم رأسًا، وهذا من نقصان الرأي، وضرر الغرور.

كذلك فإن هذه السلسلة الشثرية ارتقت بأسرتهم الكبيرة العريقة، فأصبح اسمها معروفًا أكثر مما كان، وأسهمها مرتفعة أزيد من السابق، فالعيون إليها ترنو، والنفوس تتطلّع لقربها بنسب أو سبب. ولم يكتف الشيخ ناصر بذلك نحو أسرته، إذ اشتهر عنه البِّر الكبير بها، والمشاركة السخيّة في صندوقها الخيري، والحرص على جمعها في المناسبات العامة والخاصة. وإذا لم تكن للرجل الكبير بركات متوالية في محيطه فخيره مهما تعاظم فهو منقوص، ومن حكمة الشيخ أن زرع مودته في قلوب الصغار حتى كبرت معهم، فلا يرونه إلّا بعين التوقير والإجلال والمحبة.

أيضًا مما يُروى عن الشيخ أن باب منزله مفتوح، وموائده عامرة بالوجبات، ومجلسه يغصُّ بذوي الحاجات، وهو يقدّر جلاسه وزواره دون تفرقة، ولا يرد مستشفعًا، ولا يتوانى في النفع إذ يرفع سماعة الهاتف على المسؤول مباشرة لخدمة من لجأ إليه. وإن جمال الاستقبال، والبشر الحقيقي، وطيب الكلام، والتوقير الصادق، وإطعام الطعام، والإحسان بالمال والجاه والوقت لمن عظيم المكارم التي ترتقي بصاحبها في الدنيا، ولأجر الآخرة عند الله خير وأبقى.

ومما يلفت النظر في سيرة الشيخ ناصر ذلكم القبول الكبير له من جميع الطبقات، فالملوك والأمراء يجلونه ويحبونه ويزورونه، وربما مازح الملك خالد إخوانه بالسؤال عن ترتيب مكانتهم لدى الشيخ ناصر. وله قرب من العلماء والوزراء ورجال الأعمال، ولم يحصر نفسه مع هذه الفئات فقط، إذ بسط وجهه وشرع أبواب مجلسه للعامة والفقراء وذوي الحاجات، وفيهم من لا يُحسن عرض الطلب، ومنهم الملهوف، والمستعجل، والمظلوم، والنّزق، وغير ذلك من أصناف الناس الذين لا يصبر عليهم إلّا إنسان روّض نفسه ترويضًا، وداوى الطبائع البشرية الجبليّة حتى تكون ذاته سمحة هينة لا يخرجها شيء عن وقار، ولا تحول بها غرارة عن انبساط وإقبال.

ثمّ إن للشيخ فلسفة واسعة في النظر إلى صفة الكرم، فهو كريم بماله لمن حوله ولغيرهم، وكريم بجاهه للمؤسسات الخيرية والمجتمعية، وكريم بشفاعاته العديدة لمن قصده في مجلسه، أو طلب منه حمله إلى الديوان الملكي ليعرض حاجته، وربما عبر الشيخ بجوار حارس فاستشفع به لأخيه ففعل وهو واقف. وهو كريم بسفرته العامرة يوميًا بجميع الوجبات، وكريم حين يتحدث عن الكرم ويدعو له، وكريم في إصلاح ذات البين ورتق ما تفتّق من علاقات، ومن كرمه أنه لا يترك إجابة الدعوة، ويرى هذا الفعل من الكرم حتى لو كان واجبًا في أصله، ومن جوده أنه لم يترك الاستضافة في مخيمه بالمشاعر وإن كان عدد الأضياف كبيرًا. ولمركزية صفة الكرم لديه أنه حين زاره رجل قبل وفاته بأيام، وأخبره بأنه قادم من بلدة غرب الرياض، سأله الشيخ من فوره: من الذي يفتح بابه للناس هناك؟ فأجابه الزائر بما شاهد ليقول الشيخ الراقد على فراش الموت مخاطبًا زائره: لو كنت في صحتي ونشاطي لقصدت هذا الرجل الكريم صاحب المجلس المفتوح وشكرته ودعوت له!

أما قرب الشيخ من الملوك والأمراء فمنحه القدرة على حسن خطاب أولي الأمر، ومعرفة الطريق الأمثل للحوار مع الزعماء، ومن المؤكد أن الله قد نفع به في رفع أو وضع، ومن الحسن تتبع مواقفه لعلها أن تكون من الذكر الحسن له. ومما روي لي أن أحد الكبراء طلب منه عقد القِران له فرفض حتى تنتهي عدّة الزوجة الرابعة التي طلقها مؤخرًا! ومن اللافت أن أشهر موقف للشيخ ناصر وقع إبان مشاركته مع الملك خالد في زيارة إلى ليبيا خلال نقاشه في الحافلة مع رئيس ليبيا آنذاك معمر القذافي، وهو الموقف الطويل الذي رواه الوزير الأديب د.غازي القصيبي في كتابه الفريد الوزير المرافق، وتلك حسنة من أبي يارا ليست على التاريخ فقط. ويُروى أن الشيخ ناصر أثنى على فقه الملك خالد حينما طلب من الوفد المرافق له إعادة الصلاة التي أمّهم فيها وهم كارهون رجل ربما لا تصح الصلاة خلفه!

ومن المحفوظ للشيخ حسن تقديره للمشايخ وعلماء البلد وغيرهم، فلا يفوّت الفرصة في الثناء عليهم بما هم له أهل، ويجتهد من أجل نفي الغبش الذي يُثار عن بعضهم أو يكون مرجعه إلى سوء تفسير كلمة أو فعل، وتلك لعمر الله سجيّة لا تكون إلّا من نقي النفس طاهر السريرة، وما أحرى الذين يقتربون من أيّ بلاط أو ذي سلطان بها، كي يكونوا مفاتيح خير مغاليق شر، ومن يدري ماهي الكلمة المنجية، وما هو الصنيع المرضي عنه عند الله الذي يعلم السر وأخفى.

ولم يترك الشيخ الصلاة في المسجد جماعة حتى مع مرضه وكبر سنه وصعوبة الحركة عليه، ولم يهجر تلاوة القرآن وقراءة الكتب وإن ضعف بصره، وما أكثر الصور التي التقطت له وهو يرفع المصحف أو يحتضن الكتاب. وإن أبواب العبادات بأنواعها لمفتوحة لمن رام الولوج إليها تقربًا لمولاه وطلبًا لمرضاته، وما أكثرها، وأيسرها، والله يكتب لنا التوفيق فيها وإليها، ويعيذنا من الحرمان والخذلان.

وعندما توفي الشيخ تنادى الناس للصلاة عليه ودفنه عصر الجمعة في مقبرة العود، وازدحمت جنازته مع أن الأوضاع استثنائية بسبب الاحترازات المصاحبة لجائحة كورونا، وحرارة الشمس مرتفعة لا تُطاق. ومنذ أعلنت وفاته أصبح وسمه واسمه الأشهر على المواقع ومحركات البحث، فاللهم صيّرها من عاجل بشراه، واجعل له لسان صدق في الآخرين، وأكثر فينا من الصالحين المصلحين حتى لو كانوا صامتين، ولا تُخلينّ مجتمعاتنا من أهل النبل والكرم والسماحة، وادم بين ظهرانينا وجود أصحاب الشيم والمروءات والكمالات.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الثلاثاء 05 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

15 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الاديب احمد حفظه الله ورعاه . وانت ترفدنا بالكتابة عن سيرة هذه الشخصيات النبيلة من الصالحين . سائلة العلي القدير ان يسكن الشيخ ناصر الشثري فسيح جناته ويبارك له في ذريته . ويلهم عائلته الصبر والسلوان . وان لايخلي امتنا امة محمد عليه الصلاة السلام .من اهل الفضل والكرم والجود والسماحة , وان يديم بين ظهرانينا وجود اصحاب الشيم والمروءات وجميع مكارم الاخلاق

  2. كثيرا ما يلف الغموض حول دور هذه الشخصية الوازنة في كثير من القرارات ، وفي اعتقادي أن دور الشيخ -رحمه الله- الاستشاري قد انتهى منذ زمن طويل ، وما بقاؤه في هذا المنصب الاستشاري إلا مجاملة كبرى له غفر الله له.
    فالواجب على ابنائه كتابة سيرته الذاتية .. شكرا أ. أحمد على توثيق هذه الملامح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)