سير وأعلام شريعة وقانون

الشيخ المهوس: النائب الأديب الوقور

Print Friendly, PDF & Email

الشيخ المهوس: النائب الأديب الوقور

‏توفي في مدينة الرياض يوم الأربعاء 14 من شهر شوال عام 1442=26 من شهر مايو 2021م الشيخ محمد بن سليمان المهوّس (1358-1442) رئيس هيئة التحقيق والادعاء السابق التي صار اسمها مؤخرًا النيابة العامة. والشيخ ينتمي إلى أسرة كريمة من بلدة ثادق في إقليم المحمل، ويعود نسبه إلى البدارين من الدواسر، وتلقى تعليمه الشرعي في المعاهد العلمية وكلية الشريعة، وأما خصاله وشخصيته فتأثرت ببيئته المحيطة المحافظة.

كما عمل في عدة وظائف حكومية ابتداءً من الديوان الملكي، فوزارة الصحة، وأخيرًا في وزارة الداخلية بتزكية نبيلة من الشيخ المربي عثمان الصالح (1335-1427) عبر كتاب خصّ به الملك فهد (1339-1426) حينما كان وزيرًا للداخلية مثنيًا على الشاب المهوس في تدينه وعلمه وعقله، وهي شهادة على حسّ الشيخ الصالح الكبير نحو مصلحة البلد واختيار أهل الكفاية، وبعد سنوات من العمل في الوزارة اصطفي رئيسًا للهيئة عقب نشأتها، ثمّ اختتم مسيرته الوظيفية عضوًا في مجلس الشورى.

وقد تواطأت كلمات الذين كتبوا عن معالي الشيخ محمد المهوس عقب وفاته بالثناء عليه بخصائص منها علميته الشرعية، وبصيرته القانونية، وتضلّعه الثقافي خاصة في القانون والأدب واللغة والتاريخ والاجتماع، واستمداده المتكرر من شخصيات علمية كبيرة مثل الإمام الشاطبي، والدكتور السنهوري، إضافة إلى ذائقته الرفيعة، ومجالسه التي لا تمل؛ ورفقته المفيدة حضرًا وسفرًا كما أشار زميله الشيخ سليمان الفالح في مقالة وفاء منشورة، وأحاديثه المستطابة الحلوة حتى أن رفيق دربه الشيخ محمد الهويش يُصاب بالصداع في اليوم الذي لا يتحادث فيه مع الشيخ المهوس، ويا له من ترياق بديع!

إضافة إلى ذلك شهد له الناس بفتح الباب، والاستقبال الدائم في المجلس فناره لا تخبو، مع بشاشة وسماحة، وترحيب بالضعيف قبل القوي، وبذل الشفاعة لمن طلبها أو احتاجها خاصة من الضعفاء، وإن الذين يرجون ما عند الله والدار الآخرة  لمبادرون إلى عون من لا يجد له ناصرًا، ويهبّون لغوث من لا يُلتفت إليه من عامة الناس، ويخلصون في نفع من لا يرجون منه جزاءً ولا شكورًا، وتلك التي ينال بها المرء رضا خالق الخلق أجمعين، وتلك التي يأمن بها العبد يومًا عبوسًا قمطريرًا، فهنيئًا للشيخ أن قيل عنه بأنه ملأ حياته بعون الضعفة والمساكين، وهنيئًا له ما سيجده في صحيفته من هذه الصنائع بعد قبولها.

ومن خصاله التي تنبئ عن أدب ووقار وعقل رصين وطباع هادئة أن صوته خفيض إذا غضب فلا يكاد يسمعه إلّا من كان بجواره ويعنيه الأمر، وإذا رضي أو أراد قبول أمر ابتدأ بابتسامة حقيقية تظهر على محيّاه فيبعث بها الطمأنينة إلى قلب الطرف الآخر ونفسه. كذلك وهبه الله النصيحة الصادقة للآخرين، إذ أخبرني أحد القضاة الكبار أنه ذهب إليه في مكتبه طالبًا منه الشفاعة للقبول في إحدى الكليات فكتب له شفاعة حسنة بلا منّة ولا تردد مع أنه لا يعرف الشاب وهو ليس من أهل بلدته، ثمّ قال للشاب: لو درست في كلية الشريعة لكان خيرًا لك! وهو ماكان ووجد الرجل بركة هذه النصيحة.

كما اشتهر الشيخ في أسلوبه الإداري بالتعاون مع الفريق المحيط به من جميع الجهات أيًا كان موقعه منهم أو موقعهم منه، وإن الشخصية المتعاونة التشاركية لخير من تُسند إليها جسيمات الأعمال، وإنما البلاء من الحقود الكنود الذي لا يرى الناس شيئًا، ولا يعنيه غير مصلحته الضيقة المحصورة بجلده. ولو لم يكن أبو خالد صاحب تمكن إداري لما حمل على عاتقه تأسيس جهاز جديد على المنظومة الحكومية حينما عُين أول رئيس لهيئة التحقيق -النيابة العامة- عام (1414)؛ لأن التأسيس يتضمن تعب البناء، ومشقة الحفظ من العوارض، ومسؤولية الإدارة، وضرورات القيادة، خلافًا لإدارة عمل قائم. ومما عُرف به إداريًا أن باب مكتبه مفتوح لمن أراد مراجعته في عمل، وإنما ضاعت حقوق واندثرت مكارم بسبب الحُجّاب الغلاظ الشداد.

ولأن الشيخ يقف على رأس جهاز يهم الناس جميعًا بل يحمل صفة النيابة عن المجتمع والحكومة، وهو جهاز يختلط فيه الشأن العدلي الحقوقي مع الحسّ الأمني الشامل، ولا مناص فيه من تقدير المصالح والمفاسد جلبًا ودفعًا وموازنة حال المزاحمة، فمن الطبيعي أن يكون على قدْر من الحذر والتحوّط في استقطاب المعاونين، والحرص على جودة الانتقاء، ووضع السياسات والإجراءات التي تحقق مقصد العدل، وتحفظ الكرامة الإنسانية التي اختصّ الله بها بني آدم، وجعلها حقًا شرعيًا أصيلًا للإنسان أيّ إنسان، وهو حقٌّ رباني يحرم انتزاعه من بني أبينا الشيخ الكبير آدم عليه السلام ولو كان واحدهم من أعتى الجناة وأخطر المجرمين، ومن فضل الله على الشيخ أن يشهد له أكاديميون وحقوقيون ومشايخ وقضاة بأنه يعظّم جانب الكرامة الإنسانية ولا يهدرها.

لذلك كان الشيخ المهوس رجل دولة متمكن من عمله بما حباه الله من خصائص وعلوم، وأصبح جديرًا بالتوقير ممن عمل معه وفطن لبواعثه وأسلوبه الوقور، حتى أن الأمير نايف (1353-1433) وزير الداخلية الأسبق، وهو الأكثر ارتباطًا بالشيخ، رعى بنفسه حفل توديعه بعد نهاية عمله في الهيئة، وسأل زائرًا عن بلدته فقال ثادق، فعلّق الأمير قائلًا: أنعم بكم فأنتم من ديرة الشيخ المهوس، وما أجمل أن يكون المرء بركة على أيّ انتماء يعود إليه، وتلك لعمر الله مزيّة تجعل العاقل يكفّ عما يشين، ويغدو دون تردّد لمحاسن الأخلاق، وكريم الفعال، وهو ملمح يلتفت إليه أنجال الأسر العريقة، وأبناء البيوتات الماجدة.

وكم يعجبني عالم الشريعة الآخذ بطرف من فنون أخرى خاصة التاريخ والقانون والأدب والاجتماع، وكم نحتاج للمسؤول ذي الصفة المشيخية الذي تتحقق فيه سمات رجل الدولة من تطلّب المصالح العليا العامة، والنزاهة التامة، وحسن الإدارة، وجمال التعبير، وكمال التهذيب، مع سعة الأفق، ورشاد الرأي، وبعد النظر، واعتبار المآلات، وغرس الركائز، مع الحضور الواثق البهي المفيد، وهي حاجة مبتغاة في أيّ مسؤول رفيع، بيد أنها أولى في أولئك الذين يجمعون بين صفتي الشيخ العالم، والإداري المسؤول.

ثمّ إن الشيخ المهوس بعد تقاعده من عمله العدلي الكبير، وانتهاء عضويته في مجلس الشورى، عاش حياة هانئة هادئة بين أسرته التي شغفت به حبًا يظهر من كلمات الأحفاد والأسباط ذكورًا وإناثًا فضلًا عن الأبناء والبنات، ولم ينقطع الرجل عن صحبته ورفقته ومجتمعه في مجلسه أو في أماكنهم والشؤون العامة. أما درة سيرته في محياه وتاج مسيرته فهي أنه قضى سنوات عمره الأخيرة في روضة المسجد تاليًا مبتهلًا مستغفرًا ينتظر أمر الله على رضا ويقين، وهذا من توفيق الله لعبده، رحمه الله وجلّل قبره برضوانه ومغفرته.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الإثنين 04 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

14 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بسم الله الرحمن الرحيم
    أحسنت بارك الله فيكم ، فقد بذلت للشيخ بعض ما يستحقه من تخليد ذكره. وقدمت للأجيال قدوة صالحة تنير طريقهم، وتبعث هممهم. أما ما أحزنني فهو فراق الشيخ وفقده. ولقد وددت – وهذا محال- أنً تُخلد هذه الشخصية، وغيرها من الشخصيات المباركة التي عرفتم بها، لتطيب بهم الدنيا، وتعذب بهم الحياة، وتسعد بهم المجتمعات.
    وعزاؤنا أنّهم – بإذن الله- مضوا إلى دار خير وخلد تجمعنا بهم بفضل الله، وأنّ الأمّة التي أنجبتهم ولادة، لاتزال بخير ستأتي بأمثالهم، وبخير منهم، ما بقيت الأمّة تعتمد الوحيين؛ القرآن والسنة أساسين للتربية والتنشئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)