عبدالعزيز العبدالله الصقير وخصال السؤدد
قرأت أن الناس كانت تحب آل العباس رضوان الله عليهم، وتحرص على غشيان بيوتهم ومجالسهم، فعند عبدالله بن العباس العلم والحلم فهو الإمام الحبر المتبحر في علوم كثيرة، ولدى أخيه عبيدالله الطعام والكرم. وكم حجب الكرم من معايب وحال دون مزالق، وكم بالحكمة والعلم ينجو البشر من المضائق والزلل، ويا لهما من خصلتين بهما يُنال السؤدد، وبضدهما ينهدم المجد القديم؛ فمن ذا يصبر على البخيل الكنود، أو يرضى بصحبة جاهل رقيع؟
تذكرت خصلتي الكرم والعلم وأنا أسترجع ما سمعته في المجالس ومن أفواه الرجال، ثمّ ما قرأته عن رجل الدولة الكبير الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن علي الصقير (1315-1391) المولود في مدينة القرعاء المعدودة ضمن منطقة الجواء، والمنتسب لأسرة عريقة من آل نجيد التي انتقل بعض أفرادها ومنهم الشيخ عبدالله العلي الصقير إلى بريدة كبرى بلاد القصيم، ومنها انطلق الفتى عبدالعزيز للمشاركة مع العقيلات في تجارتهم بأرض الشام والعراق، وقبل ذلك أدى بنجاح عملًا عاجلًا ومهمًا لأكبر أنجال الملك عبدالعزيز الأمير تركي الأول (1313-1337 تقريبًا)، رحمة الله على الجميع.
وفي العراق افتتح ابن صقير مجلسًا توافد إليه جماعته من العقيلات ورؤوس قبائل العراق وكبار المجتمع البغدادي، حتى أتقن الرجل معرفة الشبكة الاجتماعية في العراق وفهمها، ولن يفلح إنسان في السياسة أو التاريخ دون معرفة خيوط الأنساب وتفصيلات الشعوب. وبسبب هذه الخصيصة استخلصه الشيخ إبراهيم بن معمر للعمل معه في المفوضية السعودية ببغداد، ونسب ابن معمر إلى ابن صقير الفضل في دقة المعلومات وصواب الرأي، ولذلك بادر الملك عبدالعزيز إلى تعيينه موظفًا رسميًا في مفوضية بغداد عام (1355)، ولم يحجب ابن معمر موظفه الجديد عن التراسل المباشر مع الملك عبدالعزيز، أو مع ولي عهده الأمير سعود-الملك لاحقًا-، وتلك سمة أكابر الرجال.
ثمّ ضاقت الحكومة العراقية بابن صقير ذي المعرفة الواسعة بمجتمع العراق وصاحب العلاقات المتينة مع رموزه، وطلبت نقله فلم يفرط به الملك سعود؛ وإنما أرسله للعمل في المفوضية السعودية بدمشق مع الشيخ عبدالعزيز بن زيد عام (1375)، وبعدها في بيروت مع الشيخ عبدالعزيز الكحيمي عام (1378)، وفيها كان مقامه حتى بعد تقاعده إلى أن توفي فنقل جثمانه إلى الرياض للصلاة عليه.
وخلال عمله في هذه السفارات لم يترك إنسانًا من أهل البلد يقدم على العراق أو سورية أو لبنان دون دعوته إلى وليمة، أو مساعدته في شأنه؛ حتى أنه يبحث عنهم في الفنادق، ويتنافس مع الآخرين على الاستضافة، وربما أحرج السفير بكثرة مآدبه التي يشترط على المستضاف أن تكون تالية بعد دعوة السفير، حتى ضجر منه السفير وترجاه أن تكون دعواته غير مربوطة بما سيفعله السفير.
هذا ملخص حياة الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير، ويمكن تحليل الملخص حتى يتضح للقارئ أسرار هذه الشخصية الفذة مع أنه لم يكن يحسن القراءة أو الكتابة. فالشيخ ينتسب لأسرة عريقة ذات تاريخ، ومجالس، وضيافة، وقد حمل معه هذه العادة الكريمة بفتح الباب، والاستقبال في المجلس، والترحيب بالقادمين من المقيمين أو العابرين بسفر أو إياب، وكم في المجالس من فوائد تعود على أصحابها ولو كانت بماء وشيء من قهوة وتمر وشاي فقط دون موائد، وما أجدر القادرين بفتحها، وما أنفع حضورها للكبار والشباب فمن دونهم من الصغار والأطفال.
فمن كرم الشيخ مجلسه العامر المفتوح، ومناسبات الغداء والعشاء الدائمة في بيته، وبحثه عن الأضياف بنفسه، وإذا اعتذر الضيف أرسل إليه في مقر إقامته الخراف مع أكياس الرز. وبسبب خصلة الكرم هذه تسابق مع الملحق الشيخ عبدالمحسن المنقور على إطعام الطعام وإغاثة الملهوف. وروى لي شاهد عيان أن الشيخ الصقير يملؤه السرور إذا أطال الضيوف البقاء على السفرة، وظهر منهم ما يدل على جودة الطعام، فيذهب إلى مطبخه سعيدًا يدعو لزوجته الكريمة النبيلة “منيرة الرشيد” وللعاملين في المطبخ معها.
أما ثاني أسرار شخصية الشيخ الصقير فهو تلك الحافظة العجيبة، والذهنية المقبلة على التعلّم والسماع ووعي ما يُروى ويقال، ولذا أحاط بالقبائل في أنسابها وأشعارها وأخبارها وسير رجالاتها، واستمرت معه هذه الخصلة في الجزيرة العربية والعراق والشام بمن فيها من بادية وحاضرة، ولم يهجرها حتى في لبنان إبان توهجها الحضاري، وشهد د.عبدالعزيز الخويطر في وسمه الطويل بأن المجالس البيروتية نبيلة مليئة بالعلم لا تملّ، وكيف يدركها الملل وفيها الصقير والمنقور والغنيم؟
ومن تبعات حصيلته العلمية أن أملى أو سجّل صوتيًا مادة علمية عن تاريخ أسرته الكبيرة آل نجيد، وعن بعض أحداث الجزيرة العربية، وعسى أن يرى النورُ أماليَ الصقير لتكون من ضمن مرويات تاريخنا المحلي التي تزيدنا نورًا. وقد أكسبه علمه حسن الجواب؛ فحين سأل شاب نزق عن نسب جليس وكرّر السؤال على مسامع الحاضرين، أجابه الصقير: هذا يفخر بنفسه وجهده وتعبه، وليس مثلنا نحن الذين نحمل نسب آبائنا، فانطفأت شرارة سؤال أحمق بحكمة المجيب وسعة صدر المسؤول عنه. ومن بديع ما ينقل عنه قوة الذاكرة؛ حتى أن مؤرخًا إنجليزيًا سأله عن القبائل والتاريخ فأجابه بإسهاب، وبعد سنوات أعاد الإنجليزي عليه السؤال ذاته، فسمع من الشيخ الصقير الجواب نفسه دون أن تسقط منه كلمة.
كذلك من بصيرة الشيخ عبدالعزيز، أنه حينما حلّ في بغداد ورأى مدارسها ونظم التعليم فيها، عزّ عليه أن يُحرم إخوته من هذا الخير، فكاتب أباه واستلحق إخوانه واحدًا تلو الآخر حتى تعلّموا ونالوا بفضل الله ثمّ بفضل أخيهم أعلى المناصب، وأصبح الشيخان علي وصالح من السفراء، وتخرج د.حمد في كلية الطب وتدرج حتى صار رئسًا لهيئة الهلال الأحمر، وترقى الأستاذ محمد في المناصب المالية وآخرها إدارة الصندوق السعودي للتنمية، وسمعت عن بعض كبارنا أنهم يتذكرون إخوة الصقير بلباسهم المدرسي في بغداد. ولم يقصر هذا الخير على إخوته فقط، بل شمل به جميع من استطاع تعليمهم، أو توظيفهم، أو حثّ آبائهم على ذلك، وهذا سرٌّ ثالث يشفّ عن نفس صافية وقلب نقي، يحب المصلحة العامة، ويسعى لنفع الآخرين قريبهم وبعيدهم.
لذلك يصدق على عبدالعزيز العبدالله تجاه إخوانه وصف “الأخ الوالد”، وهو وصف استحقه بحرصه عليهم، ونصحه لهم، ومتابعته لما يصلح شؤونهم ويضمن بأمر الله مستقبلهم، ولم يفعل هذا الأمر لأنه آيس من الإنجاب وتيقن أن الله قد كتب عليه العقم، وإنما صنعه في أول عمره وهو يطمع بالولد والذرية، والله يعوضه رفيع المنازل بالجنان. ولم يكفّ الرجل عن أبوته لإخوانه حتى بعد أن كبروا؛ إذ أرسل كتابًا في ظرف مغلق إلى أخيه وكتب عليه: إلى الابن محمد العبدالله الصقير حسبما أخبرني حامل الرسالة الأستاذ عبدالعزيز العلي الزبن.
كما شمل الشيخ بالفضل أبناء أسرته وغيرهم، إذ روى لي المهندس العقيد عبدالعزيز العبدالله الصقير أنه ذهب مع أخيه وابن عمه في بعثة إلى بريطانيا على حساب وزارة الدفاع في أكتوبر عام (1966م)، وتوقفوا في بيروت لمدة يومين كانوا خلالهما موضع رعاية الشيخ وعنايته. وقبل سفرهم إلى لندن أمر سائقه باصطحاب الشباب إلى السوق وشراء بدل شتوية ثقيلة لهم، وهم يمانعون تحرجًا من عمهم وكرمه دون أن يستجيب لرفضهم، ومنعًا لأيّ التفاف على أمره طلب من السائق أن يحضر الملابس إليه ليراها وهو ماكان. وعندما نزل الشبّان الثلاثة من آل صقير إلى المطار، ولفحهم برد الإنجليز القارص بادروا إلى الملابس ليستدفئوا بها، والتقدير لعمهم مع الدعاء له هو سيد الموقف آنذاك وحتى الآن.
أيضًا مما يروى عن الشيخ الصقير أنه علم بارتكاب أحد مندوبي البريد السياسي معصية شرب الخمر جهارًا في بغداد، فذهب إليه وأنبّه ونهاه عن المعصية وعن بلاء المجاهرة وعن سوء تمثيل البلد، ولم يلتفت الصقير لتهديد السكير الذي زعم أنه سينسج وشاية كبيرة ضدّ ابن صقير ويبلغها للرياض، ذلك أن الشيخ يعلم حكمة المرجع وحسن تدبيره. ومن هذا الباب أن الأمير عبدالله-الملك لاحقًا- سأل الصقير في مجلسه ببيروت قائلًا: بعض السياح في بيروت يشتكونك يا أبا سعود! فقال: هؤلاء يسيئون للمملكة برعونة أعمالهم، وأنا لا أتسامح مع من يسئ لبلادي! وتلك خصلة عزيزة لا يوفق إليها إلّا رجل دولة حكيم خبير، وهي من مفاتيح هذه الشخصية العظيمة.
ومن خصاله الكريمة تحرّزه عن الحرام حتى لو كان علاجًا، فلم يقتنع بتناول دواء وصفه له طبيب حتى زاره د.الخويطر في بيته بلبنان، وقرأ مكونات الدواء ليتأكد أنها خالية من الكحول، وحينها شرب الدواء وقال للخويطر: لا أريد مقابلة الله وفي “مصراني” شيء من الحرام. ومنها تعظيم جانب الثقة في التعاملات، فهو لا يملي كتابًا إلّا على ذي ثقة، ولا يزكي أحدًا من نجد لتجار العراق إلّا وهو مأمون لديه، وفوق ذلك يتابع الذين نالوا بتزكيته شراكة أو قرضًا حتى تنتهي معاملتهم مع الطرف الآخر على خير؛ ولا فرق عنده إن كان الطرف الآخر مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وتلك أخلاق الإسلام الحقة؛ فالأمانة والعهد تؤدى لأهلها أيًا كانوا.
وقبل أن أختم الحديث عن أبرز خصال الشيخ الصقير، أشير إلى علو كعب الشيخ إبراهيم بن معمر ثاني رئيس للديوان الملكي، إذ أحسن الإفادة من علاقات الصقير وعلمه، ونسب الفضل له فيما يرسله للرياض، ولم يحل دون تواصله مع الملك مباشرة دون وسيط. وبالمقابل نرى حنكة الملك عبدالعزيز حينما جعل ممثليه في العراق -وهي أكثر البلاد المجاورة له أهمية وحرجًا- رجلين مثل ابن معمّر، ثمّ الصقير الذي اصطفاه بمجرد معرفة مواهبه دون أن يبحث عن كلّ صغيرة وكبيرة في تاريخه سواء حول كلمة قالها، أو عن أناس صاحبهم.
والشيء بالشيء يذكر، إذ كان الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير يملي رأيه حسبما يقتضيه علمه واجتهاده، وطبقًا لما يطوي عليه صدره الذي لا يعلم عن مكنونه إلّا الله سبحانه، ولا يبتغي حين الإجابة إرضاء السائل، أو موافقة هوى الحاكم، وهذه لعمركم خلّة نفيسة لا يقوى عليها إلّا الصادق الأمين الواثق من نفسه، السليم من الغلّ والغش، والبعيد عن ملاحقة مصالح الذات، وبمثلها تصلح الأحوال، وتبرأ الذمم، فما أجلّ المجيب وهو حرٌّ في جوابه وإملائه، وما أوسع صدر المستقبِل وهو يجد رأيًا لا يتقاطع مع ما في نفسه.
لأجل ذلك استمر تقدير بيت الحكم لشخصية الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير متوارثًا لدى الملوك والأمراء والعاملين معهم من الوزراء والمستشارين، فرأيه مسموع وذو مكانة، وتوقيره لا ينقطع مع ديمومة زيارته وتقديره وتلبية طلباته إن وجدت. وحين توفي بعد تقاعده بسنوات أُرسلت طائرة خاصة لنقل جثمانه كي يدفن في أرض آبائه وأجداده تنفيذًا لوصيته، وتوافد الأمراء والعلماء والوزراء والوجهاء إلى منزل أسرته للعزاء في رمز نادر لامع، وعلى مثله تدمع العين ويحزن القلب.
ومن طريف أخبار ابن صقير، أنه حضر إلى جدّة وأراد استثمار وجوده فيها لاستخراج أوراق ثبوتية مثل “التابعية أو حفيظة النفوس”، ولأنه قضى أكثر عمره خارج البلاد طلب منه الموظف أن يثبت بأنه سعودي بإحضار أوراق رسمية أو شهود كما يوجب النظام المتبع آنذاك! فذهب الصقير لزيارة الملك فيصل، وبعد نهاية اللقاء قال للملك: أريدك أن تشهد لي حتى أحصل على أوراق ثبوتية، فتعجب الملك من هذا الموقف لدرجة الغضب، وأمر بإنهاء الأوراق من فورها دون تأخير.
كذلك أذكر أني سمعت قصة عنه مختصرها أنه حينما ذهب للتجارة في العراق مع مجموعة من الناس، لم ينل من الأرباح المالية ما يتمناه، وذات ليلة رأى في منامه أنه واقف مع رفقته أولئك على رصيف بغدادي، وإذا بقطار أسود ضخم يعبر من عندهم مسرعًا، فتعلّق به ابن صقير فقط! وهي رؤيا لافتة رواها لعابر عراقي في بغداد فقال له: إن صدقت رؤياك فسوف تلتصق بمُلكٍ أو بمَلك عظيم- النسيان مني- وهو ماكان.
ومن اللافت أنه بعد وفاة والدة الشيخ عبدالعزيز مزنة بنت محمد الفراج حثّ والده على الزواج؛ كي لايكون عبدالعزيز هو الابن الوحيد لأبيه، فاقترن والده بلطيفة بنت محمد الربدي وأنجبت ابنيه علي وصالح، ثمّ تزوج بعيد ذلك من قريبته لولوة بنت سليمان الصقير التي أنجبت ولديه حمد ومحمد، وهذا التصرف من الشيخ عبدالعزيز يدل على البر بالأب، وبعد النظر، واستباق المآلات، فلو لم يفعل ذلك لدرجة تشبه الإصرار لانقطع نسل والده إلى الأبد.
إن هذه الشخصية النبيلة العريقة بخصالها الجبليّة والمكتسبة، وبالطارف منها والتليد، لجديرة بأن تُدرس للآباء والسفراء والمسؤولين درس فحص وتحليل، كي تغدو نموذجًا ومثالًا؛ ليعلم المخلصون كيف تكون تربية الأبناء، وليعرف الطامحون أن الأخلاق الصالحة لا تمنع من النجاح بل ربما تكون سببًا له، وليستيقن أهل المناصب أن الكبير أكبر من أيّ منصب، وأنّ الصادق في رأيه خير ألف ألف مرة من أولئك الكذبة الذين يتأكّلون بالموافقة أو السبق أحيانًا بإجراء دونما قناعة وإنما بحثًا عن كتفٍ يأكلونها، ولعاعة من دنيا يلعقونها، وإذا كانت صلاة المأموم تبطل بموافقته لإمامه أو بمسابقته له أو بتأخره عنه، ولا تصح إلّا بمتابعته ما لم يخلّ بركن منها، فغيرها من شؤون الدنيا من باب أولى، وتلك قاعدة واضحة يؤمن بها الثقات ذوو الأهلية، ولا تطرأ على بال الدخلاء حديثي النعمة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 24 من شهرِ شوال عام 1442
05 من شهر يونيو عام 2021م