سير وأعلام عرض كتاب

محمد أبو ملحة ونصف قرن من الطموح

محمد أبو ملحة ونصف قرن من الطموح

هذه سيرة سعودي عربي مسلم في قلبه وعقله ولسانه وجوارحه، وسيرة ألماني في طريقة أدائه وضبطه المتقن قدر المستطاع، والإتقان واجب شرعي تزحزح عن مكانه ومكانته في مجتمعات المسلمين مع الأسف، وظفرت به أمم مثل الألمان وشعب اليابان، وعسى أن يعود إلى وضعه الصحيح في داخل نفوسنا أولًا، ثمّ في واقعنا الفردي، والمجتمعي، والرسمي في شتى المجالات؛ وكيف لا يكون وربنا العظيم يحب من العامل الإتقان؟!

عنوانها: نصف قرن من الطموح: السيرة الدراسية والمهنية لطبيب سعودي، تأليف: د.محمد سعيد أبو ملحة، صدرت طبعتها الأولى عام (1441)، وتقع في (163) صفحة، مكونة من إهداء وثناء، فتقديم ومقدمة، ثم أربعة فصول، فتعريف بالمؤلف. يتحدث الفصل الأول عن دراسة التعليم العام، والثاني حول دراسة الطب، بينما يقف الثالث مع التدريب والتخصص، ويختم الرابع بممارسة العمل المهني في الرياض، وعلى غلافه الأمامي صورة قديمة لبيوت مدينته الآسرة الشامخة أبها. والمؤلف نجل أسرة عريقة معروفة في تاريخ الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية.

أهدى الكاتب عمله لزوجته سلمى ولأنجاله فارس، وعمرو، وعبير، وأريج، ولمى، وعبدالله، وعبدالعزيز، ولأولادهم واهبي البهجة لجدهم. وأثنى على رفقته الذين راجعوا الكتاب وهم اللواء عبدالقادر كمال، ود.إبراهيم الخضير، ود.عثمان الربيعة. ثمّ كتب أ.د.فالح الفالح تقديمًا أنيقًا لكتاب زميله واصفًا الكتاب بأنه وثيقة مهمة للطموح والمنجزات والإلهام، ومشيدًا بفقرة “ملامح ومشاهد” التي أضافها د.محمد في نهاية كل فصل.

حينما نقرأ الكتاب سوف نعقد الخناصر أننا أمام رجل امتلأت حياته بالجدية والصرامة والإنجاز، مع الإصرار والمصابرة، وللتدليل على ذلك أشير إلى أنه مؤسس لستة عشر عملًا مرتبطًا بتخصصه في الكلى ثمّ جراحة المسالك البولية، وهو التخصص الذي كان فريدًا حينما درسه، ولا يوجد له أقسام خاصة في مستشفيات المملكة، فضلًا عن الجمعيات والمؤتمرات والدراسات العليا والمراكز، وهو ما أصبح اليوم علامة واضحة تشهد للرجل وصحبه الأوائل.

ولم ينهمك الطبيب في عيادته وغرف العمليات فقط مع جسامة هذا العمل، وإنما صرف جزءًا من وقته وتعبه نحو التدريب؛ فتخرج على يديه مباشرة خمسة وعشرون طبيبًا في جراحة المسالك البولية، ونشر ثمانين بحثًا في دوريات محكمة، وألقى مئة وتسعين بحثًا في مؤتمرات طبية، ونظم أربعة عشر مؤتمرًا طبيًا محليًا وعالميًا، وأعدّ ثمان عشرة دورة طبية، وألّف خمسة كتب في التخصص، وشارك في عضوية إحدى عشرة جمعية علمية طبية، مع عضوية التحرير أو التدوين في سبع دوريات متخصصة، وتحكيم أبحاث عديدة، ومن وقف مع مؤلفنا على مسيرته فلن يستكثر عليه أن يهدي سيرة طموحه إلى رفيقة دربه، ولن يتعجب من تجافيه عن المناصب الإدارية.

وقد يخطر على البال أن هذه السيرة العملية تخلو مما يستطرف، بيد أنها ذات طرائف لا تخدش حياء الأغرار ولا الكبار ولا المخدّرات والله يزين بالحياء حياتنا ومباهجنا ومناهجنا. فمنها أن الأهالي كانوا يشاركون مع طلاب المدارس في الأنشطة الرياضية التي يمارسونها خارج أسوار المدرسة الضيقة، وأن أحد زملاء الدراسة أخفى عن والده الزائر من قرية مجاورة مظاهر التمدن من الصابون والملاعق!

كذلك حين دخلوا محل ملابس في ألمانيا بعد أن جذبهم في طريقة العرض، فشرعوا بمعاينة الملابس حتى داهمتهم صاحبة المتجر مهددة باستدعاء الشرطة، واتضح لهم بأن المكان مغسلة ملابس وليس متجرًا للبيع! ومن ضمنها غضب سائق سيارة الأجرة منهم، وإنزالهم من السيارة مع حقائبهم رغمًا عنهم وهو في حال حنق؛ حتى تبين لهم أن محطة القطار التي طلبوا منه إيصالهم لها تقع بجوارهم تمامًا! ولا تنتهي الطرائف عند هذا، فلطالب سعودي داكن البشرة مواقف حينما زار قرية صاحبه الألماني؛ فغدا البيت مزارًا لأهل القرية وهم ذهول من وجود رجل أسمر، ويتحدث الألمانية بطلاقة؛ بل ويطلق طرفًا محلية وكأنه ألماني الجدين. وللمؤلف حكاية مع إطارات سيارته في بريطانيا أوقفته أمام القاضي في المحكمة وخرج ببراءة تامة.

أيضًا تحوي السيرة مواقف وذكريات؛ منها أنه درس الطب تأثرًا بوفاة والدته بعد ولادة متعسرة. وإكماله تعليمه العام في الطائف بسبب حرب اليمن، وحضوره مع رفقته في الطائف من إخوانه وبني عمه كلمة شهيرة للملك فيصل في ميدان البيعة بجدة ردد فيها كلمتي “حاشا وكلا” حتى غدت شائعة على ألسنتهم اقتداء بالملك ذي الرمزية الكبيرة محليًا وإقليميًا وعالميًا. ومنها تكاتف الطلبة السعوديين في ألمانيا، والخدمات التي قدمها سعوديون من الموظفين في المملكة أو في ألمانيا وبريطانيا، مع ذكرهم بالأسماء، والثناء عليهم، وإن الشكر لعبادة عظيمة يحبها الله، وتبقي فينا الفضل والمعروف والخيرية.

كما تشتمل السيرة على طريقة الألمان في الدراسة والعمل والتدريب والاستقطاب، وجديتهم البعيدة عن المظاهر؛ فعميد الكلية لا يأنف من الذهاب لعمله على دراجة هوائية! ومن خبرها الألماني عراقة الجامعات التي تعود إلى مئات السنين، وارتفاع تصنيفها داخل ألمانيا، واعتزاز القوم بلغتهم إن بالحديث بها، أو بتعليمها عبر معهدهم الأشهر المسمى على رمزهم الثقافي “غوته”، وهي طريقة في التسمية تكاد أن تكون نادرة في عالمنا العربي. ومن أجمل صنيعهم أن يأخذ الأستاذ طلابه بسيارته الخاصة لأداء الامتحان عدة ساعات على ضفاف بحيرة في غابة، أو في حديقة منزله.

 وفي الكتاب أوليات كثيرة لصاحب السيرة، سواء في التخصص الدقيق، أو افتتاح القسم، أو إجراء عمليات زراعة الكلى، أو استجلاب أجهزة سبقت بها المملكة جميع دول الشرق الإسلامي ودول ضفة الأطلسي الأخرى، أو ضمن الأندية والمؤتمرات المقامة محليًا. وفي بعض جهودهم عناء ومتابعة أثمرت ولو بعد سنين، وجميع خبراته التأسيسية تصبُّ غالبًا في خانة الأوليات، والأجر عند الكبير الكريم. ولم يترك السيرة دون إشارة إلى خبرته في القطاع الطبي الخاص، ثمّ يكرر حرصه على محاربة الجشع في التعامل مع المريض؛ لأن التجارة تفسد الطب، وهي تفسد التعليم أيضًا، وما أجدرهما بالحماية من خلال الاستثمار الوقفي فيهما.

هذه سيرة دراسية ومهنية وليست شخصية، مختصرة مترعة بالمنجزات والمفاخر، خالية من الأنا وبخس الآخرين حقوقهم، ففيها ثناء على أسماء كثيرة من الراحلين أو الباقين. وكم أتمنى أن يحذو كل ذي تجربة حذو أبي فارس في كتابة شيء من سيرته سواء اكتفى بالعملي منها، أو سطرها شبه كاملة، لأن هذا المسلك يبقي فينا مواضع القدوة، ويجعل العراقة متوارثة في المؤسسات والأسر والمجالات.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الثلاثاء 15 من شهرِ رمضان عام 1442

27 من شهر أبريل عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بارك الله للدكتور محمدسعيد ابو ملحة . وهو يهدي الكتاب لرفيقة دربه . مما لايقبل الشك ان وراء كل زوج ناجح زوجة ناجحة رفيقة الدرب وام اولاده .التي تستحق الشكر والتقدير على ماتبذله من جهد تساعد الزوج التفرغ لاانجاز مهامه على اكمل وجه . ولا ننسي الكاتب الفاضل دور زوجات الكتاب الفاضلات في نجاح ازواجهم في اتمام مهامهم وهم يرفدون القراء بهذه المقالات الممتعة التي تستحق القراءة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)