حمد القاضي مع الكلمة والعطر!
شاركت البارحة في لقاء جميل ذي إثراء، استضافت فيه مبادرة حرف الكاتب والأديب الأستاذ حمد بن عبدالله القاضي، ضمن برنامجها الثاني للتدريب على الكتابة. تحدّث الأستاذ القاضي لمدة ساعة تبعتها ساعة حوارية، ولولا خشية الإطالة عليه؛ لامتدّ اللقاء إلى سهرة طويلة مع قريب من سبعين شابًا وشابة، من شداة الكتابة الذين يُنتظر منهم أن يكونوا في المستقبل الآتي كاتبات وكتّابًا؛ وهم الذين تفاعلوا مع تلك الأمسية نثرًا وشعرًا.
لفت نظري في سيرة الأستاذ القاضي الذي سحر المستمعين بالعذوبة والتلقائية والنقاء، أنه منشغل حاليًا بأعمال في مجالس عليا لمؤسسات ثقافية، ترتبط بشخصيات أدبية وفكرية مثل الشيخ حمد الجاسر، والدكتور غازي القصيبي، وكذلك مع مؤسسات صحفية ولغوية مثل صحيفة عكاظ، ومركز الملك عبدالله الدولي للغة العربية، وهذا الملمح يعطينا صورة حقيقية عن رجل يعيش مع اللغة وبين حروفها، وكلماتها، وأساليبها، وتراكيبها، ولولا اللغة والكتابة لأمضى أوقاته بين أصناف العطور والبخور، والطيبون للطيبات.
أيضًا ألّف القاضي ثمانية كتب، منها ثلاثة عن رجال دولة من الوزراء الكتّاب الذين كانت له بهم علاقات متنوعة، ولكلّ واحد منهم خصيصة وزارية في تاريخ مجلس الوزراء السعودي، فأولهم الشيخ حسن آل الشيخ الذي يُعد أصغر وزير في تاريخ المجلس من غير الأمراء، وقد وافته المنية على مكتبه في وزارة التعليم العالي، والثاني الدكتور غازي القصيبي أحد أشهر وزراء السعودية، ومن قلّة غادروا المجلس ثمّ عادوا إليه بعد عقدين، والثالث هو الدكتور عبدالعزيز الخويطر صاحب أطول عضوية في تاريخ مجلس الوزراء من غير الأمراء، إضافة إلى توليه عدّة وزارات أصالة أو تكليفًا؛ حتى لُّقب بمعالي الوزراء، ولولا فراستهم فيه، ووجود مشترك أدبي بينهم، لما نال ذلك القرب منهم.
ويستبين من مسيرة الأستاذ الأديب حمد العبدالله القاضي ركائز ثابتة، فهو رجل يحب الوسطية والاعتدال في القول والفعل؛ تلك الوسطية المظلومة بين أناس ينفونها، وآخرين يشوهونها بالانفلات والتمرد. ولربما أن تربيته البيتية والأسرية، مع ثقافته المتوازنة، وقربه من شخصيات كثيرة متباينة، ساهمت بعد توفيق الله وفضله بهذا التوازن الحميد الذي بان أثره على مستوى القبول الرسمي والشعبي الذي يحظى به. ولا ينسب أستاذنا النجاحات لنفسه؛ إذ يشيد بمساندة الشيخ حسن آل الشيخ للمجلة العربية، وبمؤازرة الدكتور عبدالعزيز خوجه لبرنامج رحلة الكلمة خلال عمله وكيلًا لوزارة الإعلام في أيام الشيخ د.محمد عبده يماني، ولا يجد غضاضة من الاعتراف بأنه لم يرضَ عن أحد كتبه، وأن المرافئ يمثله تمامًا.
كذلك امتاز الأديب القاضي باستثمار علاقاته في أعماله الثقافية، ولذا كتب في الملاحق الصحفية التي أشرف عليها، وفي المجلة العربية، وظهر معه في برنامجه التلفزيوني “رحلة الكلمة”، قامات علمية وأدبية وفكرية، مثل الإمام ابن باز، والعلامة الجاسر الذي بدأ نشر سوانحه في المجلة، والأديب ابن خميس، والدكتور القصيبي، والسفير المبارك، والشيخ ابن عقيل، وغيرهم، هذا عدا أسماء عربية استضافها لتكتب أو تتحدث، وما أجمل الاستضافة، وصرف الجهود، ودفع الأموال على شيء يعود بمنفعة دنيوية أو أخروية، ولا يكون فيه مذمة أو منقصة، غير ما في هذا النهج الحكيم من سماع الآخرين وإسماعهم.
أما في منهجه الكتابي فيعظّم من شأن الفكرة، ويوصي بالتروي حتى تكتمل في ذهن صاحبها، ثمّ يكسوها أسلوبًا خاليًا من التكلّف، على أن يكون الكاتب ملتزمًا بالموضوعية والصدق، مقبلًا على كتابة ما يلين له ويطاوعه، مستأخرًا عمّا يستعصي عليه؛ فيرجئه إلى زمن آخر حتى تسعى إليه الكتابة تسحب أذيالها طائعة راضية غير مستكرهة ولا ممتنعة، فالفكرة لديه تخاطب العقل، والأسلوب يأسر القلب، ولا يغدو الحال على هذه الهيئة دون لوازمه المشار إليها.
وهي تقنيات تفيد الشغوف بالكلمة والكتابة؛ حتى لا يكون منتجه عسرًا نكدًا، ثمّ يضيف إليها الكاتب القاضي لمحة تبرق مثل جوهرة درية، وخلاصتها ألّا تكون الكتابة لأجل المال أو الشهرة، وإن جاءت عرضًا بعد حين فلا بأس؛ وصدق القاضي ففرق بين كاتب أو شاعر ناشر للوعي والمعرفة في أصل عمله، وبين آخر تاجر متاجر. وختم الأستاذ حديثه عن الكتابة بقول لا يخرج إلّا عن عاشق لفاتنة؛ إذ جزم بأنّ الكتابة متعبة، ولذيذة في آنٍ واحد.
كما يُعلي أستاذنا من شأن تفاعل القارئ مع الكاتب ولو لم يتوافقا على الرأي ذاته؛ ولذلك يوصي أيّ كاتب ألّا يعجب من الطريقة التي اجتهد بها الآخرون، وفهموا ما كتبه بناء عليها، ويعطي مساحة لسماع الآراء الأخرى؛ وهذه المساحة تزداد منفعتها باتساعها، وأول من يجني ثمارها الكاتب نفسه وإن لم يقبل جميع المقترحات والملاحظات الواردة إليه، فما أجمل أن يكون للكاتب نوافذ يرى منها، ويُرى.
من مواقفه مع الكلمة مكتوبة أو منطوقة، قوله إن نار الصحافة أخرجته من جنة الأدب، وحين نشر لشاعر قصيدة دون المستوى المقبول عاتبه القصيبي متوعدًا بألّا ينشر في ملحقه شيئًا إن كرر نشر قصيدة مثل تلك! وله مع الأديب الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل مواقف طريفة، أبرزها حين أعفى ابن عقيل من كتابة مقالته الشهرية في المجلة العربية بسبب تأخره؛ فثار سجال ثقافي شعرًا ونثرًا بين أطراف عديدة، وربما أنه لو جمع لكان لطيفًا. ومن المواقف كلماته إلى أمين الرياض الشيخ عبدالله النعيم التي صارت بفعل التصحيف لكمات بيد أنها على الورق، وحوار مع صدر مفتوح، وإعلان عن ميزانية لم تعلن!
ومن الطرائف ذات العبر، أنه ذهب لمتابعة افتتاح وزير الشؤون الاجتماعية الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل لمشروع تدريب على الحلاقة، والتقط المصور المرافق للقاضي صورة للوزير وهو حاسر الرأس على كرسي الحلاقة، ثمّ كتب القاضي مع الصورة تقريرًا ودفعه لصحيفته، وحينما عاد لمنزله تواصل معه زميل من صحيفة أخرى حضر المناسبة ذاتها، وحذّره من مغبة نشر صورة الوزير؛ لأنّ هذا الصنيع سيقضي على مستقبله الصحفي! فذهب القاضي مباشرة لصحيفته، وأقنع زملاءه بحذف الصورة مع إصرارهم على نشرها لأهميتها، وفي الغد ظهرت الصورة المنهي عنها في صدر صحيفة الزميل صاحب النصيحة، وخرج القاضي من تجربته بدرس فحواه ألّا يسمع “نصيحة” من منافس.
فيا تُرى، بعد تلك الليلة الأنيسة ذات الفوائد، هل سيجلس الأديب الكاتب حمد القاضي إلى مكتبه، ليسجل لنا سيرته جميعها، أو القسم الثقافي منها على الأقل، وهل تبادر إحدى المكتبات العامة، أو الأندية الأدبية، أو المؤسسات الثقافية، إلى مشروع يستند على إجراء حوارات عميقة مع الكتّاب، ثمّ نشرها عبر سلاسل، كما يفعل بعض العرب وكثير من الأجانب مع رموزهم الثقافية والعلمية؛ حتى نعلن للعالم بأن بلادنا ثريّة جدًا، وليست ثراؤها بالنفط فقط.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 18 من شهرِ شعبان عام 1442
31 من شهر مارس عام 2021م