عبدالرحمن الجعفري وتقليب صفحات العمر
صفحاتٌ من كتاب العمر هو عنوان السيرة الذاتية التي كتبها معالي الدكتور عبدالرحمن بن أحمد الجعفري (1940-0000)، وصدرت الطبعة الأولى منها عام (1442=2021م)، وتقع في (446) صفحة، وعلى غلافها الأمامي الأبيض لوحة مرسوم عليها صورة المؤلف بوقاره وهندامه الأنيق، ويشتمل الكتاب على إهداء لستّة أطراف أربعة منهم ضمن أسرته، فأساتذته والوطن الغالي، وعقب الإهداء مقدمة بين يديّ الكتاب، ثمّ أحد عشر عنوانًا تحت كلّ واحد منها موضوع مرتبط بعنوانه دونما ميل.
عكست هذه السيرة الطبيعة الشخصية لصاحبها، فهي سيرة جادة، أنيقة، وقورة، منظمة، متسلسلة، ولغتها جميلة، وخالية من الأنا الطافحة في سير أخرى بطريقة تفوق المعقول، وبريئة من همز الآخرين أو لمزهم خاصة من سبقه في عمل أو لحقه في منصب، بل إن الشخصيات العامة الواردة في الكتاب مذكورة بإجلال وتقدير، مع حفظ جهودهم التي قد لا تعرفها الأجيال الحاضرة كما في إشارته الوفيّة للدكتور صالح أمبة أول عميد لكلية البترول التي أضحت جامعة فيما بعد، وثنائه على مواقف وزير البترول الشيخ أحمد زكي يماني تجاه هذا المشروع الذي أسهم في صناعة رجال النفط من المواطنين، وإشادته بمواقف الملحق التعليمي بأمريكا الشيخ عبدالعزيز المنقور مع الطلاب المبتعثين، وإشارته لتعاون وزير الصناعة المهندس عبدالعزيز الزامل معه إبان عمله الخليجي، وكذلك وزيرها الأسبق د.غازي القصيبي في توصيته لوزراء في دول خليجية بالتعاون مع المؤلف لإكمال دراساته المتعلقة بأطروحة الدكتوراة.
كما تبدي السيرة وتظهر ولا تضمر فقط الحبّ الكبير الذي يكنّه د.عبدالرحمن الجعفري لعائلته، وأسرته، وبلدته الأحساء، وموطنه السعودية، وإقليمه الخليجي، ومحيطه العربي، وأمته الإسلامية، وهو حبٌّ يتعدد ولا يتعارض البتة إلّا عند من ضاق أفقه، وقصر نظره، فليست محبة الولد بمنقصة شيئًا من توقير الوالد، ولا تمحو الوطنية الحقّة الانتماء الأوسع للأمة، وهذه المفاهيم بدهيّة جعلها بعض الثقلاء مجالًا للابتلاء مع أنها ظاهرة عالمية؛ فالألماني يتعصب لأوروبا ولعرقه الآري، والفرنسي يهبّ لمساعدة النصارى في لبنان وأرمينيا دونما نكير.
وفيها خلاصات إدارية وأكاديمية نافعة لأيّ مدير أو مسؤول أو أستاذ جامعي، من جنس قوله: التزمُ بأيّ عمل بثلاثة مبادئ هي: الإنتاجية العالية، والتشجيع والمساندة، والقرارات الجماعية، وإن أحسن ما يكون العمل حين يصبح هواية للموظف، ومن خبرته في خدمة العمل الخليجي المشترك أمينًا عامًا لمنظمة الخليج للاستشارات الصناعية يرى أن تجربة إدارة عمل له تاريخ سابق توجب دراسة القوى المسيطرة عليه، ومعرفة التنظيم الخفي فيه قبل إصدار أيّ إجراء أو قرار.
ويوصي بإبعاد المنظمات المشتركة عن الخلافات السياسية؛ فهي هيئات مهنية وسوف تفقدها السياسة مصداقيتها، ويؤكد على ضرورة المرونة في العمل المشترك، ومعرفة خلفيات ممثلي الدول الأعضاء، وهذا الفصل هو أطول فصول الكتاب، وكم أتمنى أن تستفيد وزارة الخارجية من خبرة معاليه وغيرهم من السعوديين الأحياء -وهم كثر- في رئاسة أو أمانة المنظمات الإقليمية والدولية مثل -مع حفظ الألقاب- السديري والحجيلان والجزائري والتركي وغيرهم؛ كي يقتبس الجيل الجديد من تجاربهم، وينافسوا بجدارة على مقاعد قيادة المنظمات الدولية والإقليمية.
أيضًا من دروسه الإدارية أهمية مراعاة التوازن في التعامل مع دولة المقر أو الدولة التي ينتسب إليها الأمين العام كي لا تحظى بأمر زائد على بقية الأعضاء، ومن نفيس ثماره الإدارية قوله: إن العنتريات الإدارية في استئصال كلّ من يخالف الرأي السائد، أو يكون تعامله صعب المراس تصبح أكثر تعطيلًا للتغيير! ويجزم أن عمل الأستاذ الجامعي يتركز في التدريس، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع؛ ويخلص إلى أن الأمم لا تتطور إلّا من خلال جودة التعليم، والتطوير العلمي، وزيادة الانفاق على البحوث العلمية، والتطوير والإبداع في المؤسسات الإنتاجية، ويقول في السياق ذاته: مراكز البحوث الإستراتيجية ضرورة لكلّ دولة؛ فهي عيونها نحو المستقبل، والأمة التي ليس فيها مراكز بحوث إستراتيجية هي أمة عمياء لا تعرف إلى أين تتجه!
كذلك تحوي السيرة وصفًا للأحساء طبقًا لمشاهدات ابن الأحساء في خطواته الحياتية الأولى، وأشار إلى قدوم أسرته العريقة قبل خمسمئة عام من المدينة النبوية، وتولي جدهم الأكبر الإمامة وتدريس الفقه الشافعي، ومن إكرام الله لهذه الواحة الجميلة التي كانت صاحبة أكبر خراج يصل للمدينة في صدر الإسلام، أن أصبحت تضم أكبر حقل نفطي في العالم! وقد انطلق في وصف بلدته الأثيرة وصفًا سيزداد نفاسة عبر الأيام، إذ نقل لنا شيئًا عن أعراسها، وطعامها، وطرقها، وبيوتها، ومدارسها، ومساجدها، ومذاهبها الفقهية والعقدية المتعايشة، وأميرها الحازم، ولباس الطلاب، وقدامى الكتاتيب والمعلمين، ومنهم الشيخ عبدالمحسن المنقور.
ولا يخلو الكتاب من موافقات لطيفة وطرف ماتعة مع قلتها، منها أن اسم جده لأبيه ولأمه عبدالرحمن، واسم جدته لأبيه وأمه فاطمة، ويشبه في ذلك المؤرخ نقولا زيادة فاسم جديه عبدالله -مع أنه غير مسلم-، واسم جدتيه وردة، ومنها أن زوجة المؤلف أمريكية تعود لأصول عربية وأسلمت على يديه قبل زواجهما، وصارت شريكة أصيلة له، ومستشارة أمينة في جميع شؤونه بما فيها هذه السيرة التي تحضر فيها بوضوح أو خلف الرجل المهيب الناجح، ومن خبر الأسماء أن أطلق على نجله اسم “خالد” وليس “أحمد” على والده كالمعتاد؛ لأن والده تمنى ذات يوم أن يسمي أحد بنيه خالدًا.
ومنها أنه أراد استخراج تابعية فشهد له صديقان أحدهما من الرياض والآخر من شقراء، فرفض الموظف إجازة الشهادة لأنهما لا يعلمان عن تاريخ ميلاد ابن الأحساء وهو استنتاج منطقي، بيد أن الشيخ محمد بن ضاوي مدير الجوازات والجنسية تسامى بحسه الإداري ومرونته المنضبطة، فقبل الشهادة وكتب للموظف وأنا أشهد أيضًا، فاستخرج وثيقته التي مكنته من أداء الامتحان، وله في بعثته حظّ بالسكن مع طباخين مهرة، وواقعة قيادة السيارة على الثلج، وجلوس والده إلى جوار زوجة صاحب السيرة وهي تقود سيارتها ويتساءل الأب مازحًا: متى اشتري لأمك سيّارة في الرياض!
كذلك من قصص الكتاب مشاركته مع زملائه في الدفاع عن مصر إبّان العدوان الثلاثي عام (1956م)، وإبراقه للملك سعود مع زميله د.فهد العبدالجبار طالبين التطوع للقتال ضد المعتدين، ومسيرتهم وسط الرياض بلباس الكشافة لجمع الدعم المالي للمجاهدين في الجزائر، وكان الشاب الجعفري هو خطيبهم حتى وصلوا إلى قصر الأمير خالد-الملك لاحقًا-؛ فدخلوا وحصلوا على مبلغ ضخم من ساكنة القصر.
ومنها حكايات سفره المبكر إلى مصر ولبنان مع عمّه ثمّ عائلته وكلتاهما للعلاج، وما رآه من مشاهد غريبة على عينيه خاصة في بعض الملابس والحركات الخادشة للحياء من بعض النساء، إضافة إلى رخص الأسعار إذ يكفي الجنيه الواحد لإطعام خمسة أشخاص، وتعاون الناس هناك حتى جلس على مائدة النّزل اللبناني عرب من أديان ومذاهب شتى وهم في قمّة الأنس والصفاء، ومن إشاراته الرائقة في الكتاب تفضيل تمر الخلاص على نبوت السيف! وكيف صارت أمه سيدة بيتها بعد زواجها بستة عشر عامًا، ولماذا جمع من خلال بناته الكريمات بين الدين والدنيا معا؟
أما مسيرته ومعاناته مع الدراسة والتعليم فهي تصف الجدية والإصرار والكفاح، وتجاوز العوائق منذ الابتدائية حتى نيله شهادة الدكتوراة، وأجزم أن تلك المنغصات التي صادفته في كلّ مرحلة دراسية كانت كفيلة بقطع مشواره التعليمي لولا فضل الله عليه، ثمّ تمسكه بهدفه الذي كان نصب عينيه، فلم تحل دون مبتغاه قلة المدارس، وغياب الأب ثمّ الأسرة، وتصرفات الطلاب الكبار المقرفة، والجمع بين العمل والتعليم، وإعادة الدراسة الثانوية، ومرض الوالد، وتغيير التخصص، وصعوبة اللغة، وخيبة الأمل من تعسر البعثة، وعثرات الدراسة، وضعف التعاون في منح المعلومات لأجل الدراسة الإحصائية، وخلال مشواره التعليمي لم ينس الثناء على إخلاص قدامي المعلمين من فلسطين ومصر وغيرهما من بلدان العرب، وإبراز جهودهم في المشوار المدرسي المحلي.
كذلك تحمل السيرة عددًا من الأوليّات، فهو أول فرد من أسرة الجعفري الطيار يبتعث للدراسة في أمريكا، ودرّس في كلية الإدارة الصناعية وهي أول كلية من نوعها محليًا وربما إقليميًا، وفيها برامج غير مسبوقة وأول معمل للحاسب الآلي، وتنتمي لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن أول جامعة خليجية-وربما عربية- بهذا الاختصاص، وصاحبة أول مدينة جامعية في السعودية، ومثّل د.الجعفري مجلس الشورى في أول مؤتمر تشارك فيه المملكة بعد عضويتها في الاتحاد البرلماني الدولي، ومن المفاجأة أن القرعة وقعت على أبي خالد ليكون أول المتحدثين في ذلكم المؤتمر، ونالت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات في عهده جائزة سعفة القدوة الحسنة للنزاهة والشفافية في دورتها الأولى، ومن المحزن في الأوليّات أن والده الشيخ كان أول متوفى في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض بعد افتتاحه الرسمي.
ثمّ ختم المؤلف سيرته بالحديث عن التقاعد على أنه مسيرة على صعد أخرى، فالعطاء هو سر السعادة والبهجة وليس الأخذ، وحمد الله أن شارك في خدمة المملكة، ونفع الأحساء التي وضعت بجهود أهلها على قائمة التراث الإنساني العالمي، وصِلة أسرة الجعافرة آل الطيار التي أصبح عميدها، مع توافر الوقت والصحة للقراءة، والكتابة، والسفر، والتنعم بالحرية، وممارسة العمل التطوعي، ويحمد الله كثيرًا -ونحن معه- أن استطاع تدوين سيرته وهو في عقده التاسع وبكامل ملكاته العقلية، والله يمتع به.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 18 من شهرِ رجب عام 1442
02 من شهر مارس عام 2021م