عمان كما شاهدها ولستد
عنوان هذا الكتاب: تاريخ عمان: رحلة في شبه الجزيرة العربية، تأليف جيمس ريموند ولستد، ترجمة عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم -وهو أستاذ وباحث سوداني متخصص بالجزيرة العربية والخليج-، وقد صدرت الطبعة الأولى منه عن دار الساقي عام (2002م)، ويقع في (208) صفحات، ويتكون من مقدمة وعشرين فصلاً، وأهدى المترجم عمله لابنه جهاد قائلاً: عساه يعتذر عنا إليك لانشغالنا عنك به وبأشباهه! وللمترجم الكريم رمزية في الإهداء كما في غالب كتبه.
وذكر المترجم في مقدمته أن حكومة الهند البريطانية ضربت المقاومة الإسلامية في الخليج حين دمرت رأس الخيمة وفرغت من أمر القواسم عام(1820م)، ثم جمعت شيوخ ساحل عمان في اتفاق هدنة مشترك، ووقعت مع كل واحد منهم تعهداً خاصاً به، وقد ضمنت بذلك أمن البحر، وسلامة تجارتها بأقل تكلفة وجهد ممكن.
وحرصت بريطانيا على اكتشاف الخليج ظاهراً وباطناً، فأما الظاهر فمن خلال دراسة بلدانية آثارية حيوية، وأما الباطن فبدراسة إنسان هذه المنطقة، واكتشاف دواخله، ودراسة أصولهم ومعتقداتهم وعاداتهم للتمكن من ضبطهم وفق المنظومة الإنجليزية لتحقيق أهدافها كمحتل غريب، لكن المعرفة الملحة للإنجليز كانت معرفة أحوال البحر، ولذا مسحت سفنها وفرقاطاتها سواحل الخليج واليمن والبحر الأحمر، وكان المؤلف جيمس ولستد عضواً في هذه الفرق على الفرقاطة بالينورس، حيث طاف على الشطآن والجزر، وافتتن بجمال نساء جزيرة سقرطة اليمنية.
ولأن الرجل متعطش للمعرفة الإنسانية، ولم يسد نهمته المسح لأغراض سياسية وعسكرية-وهو أمر لاحظه رؤساؤه؛ وذموه في تقاريرهم- فقد خطط لاكتشاف وادي حضرموت الآهل وذلك بمرافقة جيش محمد علي؛ لكن الجيش هزم في مرتفعات عسير، فحول ولستد وجهته من اكتشاف السواحل إلى مسح الدواخل، وقرر الاتجاه إلى عمان بعد أن حصل على تأييد حكومته التي هدفت لمعرفة مدى نفوذ حليفها سلطان عمان، بينما رأى المؤلف أن عمله بحثي يعلو على مآرب السياسة، وتمنى أن تكون أبحاثه مشجعة لعلماء البيئة والجغرافيا وتثير اهتمامهم نحو هذه البلاد، وهو ما تم لاحقاً.
وابتدأ ولستد مهمته من ميناء مسقط في 25 نوفمبر 1835م، ومنها توجه إلى صور، ثم وادي فلج، فديار البني بو علي الذين مزقوا فرقة غازية تابعة للهند البريطانية، ثم أكمل رحلته وجاب عمان عازماً على بلوغ الدرعية غير ملتفت لتحذير الإمام من خطر الوهابيين. وعندما عاد الرحالة لحكومته بهذه المعلومات الغزيرة التي لم تكن مطلوبة لهم اتهموه بأنه يأكل أكثر مما يستطيع هضمه، وادعى عليه الكابتن هينس أنه يعتدي على حقوق الآخرين، وينسب لنفسه ما ليس له مشيراً بذلك إلى نقش حصن الغراب.
وقد أحس ولستد بالغبن، وأقض مضجعه ماناله من ظلم، وأحاط به حسد زملائه، فعاد إلى عمان في ربيع السنة ذاتها، ووضع المسدس في فمه، وأطلق الرصاص لينتحر، لكن إرادة الله قضت ألا تكون الرصاصة قاتلة، وعاش بعدها ثلاث سنوات يكمل فيها أبحاثه ويجهزها للنشر قبل أن يموت وهو دون الثمانية والثلاثين عاماً. وأول رحالة غربي زار المنطقة بعده هو مايلز في عام(1876م)- للمترجم كتاب حافل ماتع عن الرحلات في شبه الجزيرة العربية خلال أربعة قرون ويقع في ثلاثة أجزاء وصدر عن دار الساقي عام(2013م)-.
ونشر ولستد عمله في مجلدين بعنوان: رحلات في شبه الجزيرة العربية، وترجم أ.د.عبد العزيز المجلد الأول الذي جاء بعنوان: عمان ونقب الحجاز، وحذف منه الفصل الخاص بالحجاز لاختلاف موضوعه عن السياق العماني، كما أعرض المترجم الخبير عن ترجمة ما كتبه ولستد عن الأباضية لأنها لا تهم قارئ أدب الرحلات، ولاتغني الباحث في الفرق الإسلامية، وإن كنت أتمنى لو ترجمها من باب معرفة كيف ينظر الغربي إلى فرق المسلمين، ولارتباطها بعمان، ومن الموافقات أن المترجم سطر مقدمته هذه في مدينة العين بالإمارات قبل عشرة أيام من وقوع أحداث سبتمبر.
ومن البدهي أن يكون عنوان الفصل الأول من الكتاب مسقط؛ حيث فشل مخطط الرحالة بالذهاب إلى حضرموت، فقرر خوض تجربة غير مسبوقة أوروبياً فيما يعلم، نظراً للسمعة السيئة عن أهل عمان- وصفوا بالعدائية والعجبُ من محتل يستغرب مقاومة أهل البلد!-، وبعد أن أخذ إذناً من الحكومة، وكتاباً لحاكم عمان المستنير؛ ركب البحر في 09 نوفمبر 1835م، ووصل مسقط يوم 21 منه، وبعده بيوم قابل الحاكم سعيد، ووصف شخصيته بالمتحررة والمتسامحة، وأبدى سعيد تفانياً مفرطاً في سبيل خدمة ولستد طمعاً في رضا الإنجليز، وإظهاراً لمودته وولائه.
وفي صباح الغد أرسل له سعيد بن أحمد بن سلطان حصاناً نجدياً، وسيفاً مطعماً بالذهب، وتكفل بتحمل نفقات الرحلة وأجور الإبل والأدلاء، وأمر بتأمين أطيب منتجات أرض عمان لولستد خلال رحلته، كما كتب لشيوخ المناطق التي يمر بها كي يحيطوه بالرعاية والاهتمام، ويذكرني صنيعه بما تفعله الحكومات الحالية مع الباحثين الغربيين؛ من فتح الأبواب لهم، وتسهيل المقابلات والإطلاع على الوثائق؛ وهو الشيء الذي لا يحصل على جزء منه الباحثون من المواطنين، وربما يكون مصيرهم العقاب على ما توصلوا إليه من نتائج.
ثم استعرض المؤلف تاريخ مسقط وما تعرضت له من احتلال برتغالي وخطر فارسي، ووصف تضاريس المدينة، وذكر أن المقبل عليها يرى قباب المساجد ومآذنها العالية قبل أي شيء آخر، ووصف أسواقها الضيقة المكتظة، ومساكنها التي يغلب عليها الأكواخ والبيوت الصغيرة؛ مع بعض القصور للأمير وعائلته وللأثرياء، ولاحظ الرحالة أن النمط المعماري فيها مختلف عن مدن اليمن والحجاز وفارس.
وتحدث في الفصل الثاني عن سكان مسقط، وذكر أنهم عرب وهجين ممن اختلطوا بالفرس والهنود والأكراد والبلوش والأفغان إضافة لبعض الشوام، ولذا اتسمت مسقط منذ القدم بالتسامح؛ حتى أن الإمام استقبل بترحيب بالغ اليهود الهاربين من حاكم بغداد داؤود باشا عام(1828م). وأشار إلى أن التزاوج بين هذه الأجناس أمر شائع وظاهر أثره في سحنات القوم؛ باستثناء الفرس الذين يمتنع عرب عمان من مصاهرتهم لاختلاف المذهب، وللفرس في مسقط قاض خاص كما ذكر ولستد.
وأكثر من يسيطر على تجارة مسقط جنسان: الأول: الهنود البانيان؛ وهم هندوس غالباً، ويحتكرون تجارة اللؤلؤ، وهم أهم التجار في الخليج، والجنس الثاني: اليهود الهاربون من العراق؛ حيث يعملون في الصرف، وصناعة الفضة، وتجارة الخمور. وأشاد الرحالة بالتسامح الكبير معهم؛ فلا يجبرون على لباس أو سكن، أو الابتعاد عن طريق المسلم كما يحصل لإخوانهم في اليمن والشام-تحدث الرحالة نيبور عن التكريم”المذل” الذي لاقته بعثتهم في اليمن-. وأعجب ولستد بنشاط ميناء مسقط تجارياً؛ حيث لا يدانيه سوى ميناء جدة، وذكر من صادراته الصبغة الحمراء-ربما هي الحناء- والبن واللؤلؤ والتمر، وبغال فارس وحمير البحرين.
وخصص الفصل الثالث لمنطقة تسمى عيون الإمام علي التي تقع على مسافة سبع ساعات غرب مسقط، وينظر إليها على أنها أكثر بقعة صحية في عمان، وعرج على مدينة مطرح التي يبلغ عدد سكانها نحو عشرين ألف نسمة، يشتهرون بصنع العباءات الصوفية حتى لا يكاد أن يخلو كوخ من آلة نسيج، واستحسن جمال نساء مطرح، وتناسق قسماتهن؛ وإن لم يرق له الحناء الذي يراه عادة سخيفة، وأثنى على لطف بدو المنطقة مع صعوبة لهجتهم عليه.
والفصل الرابع عن صور التي يسكن الهنود البانيان في أفخم مبانيها، ويعترف أهلها بسلطة السيد سعيد دون أن يؤدوا له الجباية، وذكر أن بعض أهل المنطقة لم يرقهم وجوده في مقابل آخرين أخذوا يتقافزون عنده كالمجانين، وأما الفتيات فقد هجمن على مجلسه بكمية من اللبن؛ وأجبرنه على الشرب مراراً حتى أقسم لهن أنه قد شبع، ولفت نظره وجود أبراج للحماية من الجيش الوهابي، كما فزع من رجال قبيلة البني حسن ذوي الشعور المسترسلة، واللباس شبه العاري؛ وربما أن هلعه زاد حين عرف أنهم كارهون للإنجليز، وإن كنت أجزم أنه يعلم يقيناً بمنطقية موقفهم من الغازي!
والفصل الخامس عن قبيلة البني علي؛ الذين ترجع أصولهم إلى نجد، وقد تحولوا إلى المبادئ الوهابية-السلفية- عام(1811م) على إثر غزوهم من قبل عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ومنذ ذلك التاريخ صار لهم بأس تخشاهم به القبائل المجاورة، وعجز الإمام عن إخضاعم، فاستنجد-وياللحسرة- بالكابتن طمبسون الذي فرغ للتو من تخريب رأس الخيمة عام(1820م) بمعاونة هذا الإمام!-استنكر أهل عمان هذه الخيانة-؛ فجاء الإنكليزي على رأس قوة السيبوي-هم الجنود الهنود العاملون مع شركة الهند الشرقية-؛ لكن أبطال البني علي مزقوهم إرباً، وقتلوهم شر قتلة، ولم ينج إلا طمبسون وضابطان ومائة وخمسون جندياً؛ حيث وصلوا لمسقط ونقلوا خبر الهزيمة لبومباي التي سيرت حملة لحرب هذه القبيلة، قوامها ثلاثة آلاف رجل تحت قيادة ليونتيل إسميث.
وقد قاوم هذه الحملة الباغية ثمانمائة مقاتل من رجال البني علي تؤازرهم مجموعة كبيرة من نسائهم العفيفات، وأبلوا بلاء حسناً أظهروا فيه الشجاعة والصبر؛ بيد أن أسلحة الإنجليز المتطورة حصدتهم جميعاً باستثناء بعض الجرحى الذين أخذوهم كأسرى في بومباي لمدة حولين قبل أن يخلوا سبيلهم، ومنذ هذه الحادثة عام(1821م) لم تطأ أرض البني علي أقدام أوروبي قبل ولستد كما يقول.
وعندما حل عليهم ولستد أكرموه ورحبوا به غاية الترحيب، ولم يندهش من صنيعهم لأنهم عرب أقحاح حافظوا على نقاوة نسبهم ولم يختلطوا بجنس غريب عنهم؛ مع أنهم يسكنون قرب البحر، وذكر أنه حاول إثارتهم بنقاش ديني فراعه منهم ثقتهم بمعتقدهم، ولما ناقشهم بشأن نسائهم أنكروا عليه دياثة الغربي وانعدام غيرته، ووافق الجميع على رأي مسن منهم مختصره أن الرجال للسيوف، والنساء للمغَازِل؛ ومع ذلك فلنساء هذه القبيلة شأن كبير في الحياة الاجتماعية، وعندما ذهب الشيخ لأداء الحج تولت زوجه وأخته إدارة الشؤون العامة. ومما ذكره أن قبور هذه القبيلة عادية تخلو من إشارات التكريم والتخليد، وأن أجساد قتلى المعركة مع الإنجليز لم يمسها الدود ولم يطرأ عليها أعراض البِلى-وهذه شهادة إنجليزي قبل قرنين من الزمان تقريباً-، ومن الطريف اندهاش القبيلة من كثرة براميل الخمر التي يصطحبها الإنجليز معهم.
وبحث الفصل السادس عادات بدو البني جنبة، حيث زار زوجة الشيخ وأخته بصحبة أحد رجال القبيلة، وكانت المرأتان محجبتين تماماً لا يبدو منهما شيء البتة حتى الأصبع الذي حاول الإنجليزي رؤيته فما استطاع؛ لكنه استعاض عنهما بملء عينيه من الحبشيات الجميلات اللاتي يخدمن السيدتين بدون لبس حجاب-بعض قومنا يعتبر أن العرب شرهون جنسياً خلافاً للغرب؛ والحقيقة أن الرجل هو هو أياً كان أصله، ورواية ولستد تؤكد ذلك-. وقد خاضت المرأتان معه في شؤون السياسة والحكم، والعلاقات مع الإنجليز حرباً وسلماً، وفي المساء اصطحبه الرجال لرؤية رقصة الحرب؛ ثم سباق الهجن، ومما لفت نظره في سلوك قبائل المنطقة استعدادها للحرب ولو من أجل سبب تافه.
وجاء الفصل السابع بعنوان رحلة في وادي بيثة؛ حيث ودعته قبائل الجنبة وداعاً لا ينسى، ثم قطع مناطق رملية تحدها الأشجار كمصدات، وفي بعض هذه المناطق جرت معارك مع الوهابيين، وتوقف عند منطقةبديّة ذات الواحات والنباتات، وأصناف الفواكه التي يندر اجتماعها في بقعة واحدة، ويتميز مواطنوها بأنهم أقل حباً للاستطلاع من غيرهم، وذكر أن الناس وفدوا إليه لعلاجهم، ولم يرد في الرحلة ما يشير إلى كونه طبيباً، وإنما هو عسكري مهتم بالنبات وعلوم الأرض-في الظاهر-. وقد لفت نظره تفرد النمط المعماري لمنازل مدينة إبري فضلاً عن وجود أماكن معدة للمدافع فوق بعض السطوح، وأشاد بجمال نسائها وكثرة إندهاشهن من أي شيء يرينه، وتفحصهن كل شيء معه، وختم الفصل بالتأكيد على أن هذه هي المنطقة الوحيدة التابعة للإمام التي لم يعره أهلها أي اهتمام؛ ويبدو أن هذا الإهمال قد خدش كبريائه فكرره كثيراً.
والفصل الثامن بعنوان: داخل قلعة طلحات، حيث لفت نظره أن البدو يربون أولادهم على تحمل المسؤولية باكراً، وعلم أن المنطقة تحوي كمية من النحاس؛ لكن رفض الأدلاء أن يوقفوه على مكانها-ولعل هذا من حكمتهم التي فقدها الأحفاد-، وقد بهرته البساتين وما فيها من أشجار الحمضيات واللوز وتساءل: كيف يسود عند الغرب أن الجزيرة العربية مجرد صحراء بلقع؟! وهذا درس إعلامي من ولستد ألا نصدق المعلومة قبل فحصها. وتحدث عن قبائل غافر إحدى أقوى القبائل وأبعدها عن سيطرة الإمام، وعن اليعاربة الذين حكموا زمناً، ثم ذكر مدينة منح التي تتميز نساؤها بالنشاط والجرأة، وزعم أنه حل في نزوى التي تشتهر بأجود أنواع الحلوى؛ وحينما زاره شيخها في المساء لم يمتعض من شرب رفاقه “البراندي” الذي منحه الإنجليز لهم تلبية لطلبهم.
والجبل الأخضر هو موضوع الفصل التاسع، وتعجب أن المساجد في تنوف تستعمل كمحطة وقوف واسترواح للقوافل، كما غمط الجبل وصفه بالأخضر لكون مناطقه في غالبها صخرية جافة، ويرى أن خضرة الأودية المحيطة به هي التي أكسبته هذا الاسم، وفي هذه الوديان أشجار عنب للأكل وصنع الزبيب والخمور، وفيها أشجار لوز حلو يدخل في جل الأطعمة، وتعد هذه المنطقة مصدر المنتجات الزراعية التي تباع في رأس الخيمة والشارقة، وتتميز بعيونها الدفاقة البهيجة، وامتاز هذا الفصل بحواشي مفيدة من المترجم الكريم عن العملات المستخدمة في ذاك الزمان؛ ولا ينبئك مثل خبير.
أما الفصل العاشر فكان عن قبيلة بني ريام التي تسكن سلسلة الجبال، ولا تعرف لها سيداً، وينطوون على ذواتهم وزاد من عزلتهم وعورة الطريق المؤدية لمناطقهم، وعدد أفراد القبيلة لا يتجاوز الألف نسمة، ويزرعون القمح والعنب، ولم يتمكن أئمة عمان من فرض الجباية عليهم، وتتميز أجساد رجال القبيلة بالقوة قياساً لجيرانهم، وتتولى النساء رعاية أشجار العنب، وقد أثنى على جمالهن وطولهن؛ وكأني بولستد يحدق في النساء كثيراً-وهذا قاسم مشترك بين جل الرحالة-، ومما استرعى انتباهه قوة الحس الديني عند أهل الجبل؛ حتى أن الواحد منهم يصعد للقمة خمس مرات يومياً لأداء صلاة الجماعة، ولم يسلم ولستد من علة الأجانب في احتقارنا حين أعجبته عتبات درج في الجبل فقال:يستحيل أن نصدق أن العقل الذي خطط هذا العمل ونفذه كان عقلاً عربياً!
ولم يخل هذا الفصل من اعترافات؛ حيث قال ولستد إنه تقمص شخصية طبيب ليعيش بين البدو مبجلاً-والإدعاء عادة أغلب الخبراء!- وفوق ذلك عالج خيلهم وحميرهم، وكان يخلو بنفسه لتدوين ملحوظاته-كما يصنع أي جاسوس-، وأحياناً يصطحب الأطفال معه حتى لا يثير الشك، ويجمع نباتات الصحراء مدعياً أن لها خواص طبية، مما يجعل العرب مندهشين من حرصه على صحتهم، وقد سجل بعض عادات البدو في النوم والاستيقاظ، والطعام والنشاط والكسل، ولم يفته ملاحظة إيمان أهل عمان بالسحر والشعوذة عاداً ذلك من ضروب الجهل.
والفصل الحادي عشر بعنوان كرم الأمير، حيث أن الوكيل البريطاني في مسقط روبين بن عسلان-وهو يهودي- لم يستطع توفير المال لولستد بسبب طول الإجراءات الإدارية، ولذا ظل الرحالة في عمان بعد أن أنهى جولاته في شمالها منتظراً الدعم المالي ليتوجه إلى الدرعية عاصمة الوهابيين، ولما استحال الدعم الإنجليزي للرحلة، ورفض التجار إقراضه، تجلت نخوة الإمام وكرمه الفياض بمنحه حق السحب من خزينته كما يشاء!
وجعل المؤلف الفصل الثاني عشر عن نفوذ المرأة في المجتمع العماني، وللمرأة حضور قوي في تاريخ الأباضية وعموم فرقة الخوارج، ثم أورد فصلاً عن مدينة السويق وذكر أن فيها مسجداً للشيعة، وأعقبه بفصل عن صلف شيخ عبري الذي لم يبذل خدماته للإنجليزي، وقد أثنى على امتناع أهل المنطقة عن السرقة، وكرر تعجبه من خلو البلد من الطقوس الجنائزية.
وأما الفصل الخامس عشر فعن سلطة الشيخ أحمد بن عشيان، وهو الذي حكم جزءاً من منطقة صحار التي تشق قلب ديار السيد سعيد؛ الذي أضطر للتصالح معه منتظراً الفرصة للانقضاض عليه، وكان أحمد جريئاً قوي الشكيمة، وله مناوشات وحروب مع الوهابيين، وقد حباه الله بنعمة الدموع؛ إذ تنهمر منه مدراراً بناء على رغبته، ويبدو لي أن الدموع سلاح عند الزعماء وليس لدى النساء فقط! ونبه الرحالة إلى نشاط ميناء صحار الذي بلغت سفنه فارس والهند والصين، وفي صحار عشرين أسرة من يهود اليمن، ولهم معبد صغير، ويعملون بالربا، وهم منبوذون غير محبوبين من محيطهم الذي يسميهم أبناء سارة.
والفصل السادس عشر عن القراصنة، وفي الحاشية أوضح المترجم البارع أن ساحل القراصنة اسم غير مسبوق، أطلقه الاحتلال الإنجليزي على منطقة ساحل عمان؛ لوقوف أهل الساحل بصلابة ضد التعديات البريطانية على المصالح العربية والإسلامية في البحر، والغرب ماهر في إلصاق الأوصاف المنفرة بمن يعارض مصالحه؛ ولا ملامة عليه، لكن اللوم كل اللوم على أبناء أمتنا الذين يرددون هذه الأوصاف عن بني جلدتهم بلا روية ولا حتى حياء، وقد سرد ولستد أحداث العدوان الإنجليزي على رأس الخيمة والقواسم، ولم يعتذر عنها أو يشعر بخزي منها؛ بل لخص رأيه قائلاً: إن ضرب معاقل القراصنة كان قراراً حكيماً!
وعنوان الفصل السابع عشر البحارة العمانيون، حيث ذكر أن الإنجليز يعمدون لاستخدام هؤلاء البحارة في الأعمال المجهدة حتى لا يقوم بها الأوروبيون والجو حر لافح-وتراهم أكثر الخلق حديثاً عن حقوق الإنسان-، والفصل الذي بعده عن الزراعة، وسبق نقل انبهاره بمنتجات عمان-وهو مالم تستثمره حكومة السلطنة حالياً على الوجه الأكمل-، ثم تحدث عن إبل عمان التي تعرف بجودة أنواعها وارتفاع أثمانها، وأما الفصل العشرون والأخير فعنوانه العادات والتقاليد العمانية، حيث ذكر أنه لم يجد في عمان غير مثقف واحد-ربما يقصد ثقافة عصرية- هو سعيد بن خلفان الذي تعلم في كلكتا، ويجيد قيادة السفن، وزعم أنه لم يعثر في عمان على أي كتاب أو مخطوط، كما لاحظ امرأة تضع في أذنيها خمسة عشر قرطاً فضياً، ولفت نظره امتناع البعض عن شرب القهوة تديناً، وألمح إلى خلل أخلاقي في الساحل خلافاً للداخل، وختم رأيه بأن أهل عمان أكثر أهل الجزيرة تسامحاً.
وبعد هذا التطواف في رحلة هذا الضابط، والباحث، وربما الجاسوس، يحسن بي الإشارة إلى ماذكره المترجم في مقدمة آخر كتبه صدوراً بعنوان رحلات غربية في شبه الجزيرة العربية-صدر عام(2013م) عن دار الساقي في ثلاثة أجزاء- وهو كتاب جميل يختصر أهم الرحلات، ويعمق الوعي في النظر إليها على أنها شهادات غالبها متحيزة؛ سطرها أناس وفدوا لديارنا لأغراض مختلفة، وفي خلدهم أفكار خاطئة عن عالمنا، فضلاً عن أنهم تربوا على مفاهيم مخالفة لمفاهيمنا؛ فمن الواجب الحذر، والفحص والتدقيق، وأن يكون النقل عنها دون تسليم إلا بعد التأكد، فلا مصداقية لمن يتحدث عن أهلنا وبلادنا؛ وهو يرى نفسه أرفع وأرقى؛ ومثالاً يجب أن يُحتذى، وليس فينا مروءة أو خير إن صدقناه وقبلنا كلامه كما هو.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
السبت 14 من شهرِ رمضان عام 1435
12 يوليو 2014