التابلاين: خط الأنابيب الحبيب
سيرة المكان تكمل سيرة الإنسان أو تفسرها، وتشرح جوانبها، وتضيء غوامضها، وسيكون مجموع سير الإنسان والمكان من المداخل المفيدة لدراسة شخصية البلد وأهله، وهذا نوع من الدراسات نحتاجه؛ كي نفهم أنفسنا قبل أن نحاول إفهام الآخرين، ولابأس من هذا المسلك، فالبلد وإن تعددت أماكنه وتباينت شخصياته فهو في النهاية واحد، وما يجمعه أعمق وأعرق وأقوى من الفوارق الطبيعية.
أقول ذلك بعد أن دفعني الحنين وذكريات الصبا إلى قراءة ثلاثة كتب متقاربة الصدور، وبعضها أفاد من بعض، الأول منها-حسب ترتيب قراءتي- عنوانه: التابلاين وبدايات التحول في عرعر، تأليف سعد فريح اللميع، صدرت الطبعة الثانية منه عام (1438) عن مؤسسة الانتشار العربي والنادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية، وعدد صفحاته (103) صفحات.
أما عنوان الثاني فهو: منطقة الحدود الشمالية أصالة وحضارة، تأليف مطر عايد العنزي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1435=2014م) عن نادي الحدود الشمالية الأدبي بتمويل من شركة معادن، ويقع في (223) صفحة، والثالث عنوانه: التابلاين ودوره التنموي في منطقة الحدود الشمالية، تأليف: ماجد بن صلال المطلق وَمطر بن عايد العنزي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1441=2020م) عن نادي الحدود الشمالية الأدبي الثقافي بتمويل من مجموعة عافت العليان في (191) صفحة، والأخيران امتازا بتقديم الأمير، وفخامة الطباعة، وكثرة الصور، والحديث عن الواقع الحالي للمنطقة، وهذا مفهوم بسبب الدعم، وحجم الكتاب، وفي كلٍّ جهد يشكر عليه المؤلفون الثلاثة؛ خاصة تلك الوثائق والصور التاريخية.
وقبل أيام سجلت هيئة التراث خط أنابيب النفط القديم “التابلاين” في سجل التراث الصناعي الوطني؛ ليصبح أول موقع للتراث الصناعي يُسجل رسمياً في المملكة، وخط الأنابيب عبر البلاد العربية Trans Arabian Pipeline الذي عرف اختصارًا باسم “التابلاين” هو مشروع تجاري بين الحكومة السعودية وأربع شركات أمريكية، بعد أن بزغت فكرته من الرئيس الأمريكي روزفلت إبان لقائه بالملك عبدالعزيز قرب قناة السويس عام (1364=1945م)؛ فوافق الملك شريطة أن يكون الطرف الأمريكي تجاريًا وليس حكوميًا، ووقع الوزير ابن سليمان الاتفاقية عن حكومة المملكة بتاريخ 22 من شعبان سنة (1366) الموافق 11 من يوليو عام (1947م).
اُقترح للخط ثلاثة طرق، ووقع الاختيار على أحدها وهو مسار بقيق-النعيرية-القيصومة- عرعر(بدنة)-حيفا؛ لأنه الأنسب والأقلّ كلفة مالية، وبدأت أعمال الإنشاء عام (1947م)، وبعد احتلال فلسطين تغيّر المسار إلى صيدا في لبنان، وشاركت في الإنشاء عدة شركات نفطية عالمية كبرى، واستعمل فيه (3500) طنّ من الأنابيب، و(3000) قطعة من الآليات ومعدات البناء، وعمل فيه (16000) عامل، بتكلفة إجمالية قدرها (230) مليون دولار.
وفُرغ منه عام (1950م)، وبعد شهرين بدأ ضخ النفط من خلاله، علمًا أن هذا المسار لنقل النفط من الخليج إلى أوروبا وأمريكا يختصر المسافة من (6000) كلم إلى (1664) كلم منها (1300) كلم داخل الأراضي السعودية، وفي الكتب المذكورة خرائط توضيحية لهذا المنجز الضخم الذي يُعدُّ أكبر عملية نقل معدات بحرية وبرية حينذاك، وأطول أنبوب بري في حينه.
توقف الخط مؤقتًا في عام (1967م) مع حرب الأيام الستة الأليمة، ثمّ عاودت عمليات الضخ من جديد، وفي عام (1975م) بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية الحزينة أغلق الخط إغلاقًا شبه نهائي، إلى أن توقف عن العمل نهائيًا، وأصبح كتلة حديد فقط عام (1990م) إبان نذر الحرب الكريهة عقب احتلال الكويت، وظهور بوادر حرب الخليج الثانية، وفي عام (2020م) بدأت أعمال إزالة الخط ومكوناته، ثمّ أوقفت الإزالة بعد تسجيله معلمًا تراثيًا صناعيًا بناء على مطالبة كثير من الناس؛ خاصة أولئك الذين التصقت ذكرياتهم به سواءً بعمل أو سُكنى.
من أثر “التابلاين” ظهرت هذه المنطقة الأنيسة عام (1369=1950م) بعد أن كانت صحراء قليلة المعالم، وعُين الأمير محمد الأحمد السديري محافظًا لها في غرة شهر رمضان عام (1369) الموافق 17 من شهر يونيو عام (1950م)، وهو أول مسؤول سعودي في تاريخها بهذا المستوى، وتتكون المنطقة من مدن جديدة تقع بجوار محطات الضخ لتقوية جريان النفط، وهي من الشرق إلى الغرب: القيصومة، الشعبة، رفحاء، العويقيلة، بدنة، حزم الجلاميد، طريف، إضافة إلى النعيرية ورأس أبو مشعاب في أول الخط.
ثمّ ضم رأس أبو مشعاب والنعيرية في عام (1370) إلى المنطقة الشرقية ولحقتهما القيصومة عام (1373)، وفي 16 من شهر ربيع الأول عام (1376) ألغيت المحافظة، وصار اسمها منطقة الحدود الشمالية، وسُمي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود أميرًا عليها، وظلّ في منصبه حتى توفي في 17 من شهر رمضان عام (1436) بعد أن عاصر ستة ملوك، وهي أطول مدة يقضيها أمير في منطقة واحدة حسبما أعتقد، وهو من أطول موظفي الدولة خدمة لأنه كان قبلها أميرًا في القصيم.
أيضًا للمنطقة تاريخ مرتبط بطريق زبيدة المشهور وهو طريق حج من الكوفة إلى مكة، ويعبر من محافظة رفحا التابعة لمنطقة الحدود الشمالية، علمًا أن هذه المنطقة العزيزة تتكون من عرعر وهي عاصمتها، ورفحا، وطريف، والعويقيلة وغيرها من قرى ومراكز، وتحتلّ مساحة تتجاوز مئة ألف كيلومتر مربع يقطنها قريب من نصف مليون إنسان، وتقع جميع محافظات المنطقة على الطريق الدولي الذي يربط بلدان الخليج بالشام وما وراءها، وهي محدودة من الشمال بالعراق والأردن، ومن الشرق بمحافظة حفر الباطن، ومن الجنوب بمنطقتي الجوف وحائل، ومن الغرب بالجوف والأردن.
من الفرائد المروية أن تسمية مدن المنطقة يرجع إلى باحثين مختصين بالثقافة العربية، أرسلتهما أرامكو لتسمية محطات الضخ التابعة لشركة التابلاين بدلًا من الأرقام التي تحملها، فاختار الباحثان “تشارلز ماثيوس” و “جورج رينتز” الأسماء الحالية انطلاقًا من تضاريس المنطقة وأشجارها وصفة موقعها، وربما أنهما تشاورا مع المسؤولين؛ فمن غير المعقول انفرادهما بالتسمية.
كما حظيت المنطقة بزيارات ملكية من الملوك سعود وعبدالله وسلمان، وعقد فيها اجتماع لمجلس الوزراء، وزارها أمراء وأولياء عهود مثل الأمراء سلطان ونايف وسعود الفيصل، وزعماء مثل الرئيس العراقي صدام حسين، وملك الأردن الحسين بن طلال، وحفظت أحداثًا دولية تتعلق بحرب الخليج الثانية سواء في مطارها، أو جماركها، أو الوفود الدولية الزائرة، بل إن الباحث البريطاني “روبرت ليسي” كتب مقدمة أو خاتمة كتابه الثاني عن المملكة في عرعر، ووردت أخبار المنطقة والشركة في سير سعودية وعربية واجنبية كتبها الحسون، والمنيف، والنعيم، وشماعة، والحميد، والعرادي، والعليان، وماكس رايش، وربما غيرهم.
ولشركة “التابلاين” آثار مشهورة معروفة في المنطقة حتى يسهل العمل والمقام فيها، على رأسها المستشفى المفتتح عام (1951م) والمرتبط بمستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد عمل فيه طاقم طبي ماهر جلّهم من نصارى لبنان أو السودان، وأجريت فيه عمليات جراحية بمهارة جعلت الأطباء يعجبون من دقتها في مستشفى طرفي غير معروف، وحين أُغلق المستشفى انخفض مستوى الخدمات الصحية في المنطقة؛ حتى جاب أهلها الكرام عمان عاصمة الأردن للعلاج والاستشفاء، وآمل أن يستغنوا قريبًا بمدنٍ طبية كاملة.
ومنها مدارس، ومساكن، وملاعب، وملاهي وسينما، ومطاعم، ومباني للمقرات الحكومية، ووظائف، وعدة مطارات سُيرت فيها رحلات دولية من وإلى بيروت وعمان، وشاركت “التابلاين” في تخطيط المنطقة، واعتمد الأمير السديري أول مخطط لها، وبعد عقود من رحيل الشركة ظهرت الفوسفات والمعادن، وبزغت شركة وعد الشمال، وأقيم فيها أول معهد تعدين متخصص في الشرق الأوسط عام (1433=2012م)، وآمل أن تعود هذه المشاريع الكبرى بخيراتها على البلاد عامة، وعلى أهل الدار بوجه الخصوص، وأن يُستفاد من حسنات تجربة شركة “أرامكو”، ونتخلص من المآخذ عليها، علمًا أن للمنطقة تاريخ مع التجارة فظهورها تزامن مع نهاية قوافل العقيلات عام (1368) تقريبًا؛ مما جعلها قبلة كثير من أسر القصيم آنذاك.
لم تكتف الكتب السابقة بأخبار الشركة والموضوعات الرسمية، بل عرجت على أوليات فيها مثل مدرسة هناء المغربي للبنات، وإذاعة أخبار حمدان، وهما تجربتان مبكرتان جدًا، وكذلك الابتعاث من “التابلاين” وعصا صبحة، ومكتبة فخري، وقهوة أبو موفق وهو مستثمر سوري ومقاول اسمه مرزوق منصور الميداني، وتميز بطبق “الحمص” في مطعمه وقهوته.
ومن الموافقات أن هذا الطبق صنعته امرأة لجارتها في الرياض فقالت الأخرى: كأنه حمص أبو موفق! وتبين أن الجارتين عاشتا طفولتهما في عرعر، ومن الطريف جدًا أن الغزلان البريئة تستظلّ بالأنابيب، فتنهال عليها تصويبات الرصاص من بنادق السكان بغية صيد الظباء، فتحدث تسريبات في الأنابيب مما يستفز المهندسين الأمريكان دون أن يجدوا حلًا حتى حينما رفعوا شكوى للملك سعود الذي قدّر الأمر ولم يرد التدخل.
وفي الكتب إشارات إلى أوائل من عملوا في المنطقة من غير أهلها، فمدير المالية من الأحساء، والقاضي من ثرمداء، ورئيس البلدية من المذنب، ومدير الشرطة من مكة واسمه أحمد فراش ولي معه قصة طريفة مع أني لا أعرفه، وأول مكتبة افتتحها شاب من الخرج، وأُسس النادي الرياضي عام (1396) وسمي بدنه بعد أن كان اسمه الوحدة وهو اسم ناد أقدم في مكة، وعلى إثر زيارة الملك عبدالله للمنطقة عام (1428) أنشأت جامعة الحدود الشمالية، والنادي الأدبي، وهو آخر نادٍ أدبي في المملكة، ولكنه الأول الذي شيّد مقرًا خاصاً به.
ألا ما أجمل الذكريات وأطعمها، وما أعظم فضل الذين يحفظون الماضي وينقلونه لمن بعدهم، فهذا الصنيع رشيد ومن علامات النضج والعراقة، وما أحوجنا له على صعد عدّة، حتى لا تغيب القصة عن أجيال آتية، وكي لا يضطروا إلى سماع أقوال مغرضة أو خالية من التحقيق، ولا يضطروا لبناء سردية كثيرة الثغرات والثقوب.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 02 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442
17 من شهر ديسمبر عام 2020م