مواسم ومجتمع

المشاهير: حكماء أم حمقى؟

Print Friendly, PDF & Email

المشاهير: حكماء أم حمقى؟

تعلو نبرة السخط على وسائل التواصل الاجتماعي من فئات عدة ذوي توجهات متباينة، وفي بعض سخطهم حق وفي بعضه جناية، وربما سيق الحق لباطل يُراد وهوى في النفس ينجلي بسبر الحال أو استقصاء ما سلف، ومهما يكن من أمر فالتعميم البشري على أيّ أمر ظلم أو غش، والانصاف كان عزيزًا ثمّ هو مع سعار الحياة، والشهوات الخفية، والمآرب الفئوية، يزداد ندرة ونقصًا.

ويستعين البعض بمقولة للروائي الإيطالي العالمي أمبرتو إيكو الذي ظلّ غير معروف حتى بلغ الخمسين من عمره، وقال عن الانترنت كلمة شاعت واستعيرت لتوصيف الأوضاع بعد وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أبدى امتعاضه من قدرة الحمقى على استخدام شبكة المعلومات للحديث في أيّ شأن، ولا شك أن كلمته مقبولة إذا كانت عن مجتمع يحجب الحمقى فقط، ولا تستساغ في مجتمع سيطرت فئة منه بغير استحقاق دائم على كثير من برامجه الإعلامية والثقافية وأقصت غيرها، ثمّ ضاقت بمن سلبها هذا التفرد من حيث لا تحتسب.

لا يعني ذلك تبرئة وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهي فعلًا أبرزت التفاهة بطريقة لافتة جدًا، وسرقت المتابعين بصورة مذهلة، وغدا بعض من لا يستطيع كتابة فقرة، أو النطق بجملتين، فضلًا عن قراءة أو تأليف، متبوعًا بعدد يتضخم، ورصيد محتواه لا يتجاوز الأحاديث والضحكات والاستظراف وبعض المهارات الرائعة المقبولة لو كانت في محيطها دون تداول منتشر وكأنها فتح الفتوح في حقل مفيد ومجال خطير.

ونتج عن ذلك إبعاد أقوام صنعوا في ماضيهم مثل من دخل قاعة وأقفل الباب بعده، وأخذ يحدث الجماهير عبر زجاج عازل يمنع وصول تفاعلهم ورأيهم، فلا غرابة أن يغضبوا ويستعينوا بإيكو وغيره للقصاص من غرمائهم والازراء بهم، وما أعظم البلاء إذا انحصرت الأصوات التي تخاطب المجتمع بين مغرور ومخادع وتافه، وغاب صوت العقل ومعين الحكمة وموئل الأدب، وهو موجود في بعضهم كي لا نظلمهم، وعند غيرهم أيضًا.

بينما يقتضي التوازن في النظرة أن نعي أن إتاحة المشاركة للناس عامة دون أن يكون أمامهم أبواب وأقفال هو المتوافق مع الحقوق الشرعية والطبيعية، ويكتمل بهاء الصورة مع استخدام هذا الحق بطريقة صائبة أنيقة سواء بارتفاع وعي الناس عامة، أو بسيادة النظام والقانون على الجميع دون استثناء، أو بوجود أمة لهم قدر وقيمة يؤازرون المفيد، ويدفعون الضار، فهم مع المصلحة العليا العامة وضد المفسدة دون نظر لاعتبارات أخرى.

كما أن التوازن يستلزم الإشارة إلى أن هذه الوسائل منحت الفرصة لأناس كانوا محجوبين بكيد من بعض أهل الضجيج الحالي، وحينما ظهر المحجوبون للعلن استقبلتهم جموع مليونية أو أقل بالترحاب والتفاعل، ففيهم علماء، ومفكرون، وكتّاب، وأدباء، وشعراء، وأصحاب اختصاص حقوقي أو غذائي أو صحي أو تقني أو ثقافي أو سردي أو مهاري، وما كان لهؤلاء أن يخاطبوا الناس بواسطة المنابر التقليدية التي احتجزها كثير من سادتها الذين يدعون إلى حرية الرأي، واستيعاب المخالف، مع ذم الإقصاء والتصنيف، وقد أخذ قسم منهم من هذه الشرور بنصيب أسد هصور غشوم، ولم يظفروا من الفضائل الأولى ولو بمقدار ما تحمله نملة!

ومع الاعتراف المكرر ببعض الغثاء في مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة الثمل، حتى صار الزَبَد طافيًا فانجفل إليه جمع من الناس غفلة أو شهوة -أحيانًا- حتى نال بعض نجوم التواصل شهرة وثروة طائلة ربما حسدهم الآخرون عليها، ولا أراها تختلف كثيرًا عن ثروات المشاهير التقليديين في عالم الطرب واللعب بالجسد أو ببعضه التي طالما رمقها المثقفون المدقعون بحسرة أن لم ينالوا منها ولا حتى كسرة، والرزق عند الله تدبيره وقسمته وسوقه والحساب عليه، وسبحانه من حكيم خبير.

خلاصة القول في هذا الجدل أن الانترنت صارت ميدان استفتاء مستقل مالم يفسده العبث، وأبانت ضعف شعبية بعض الرموز الثقافية المفروضة تقليديًا، وضحالة معرفة بعضها، وسقم حجتها، وسوء ردودها على المخالفين، وفضحت التناقض الكبير لدى فئام منهم وانعدام المبدأ إذ الهوى غلّاب، وذاكرة الكذوب ضعيفة، ثمّ أتى إلينا المشاهير المحدَثون وربما نطق بعضهم بالخير على فطرته التي لم يفسدها التحزب، ولربما باع الواحد منهم الحياء لأجل الحظوة والمال؛ وهكذا جلّ الناس.

وأخطر من ذلك فيما يبدو لي أن الخلاف سيتصاعد بين سدنة الثقافة السابقين والمشاهير الجدد، وفي خضم شقاقهم وتطاحنهم ستظهر بقوة صاروخية فئة رابعة لم تأخذ من ثقافة الأوائل، ولا من ظرف الأواخر، ولا من علم وفكر المحجوبين والمهمشين بينهما، وستصير هذه الفئات كلها عند هذه الفئة الجديدة كمصحف في بيت زنديق، لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة، ولن يقوى أحد على لمزهم لا بمقولة إيكو ولا بتلميح غيره.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441

13 من شهر فبراير عام 2020م 

 

Please follow and like us:

3 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بارك الله فيك وفيما تكتبه في مقلاتك . القيمة الهادفة المنتقاة بعناية وشرح سلس تستفاد منه شريحه واسعة من القراء المثقفين الافاضل . وفقك الله لما يحبه ويرضاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)