عرض كتاب قراءة وكتابة

أسئلة الكتابة!

Print Friendly, PDF & Email

أسئلة الكتابة!

مع شدة افتتان الناس بالصورة والعروض المرئية الحية يبقى للكتابة وهجها وحضورها الطاغي، ولا أدل على ذلك من توجه الساسة إليها وهم في المنصب أو بعد افتراقهما، وسواء كان السياسي يستأهل ممارسة الكتابة أم هجم عليها بما منحه الله من سطوة وإعلام جعلت من حوله يصفون تخاريفه بالإبداع والتفرد، وللأهمية المتعلقة بهذا الفن أواصل الكتابة عن هذه الحرفة العظيمة وعرض الكتب حولها.

يعد طرح الأسئلة من أكثر ما يفيد الكاتب، ويجعل كتابته حيوية مؤثرة، وربما يبرز سؤال فحواه: هل الأسئلة نوع من الهروب داخل الصخب العميق الذي تولده معرفة العالم؟ ولم الولع بالسؤال؟ وما مصدر قيمته؟ ويأتي الجواب بأن السؤال هو البحث في الجذور والغوص حتى الأعماق، مع الحفر في الأسس وتقصي الأصول، وقد ينتج عنه استئصال الجذور وفحص الزمان وعلله؛ مما يؤكد عظمة السؤال وقيمته العالية.

ويشير فرويد إلى ملمح مهم بقوله: لا يطرح الأطفال الأسئلة جزافًا وإنما استعاضة عن السؤال الذي لا يطرحونه؛ وهو السؤال المتعلق بالأصل، ويبدو أن طبيعة أسئلة الطفولة مستمرة مع الإنسان حتى وإن ارتفعت سنه، فالسجايا البشرية واحدة في بواعثها ودوافعها وطرائق معالجتها للأمور، وكم يخفي السؤال وراءه من أسئلة!

لذا فمن الضرورة المحافظة على حيوية الولع بالسؤال وصولًا للسؤال المركزي المتعلق بكل شيء، وهو السؤال الإجمالي الذي يضم جميع الأسئلة، فالسؤال حركة وفضاء يقدم فيه الكلام نفسه ناقصًا غير مكتمل؛ لأن السؤال رغبة نحو استحثاث الفكر واستنطاق الذاكرة، وهو حراك في الفراغ، ويختلف عن التساؤل الذي يقترب أو يبتعد من أفق كل سؤال خوفًا أو حرجًا، وينفع في أحوال دون غيرها.

كما يُنظر إلى الجواب على أنه شقاء السؤال بكشفه عمّا تخفيه الأسئلة من حقائق مزعجة أو آلام مكنونة، وليس هذا منقصة في الجواب لأنه نضج للسؤال الذي يتطلب جوابًا ولابد؛ فالسؤال ينطوي على نقص، ولا يمكن إكمال هذا النقص إلّا بجواب يجد السؤال تتمته فيه حتى ينغلق وينتهي بفضل الجواب الذي يخلد إلى الراحة ويوقف حركة السؤال الدائبة.

بينما حمل الكاتب فيما سلف على عاتقه مصير الفلسفة والتعليم، واتخذ الفكر من التعليم شكلًا لتقصي ما يبحث عنه، فارتبط الفكر بالتعليم في زمن مضى، وأصبح لدى الإنسان الباحث أربعة خيارات، فهو أستاذ يعلّم، أو رجل معرفة مرتبط بالمجتمع ومؤسساته، أو باحث علمي يمارس السياسة، أو كاتب فقط، علمًا أن الثلاثة الذين قبله لا مناص لهم من فعل الكتابة؛ لأنّ علاقة المعلم بالتلميذ، والمصلح بالمجتمع، تكون بالكلام مكتوبًا أو منطوقًا.

أما الفيلسوف فليس هو الذي يعلّم ما يعرفه بل يعلّم طريقة التفكير والتحليل، وسبل الحصول على المعرفة، وفن بناء السؤال، وطريقة عرض الجواب، وسواء كان صنيعه هذا مباشرًا أو بدرس أسلوبه واستقصاء نهجه، فهو الأبلغ أثرًا في عالم الأفكار والكتابة، والأكثر حظًا للبقاء والخلود، لأن الفيلسوف نذر نفسه لأمر حتى تشاغل به عن غيره، وصار بوصلة حياته.

ويعيد البحث المجهد النظر بكل شيء، وهو أعمق من مجرد اختلاف الطباع والأمزجة ونوعية الحياة وفردانية الأشخاص، لأنه بحث يعتمد على السؤال وتتبع أثر الإجابات المحتملة، وفحصها، وإعادة تجميع المتناثر منها، وربما إكمال الناقص باحتمالات يقتضيها المنطق، أو سياق التاريخ، أو ما توافر من معلومات تحف بالأصل الذي يبحث عنه.

فيتحرك الشعور الداخلي بحرية اليد المطلقة للكتابة، ويجعلنا نعتقد بقدرتنا على قول كل شيء وبأيّ طريقة دون أن يوقفنا شيء مهما كان؛ فيبدأ الشخص في الكتابة غير مبالٍ ولا هياب، كأنه سيد ما حوله، والحقيقة أنه استفرغ جهده للبحث في نقطة واحدة فقط، بيد أنها ساكنته واستولت عليه حتى خفي عليه محيطها أو كاد.

ومع أن اللغة ملك لجميع من ينطق بها، فإن الأسلوب جانب مظلم مستتر مقترن بأسرار الدم والغرائز، وهو ضرورة يقتضيها المزاج الآني، وفيه غضب داخلي وأنس حميمي مع الذات، وعاصفة وانقباض وبطء وسرعة، ولا يختار الكاتب أسلوبه بل تفرضه عليه أحواله، ولابأس من ذلك فالأدب مجال فسيح للتجارب العديدة المضطربة، ويبدأ هذا الأدب بالكتابة المكونة من مجموعة طقوس تصنع فن الحكاية والسرد.  

أيضًا تعد الكتابة أحيانًا رغبة في الهدم قبل البناء، وهي تساؤل قبل تخطي العتبة إلى عالم الإبداع، ويجعل كل كاتب من الكتابة مشكلته، وموضوع قرار يمكن أن يغير من الحياة والتعامل معها، وربما يمتنع المرء عن الكتابة ويعود لنقطة الصفر بحثًا عن عدم الانحياز الذي يجبر الكاتب على السكوت؛ فالحياد وهم يستحيل الإمساك بمساره لفترة طويلة دون انحياز بحق أو باطل.

ولأن اللغة محملة بالتاريخ والأدب؛ تتحول طبيعتها بين يدي الكاتب من لغة عامة إلى لغة أدبية أو فكرية ساعة كتابتها، وكي يدرك الكاتب براءة أو فطرة اللغة الأصلية وتصبح لغته غريزية نابعة من الأحشاء ملتحمة بحبله السري يحتاج إلى مزيد من الكتابة حتى تتحقق هذه القفزة، فتصبح حروفه أقرب ما تكون إليه وفي ذات الوقت أبعد ما يمكنه الوصول إليه، ويحرره ذلك من الاستلاب والكتابة بلغة غيره؛ فالكتابة المستمرة تعين على صناعة المنحى الخاص بكل كاتب.

ما سبق مستلهم من كتاب للفيلسوف والكاتب الفرنسي الراحل موريس بلانشو عنوانه: أسئلة الكتابة، ترجمة نعيمة بنعبدالعالي، وعبدالسلام بنعبدالعالي، صدرت طبعته الأولى عام (2004م) عن دار توبقال بالمغرب، ويقع في (87) صفحة من القطع الصغير، ويتكون من إثني عشر عنوانًا، وسياقه فلسفي يقتضي القراءة بتركيز.

ويقول فيه المؤلف بأن العزم وقود البداية للكتابة، والتردد سبب للإعادة، ويكتب كل كاتب بحضور قارئ ما، ويثني على وجود فاصل بين الكتابة والقراءة حتى يعين الكاتب على التخلي عن صفة الكاتب فيتحرر من هذه التبعية التي تحول دون المراجعة والنقد، ويرى أن الكتابة كانت سبيلًا لتمجيد الكاتب ونتاجه، وصنعت إشعاعًا لحضوره، وبهاء لوجوده، وسببًا لخلوده، لكن امتزاج لحظات عملية تكون الإبداع بين الكاتب والقارئ والناقد والجمهور أدى لتلاشى مطالب الشهرة والمجد، وفي ذلك حرية تعتق الكاتب من اللهاث خلفها.

كما يتساءل الكاتب لماذا لا ينظر إلى عمل المترجم كما لو كان عملًا أدبيًا بامتياز؟ خاصة أن النص المترجَم يضاهي مجهود الإبداع؛ فمهمة المترجم محفوفة بالألغاز وهم من معلمي الخفاء لثقافتنا، واعترافنا بهم يظل صامتًا مشوبًا بالانتقاص أو الاحتقار كما يقول، ويصف هذا الصنيع مع المترجمين بالوضاعة مع العجز عن الاعتراف بهم، ويجزم بأن المترجمين كتاب نادرون لا يضاهيهم أحد، وأن المترجم كاتب أصيل ومتحكم في الاختلاف بين اللغات، وينشئ من الفجوة بينهما منبعًا لعمل جديد.

وحام المؤلف الفيلسوف حول عدد من المعاني منها أن السلطة لا ترى في عملية النشر إلّا ما يبعث على التوجس؛ لأنها عملية تلد جمهورًا منفلتًا من الصرامة السياسية، ومنها أن القارئ مرتهن باعتبارات المستقبل، وكتب عن إلحاح الكتابة، والشغف بها وصولًا إلى درجة الصفر للكتابة التي تعبر عن الحياد فيما يعتقد، وعرج على الصراع والحميمية بين القراءة والكتابة؛ وهما قطبا الرحى في الثقافة والفكر؛ وبهما النجاة من البؤس الفكري.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 23 من شهرِ صفر عام 1441

22 من شهر أكتوبر عام 2019م  

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)