ابن جبير: الشيخ الرئيس
حدث ما توقعته بالضبط، فبعد انتشار المقالة الأولى عن معالي الشيخ محمد بن جبير (1348-1422) وردتني تعقيبات عدة، مع وعد بالمزيد، وهذا من فضل الله علينا وعلى تاريخنا وعلى الشخصية المترجم لها، فما أحوجنا للخبر الصحيح، والمعلومة الثمينة، والموقف النبيل، مع حسن العرض والتفسير.
من الموافقات التي لاحظتها في سيرة معالي الشيخ ارتباط عدد من أحداث حياته الكبرى مع شهر ذي القعدة الحرام، ففيه ولد، وفيه تزوج، وفيه مات، ولو بحثنا أكثر فلربما وجدنا أشياء أخرى. ومن لطائف سيرته أنه إبان دراسته في الحجاز الشريف كان يحب مشاركة أهل عنيزة الفاتنة في مجالسهم؛ ويعلل ذلك بحلو حديثهم، ومهارة طبخهم، فابن جبير مقبل على زينة الحياة الدنيا التي أخرجها الله له لعباده والطيبات من الرزق.
وهو صاحب دعابة يقتنص الفرص لصنع طرفة لا تجرح وقاره، ولا تخرجه عن سمته، ولا تغضب أحدًا، ومن ذلك أنه دعي إلى وليمة في منطقة “الغطغط”، فتأخر العشاء خلافًا للمعتاد، ثمّ جاء صاحب الدعوة وهو في حرج وخجل؛ وأخبر الشيخ أن سيارة المطعم انقلبت في الطريق وسلم قائدها، فقال الشيخ بعفوية: عسى العشاء سالم؟ فزال حرج المضيف. وحين أخبر د.فهد العرابي الحارثي الشيخ أن وزير خارجية فرنسا ميشيل جوبير يصف نفسه بأنه ابن عم الشيخ، قال ابن جبير من فوره: نعم، وربما يوجد في قبيلة بني حارث أحد من بني جبير الهذليين.
كما كان الشيخ متصالحًا مع نفسه، فملابسه تخلو من التكلف، وعقله مفتوح للحوار أيًا كان المحاوِر والموضوع والرأي في مثال عزيز لا تجده لدى الآخرين إلّا بحدود معينة، ويقبل المقترحات ويوصلها مع نسبتها لأهلها كما صنع حين اقترح عليه الكاتب عبدالرحمن خياط تغيير مسمى ديوان المظالم إلى ديوان رفع المظالم، وباب منزله مفتوح كذلك في جلسة يومية كل مغرب، وواحدة بعد العشاء، خلافًا لبعض ذوي المناصب الذين يحتجبون عن العامة أشد من احتجاب ذوات الخدور والحياء.
ثمّ هو يفتح باب مكتبه دومًا، وقيل لي بأنه لا يقفل بابه في مناصبه كلها، وفي مجلس الشورى كان الباب مشرعًا باستمرار إلّا إذا زاره أصحاب المعالي د.عبدالعزيز الخويطر، وأ.إبراهيم العنقري، وأ.عبدالعزيز السالم، ود.معروف الدواليبي، مجتمعين أو فرادى، وهذا أمر يمكن فهمه، وفي غير ذلك لم يكن الشيخ ممن يضع حواجز تحول دون الوصول إليه.
ونقل لي الأستاذ عبدالله بن زامل الدريس عن معالي أ.د.سعد الحريقي أنه ذهب لمكتب الشيخ إبان عضويته في المجلس الأعلى للجامعة دون موعد سابق، وغاية الزيارة توقيع محضر المجلس لأن د.الحريقي أمينه حينذاك، وكان ابن جبير في اجتماع فلما علم بوجود الأمين استأذن من الحضور، وقابله بوجه بشوش ورحب به ترحيباً مضاعفًا ودعاه بإصرار للغداء، مما أزال الحرج من نفس أ.د.الحريقي على مجيئه دون موعد، وخروج الشيخ له من اجتماعه.
أيضًا شهد كثيرون لمعاليه بأنه حكيم في آرائه، قادر على تقريب وجهات النظر، واسع الأفق، يتقبل الآراء وإن خالفها، يتعامل مع الجميع بتدين وأدب، وذات مرة اقتحم مكتبه في المجلس موظف وأغلظ القول للشيخ الرئيس وهو ينصت ولا يقاطع، حتى أفرغ الموظف ما في نفسه ببذاءة فلم يغضب الشيخ منه أو يمطره بسهام اللوم أو يحيله إلى لجنة تأديب؛ بل تركه يخرج دون محاسبة، ولام نفسه على قبول توظيف مثل هذا النموذج.
وأخبرني رجل وجيه مثقف أنه كتب مقالًا ضد شيء من عمل المجلس في آخر حياة الشيخ، وبعد أن قرأ ابن جبير المقال طلب من مكتبه أمرين أولهما: تصوير نسخة منه وتوزيعها على كل عضو، وثانيهما: توجيه دعوة للكاتب كي يحضر إلى المجلس لمناقشته فيما رأى؛ بيد أن الشيخ مات قبل توقيع كتاب الدعوة، ولعلّ هذه الحادثة مع غيرها مما فتح الباب للإعلاميين والمواطنين لحضور جلسات المجلس.
ويتكرر في مسيرة الشيخ مواقفه القضائية النفيسة، ففي سيرة أحد المفكرين أن القاضي ابن جبير أخذ من ضابط الأمن ملفات فيها اتهام فكري لبعض الموقوفين وأنهى الموضوع؛ وهكذا يفعل القاضي النزيه إذ لا يظلم، ولا يخدش كبرياء الحكومة، وفي موقفه وضع للعدل عند أهله، ورفع للحرج عن الحكومة، وإقفال لموضوع شائك بحصافة، وهذا منهج محمود. واعترض الشيخ على اجتهاد الملك خالد الغيور بقتل رجلي الأمن اللذين اغتصبا فتاتين؛ ثمّ اقتنع بصواب رأي الملك وحكمته البديعة، والقصة رواها معالي الشيخ د.محمد عبده يماني.
بينما تظهر حكمته في مواقف أخرى، ومنها ما أنبأني عنه د.عثمان المنيع أنه اقترح على الشيخ إجراء دراسة حول اختيار أول ستين عضو في أول تكوين لمجلس الشورى الجديد، وما في هذا الاختيار من تفرد ومزايا؛ فنصحه الشيخ بألا يفعل فالتجربة الأولى جديرة أن تمضي بهدوء، كما ذكر لي د.المنيع أن ضيوف الجنادرية رغبوا بزيارة المجلس، فلما شاور الشيخ طالبًا منه الموافقة امتنع عن القبول على اعتبار أن طبيعة الضيوف لا تتناسب مع طبيعة المجلس آنذاك، وما أجمل العقل الذي يحسن التقدير.
امتاز الشيخ أيضًا بقدرة على الصياغة جعلت منه عضوًا في كثير من اللجان باختيار من الملوك والمشايخ كابن إبراهيم فمن بعده، وسمعت أن له اطلاعًا عميقًا على القانون الفرنسي، وعنده ولع بالقراءة حتى روي لي من أكثر من مصدر أنه منامه بالليل نادر جدًا، ويصرم ليله بعد إنهاء أعماله في القراءة والصلاة.
وأما طريقة الشيخ في الإدارة فنسيج وحده، وليت أن ذوي المناصب والهيئات خاصة من أصحاب المعالي والفضيلة المشايخ يقبسون من منهجه الإداري، وهو منهج معتدل فيه همة ونشاط ونزاهة وعدالة ورفق كما أخبرني الأساتذة الأفاضل عبدالله المرزوق و عبدالرحمن الصغير و عبدالإله الرشيد وهم من كبار موظفي الشورى سابقًا وحاليًا.
وبعد، فلا يزال فينا بقية من أهل العلم والعمل بلا جدل ولا طبوليات، ومن الذين يستهدفون الصالح ولا يحتجزون لأنفسهم المصالح، ومن الذين يعرفون خير الخيرين، وشر الشرين، ويبصرون الحقائق بالعين الباصرة، والبصيرة النافذة، والفراسة الصائبة، وإن تقديم الأحياء منهم، وتقدير الراحلين لمن الرشد والوفاء والكياسة، وتلك من سمات المجتمع العريق.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 17 من شهرِ محرم الحرام عام 1441
16 من شهر سبتمبر عام 2019م
One Comment