أسد رستم ومصطلح للتاريخ والمؤرخ
التاريخ من العلوم أو الفنون المهمة، وفي حضارتنا جهود شامخة خدمته رواية بمصنفات علماء كبار، ثم جاء ابن خلدون ليفتح بابًا لدراية التاريخ وتفسيره في مقدمته الفذة، وبسبب غياب المقدمة عن مكتبتنا الإسلامية قرونًا متوالية، واضمحلال أمتنا حضاريًا، استحال هذا المجال العظيم إلى سرد قصص وحكايات ووقائع، وبعضها ربما يصعب تصديقه، أو يستحيل وقوعه، أو يُغرب في تفسيره.
ومع نهضة أوروبا كان للتاريخ مكانه السامق، فدرسوا تاريخهم وتاريخ غيرهم، وعرفوا أنفسهم كما عرفوا الآخرين، وصنع العقل الأوروبي لنفسه منهاجًا علميًا لرواية التاريخ ودرسه وفحصه والبناء عليه، وكاد أن يكون هذا المنهج هو المعتمد حتى في واقعنا العربي والإسلامي العريق لولا أن نبغ من رحم أرضنا عالم عرف مناهج الغرب؛ بيد أن علم مصطلح الحديث ملك عليه لبه، فجعله أصلًا اقتبس منه، ثمّ أضاف عليه ما وجده لدي مؤرخي الغرب.
بعد ذلك وضع كتابًا قصيرًا بيد أنه مليء بالجواهر، مكتنز بالعلم، محفوف بالتجارب والخبرات، عنوانه: مصطلح التاريخ، تأليف: أسد رستم، وصدرت عن مركز تراث للبحوث والدراسات طبعتها الأولى عام (1436=2015م)، الواقعة في (251) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من كلمة المركز وعملهم في الكتاب، ثم ترجمة للمؤلف فمقدمة بقلمه، وبعدها أحد عشر بابًا، وفي النهاية كشاف عام، وللكتاب طبعات أخرى أقدم.
أشار الناشر في كلمته الجميلة إلى مضي خمسة وسبعين عامًا على صدور الكتاب في طبعته الأولى القديمة، وهو أسبق مصنف بالعربية في موضوعه، ومن أجلّ مزاياه أن مؤلفه العالم والمؤرخ لم يحن هامته أو يسحق ذاته تحت وطأة المناهج الغربية، وأفاد منها دون أن يجعلها الأساس، ويأمل المركز أن يتوقف المؤرخون أمام هذا العمل طويلًا ويبنوا عليه.
بينما ذكر المؤلف في مقدمته التي كتبها بتاريخ (12 من سبتمبر عام 1939م) أن من اندفع بالعاطفة لقراءة التاريخ يضل ويضلل غيره، وينطِق التاريخ بما ليس فيه، وحذر من التعميم قبل الإحاطة، ومن كتابة التاريخ على ضوء مذهب فلسفي ينساق إليه المؤرخ متجاوزًا جلال العلم، وهيبة الحقيقة.
كما قارن بين مذهب الألمان والفرنسيين في درس التاريخ، فبينما يضع الفرنسيون قواعد ضابطة، ينزع الألمان إلى المحاكاة والتعليم بالأمثلة، وسرد حكايته عن تأليف هذا الكتاب وملخصها أنه حين أسند إليه في الجامعة تدريس هذا المقرر وجد فراغًا في هذا الحقل فصمم على تلافيه، واستخدم المراجع الأجنبية أولًا، ثم فتح عليه بالعودة إلى كتب مصطلح الحديث لسببين هما: الاستعانة بمصطلحاتهم، ولربط عمله بما سبقه من إرث أمته، فزاد ولعه بعلم المصطلح تبعًا لتعمقه فيه.
ووقف على ما كتبه القاضي عياض وسما به حتى جزم المؤلف بعجز علماء الغرب عن الاتيان بمثله، بل وعزا تأخر علماء أوروبا في تأليف هذا العلم إلى جهلهم بما كتبه المسلمون، وصارح علماء أوروبا بأن ما يفاخرون به قد نشأ وترعرع في بلادنا وحضارتنا؛ وما أنبل الإنسان المعتز بشوامخ حضارته دون ادعاء أو انتقاص لمنجزات غيره.
وعقب بحث وانكباب وتدريس وضع د.أسد رستم مؤلفه متوخيًا خدمة لغتنا وبلادنا، وليصنع طريقًا لطلاب التاريخ العربي ينفذون منه إلى مجاهله، ويصلون إلى الروح العلمية المتجلية في مؤلفات الغرب، وبذلك مزج المؤلف بين نتاج علمائنا وما ألفه علماء أوروبا؛ عسى أن ينشأ جيل من المؤرخين على الشروط العلمية والفنية التي يقتضيها علم التاريخ.
عنوان الباب الأول: التقميش، ويشمل جمع الأصول لأن المطلوب بلوغ كل الحقيقة وليس بعضها، ولا ينتخب المؤرخ ففي انتخاب الأصول ندم ونقص وما أعظم فائدة التقميش التي تلم أطراف الحقيقة، وتتابع دقائقها، وهذا لب العمل الاستقصائي، ومن مزاياه الإحكام، وندرة الثغرات فيه، والوصول إلى الحقيقة أو الدنو منها.
أما الباب الثاني فعنوانه: العلوم الموصلة؛ فبعد أن يقمش المؤرخ يجب عليه تقليب ما جمع، وإنعام النظر فيه، وهذا لا يكون إلا بالعلوم الموصلة، مثل تدرج معاني الكلمات، وأصول المكاتبة والمخاطبة، ورسوم الإدارة، وإجادة اللغات الأجنبية، والتبحر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، فحتى يفهم المؤرخ حقيقة الماضي عليه أن يحيط بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبمعرفة أصول الخطاب والكتاب يفحص الوثائق ويعرف عصرها ومصداقيتها.
ثم ندلف إلى الباب الثالث بعنوان: نقد الأصول، وفيه التأكد من أصالة الأصول وخلوها من الدس والتزوير، واختبار الدليل الظاهري بمقارنته مع الأصول الأخرى بعد دراستها، وتحليل الدليل الباطني من نص الأصل نفسه. ومن المهم التريث فلا فائدة ترجى من التهالك على العمل والإسراع فيه، مع ضرورة الحذر من الاستسلام للأصول فالتزوير والدس فيها وارد.
وبما أن الأصول هي في الغالب صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي؛ فمن المهم معرفة شخصية كتّابها، وهي مهمة أصعب من مهمة القضاة؛ لأن الذي يُحاكم هنا ميت خلا مكانه وطويت صحيفته، ومن الضرورة رواية النصوص والحوادث كما سيقت لا كما يظن المؤرخ أنه ما يجب قوله وفعله؛ فتحري النص والمجيء باللفظ مأثرة من مآثر علماء الحديث نفعوا بها الأمانة العلمية.
ويحمل الباب الرابع عنوان: تنظيم العمل، فلا يعتمد المؤرخ على الذاكرة، ويدون جميع ما يتصل به مما وقع عليه، مع ترتيب النصوص على تواريخها لحفظ تسلسل الرواية وللحيلولة دون تقديم المسببات على أسبابها، ويمكن التنظيم زمنيًا أو جغرافيًا، وربما يستخدمهما معًا لتجلية الحقيقة، وأحيانًا يضطر لأحدهما بسبب استحالة معرفة الآخر.
ثم نصل إلى الباب الخامس وعنوانه: تفسير النص، فبعد نهاية الباب الثالث ينتهي النقد الخارجي، ويبدأ من الباب الخامس النقد الداخلي من خلال تفسير النص ببيان ظاهره المراد وإدراك غرض المؤلف منه، وحتى نتقن ذلك لابد من معرفة معاني المفردات ودلالتها عند صاحب النص وعصره، ويمكن الاستعانة بباقي كتب المؤلف أو كتب معاصريه.
عنوان الباب السادس: العدالة والضبط، وذلك للكشف عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية، فشك المؤرخ رائد حكمته لأن الهوى والنسيان وقصور الفهم واردة بحق الجميع، ومن المهم السؤال عما يلي:
- هل للراوي مصلحة فيما يروي؟
- هل خضع الراوي للإكراه فيما كتب؟
- هل شايع الراوي أو قاوم فئة من الناس فنظر إليها بعين راضية أو غاضبة؟
- هل اندفع الراوي بشيء من الغرور والكبرياء لينطق بالباطل؟
- هل حاول الراوي أن يتودد إلى جمهور الناس أو يتملقهم ونحكم على هذا من معرفة طبيعة الجمهور المخاطب؟
ومن الأهمية معرفة الأسلوب الأدبي في الرواية؛ فالأدب قد يجنح بالراوي إلى مالا يتفق مع الحقيقة، وخلص المؤلف إلى أن ارتقاء أسلوب الراوي الأدبي يقود إلى زيادة الشك في نصوصه، مع أنه في خاتمة الكتاب أوصى المؤرخ بتجويد أسلوب بيانه، والتوسط خيار آمن.
- وبعد العدالة يحسن التأكد من ضبط الراوي بواسطة طرح هذه الأسئلة:
- هل تمتع الراوي بحواس سليمة وعقل صحيح؟
- ماهي طريقة أسئلة الراوي لمن ينقل عنهم فبعضها يجبر على إجابة معينة يكون فيها تضليل؟
- هل يعد الراوي مصدرًا أوليًا؟ وإذا تعسرت المصادر الأولية فهل يمكن الاعتماد على المصادر الثانوية؟
وأسهب المؤرخ في النقل عن أكابر علماء الحديث، ونقل قول مالك: لا يؤخذ العلم من أربعة: سفيه، وصاحب هوى، وكذاب، ومن لا يعرف ما يحدث به وإن كان صالحًا، وقوله: لا يكتب العلم إلا عمن حفظ وجالس الناس ويكون معه ورع، ثم روي عن مالك جملة بديعة هي: من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة.
وجماع الأمر التأكد من عدالة الراوي بالتنصيص من أهل الشأن أو بالاستفاضة، ويقاس ضبط الراوي بمقارنة مروياته مع روايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان، وغاية ذلك المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد، ثم عرج على أسباب الكذب في الرواية وهي: التشيع للمذاهب، والثقة بأي ناقل، والذهول عن المقاصد، والتقرب لأهل الدنيا، والجهل بطبائع العمران، والأخير مهم لأنه يسبق البحث عن عدالة الراوي وتمحيص المروي، فالممتنع من الوقوع لا حاجة لتضييع الوقت في فحصه.
ويختص الباب السابع كما في عنوانه: بإثبات الحقائق المفردة بالحدث وهو جانب مهم، فكل ما سبق مكننا من المفاضلة بين الرواة وتعيين درجاتهم وإسقاط رواية من لا يعتد به، وعلى الراوي الابتعاد عن الحوادث المفردة ولكن لا يسقطها وإنما ينقب لعله أن يجد بين الروايات المختلفة ما يزكي الرواية المفردة، وهو باب الاعتبار والمتابعات والشواهد عند المحدثين.
وإذا وقع المؤرخ على تناقض بين الروايات فعليه بعد التثبت من أنه تناقض لا يمكن تفسيره أن يفعل ما يلي:
- الترفع عن اتخاذ موقف وسط.
- يعيد النظر في طرفي التناقض لعله يرجح أحدهما.
- يمتنع عن الحكم إذا عم الشك فالحقيقة العلمية لا تثبت بالتصويت والأكثرية.
وإذا توافقت الروايات فمن الحصافة ألا يتسرع في الحكم، ويستوثق من عدم اعتماد الرواة على بعضهم؛ فربما روى الخطأ واحد وتبعه آخرون، ومن المتقرر أن شدة تطابق الروايات مدعاة للشك وليس الثقة، وترفع من قلق المؤرخ وتزيد ريبه.
ثم يأتي الباب الثامن بعنوان: الربط والتأليف، فبعد التثبت من صحة الروايات يشرع المؤرخ في التأليف وربط الروايات المختلفة مع افتراض استمرار بعض الماضي في الحاضر لسد ثغرات الرواية، ويمكن له الانتقاء من الحوادث المفردة بما يتناسب مع طبيعة بحثه على ألا يغرب عن باله أن سير الأفراد تتفاوت بشدة ارتباطها مع حياة المجموع وسماتهم المشتركة.
لذا ينظم الروايات ويربطها بزمنها إذا كانت فردية أو بعادات المجتمعات وأعرافها إذا تكررت وتشابهت، ويلفت المؤلف النظر إلى ضرورة ما يلي:
- تنظيم الحقائق المفردة زمنيًا.
- النظر في أسبابها ومسبباتها.
- معرفة الأحوال وجمهور المؤرخ.
- سردها بأسلوب قصصي كما وقعت لتقترب من الحقيقة.
ويجيء الباب التاسع تحت عنوان: الاجتهاد، وهو قسمان سلبي وإيجابي، والسلبي منه مبني على السكوت وهو قسم خطير للغاية، وقبل أن يجزم به المؤرخ عليه أن يتيقن من اطلاعه على جميع الأصول، وأنه رأى كل ما كتب من أصول ولم يضع منه شيء؛ فالضياع يمنع القطع برأي ما. وعلى المؤرخ المدقق أن يتأكد من استحالة السكوت عن الموضوع الذي يدرسه، فلا تتم حجة السكوت إلا إذا اقترن بالراوي حالتان:
- أن تكون الواقعة مما يهتم بها اهتمامًا بالغًا لو وقعت.
- أن يكون الراوي معنيًا بتدوين جميع الأخبار التي أحاط بها علمًا.
وأما الاجتهاد الايجابي فبإمكان المؤرخ أن يستنتج أمرًا من الماضي بمجرد تثبته من أمر آخر تنص عليه الأصول، وفي كلا الاجتهادين لابد من فصل الحقيقة التاريخية عن الحقيقة المستنبطة، مع الحذر من الاستنتاجات التي لا تصدر عن وعي وروية، فهي عيب يعطب عمل المؤرخ، ويخرم مصداقيته العلمية.
عنوان الباب العاشر هو: التعليل والإيضاح، إذ لا يكفي ما سبق من عمل مجهد، فلا بد من أسباب يُفسر بها ما جرى فالتاريخ ليس قصة تروى ظواهرها فقط، ففي بواطنها نظر وتحقيق، وتعليل دقيق، وعلم عميق، ولذا فهو أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يُعد من علومها وخليق، كما قال ابن خلدون، وهذا التعليل يركن إلى الحق ويتهاوى عنده الباطل؛ ولا غرو فللحق سلطان لا يقاوم، ومن الواجب على المؤرخ التنزه عن الهوى وأغراضه والزور ومظانه.
ويختم الكتاب بالباب الحادي عشر وعنوانه: العرض، فيوصي المؤلف الخبير بحثًا وتأليفًا وتدريسًا بحسن ترتيب المادة، وأمانة النقل والتعليل، مع التفريق بين المتن والهامش، وسبك النص بأسلوب جميل، وبيان راق، ونهج قصصي آسر، وفي آخره كشاف يجلي انغماس المؤلف في بحثه، وشدة التصاقه بحضارة المسلمين والعرب.
من طريف ما يحتف بالكتاب أن والدة المؤلف أسمته ” أسد” كي يطول عمره، وكان يقرأ القرآن قراءة درس وتبصر مدة نصف ساعة يوميًا، هذا مع انبهاره المتعاظم بعلم مصطلح الحديث، وغيرته على استقلالية أمتنا وتراثها، واعتزازه بعلمائها ومؤلفاتهم وآرائهم، ويعظم مسلكه في عيوننا إذا علمنا أنّ المؤلف العالم الدكتور أسد جبرائيل رستم مجاعص ليس مسلمًا.
إن ما سطره المؤلف مهم للسياسي والمصلح ورجل الدولة فالتاريخ له سنن وقواعد، وبعض أحداثه تعاد، ومهم للمؤرخ ودارس التاريخ ومن يقرأ فيه، وهو كذلك للإعلامي الذي يريد إنجاز أعمال استقصائية متقنة، ولعموم الباحثين عن الحقيقة، وهو لبنة مهمة في الارتقاء بالوعي، ومقاومة البهتان والباطل وتزييف الحقائق، فمن أفاد من هذا المصطلح سينجو بفضل الله غالبًا من شباك ظاهرة وخفية تحيط بنا لتصطاد فرائسها ثم تعيد صياغتها وفق منظورها الخاص؛ وتلك لعمر الله رزية ومنقصة يدفعها المؤمن العاقل الكامل ومن يتشبه به.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 14 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1440
17 من شهر يوليو عام 2019م
One Comment