ابن سليمان: الوزير الأول!
يظهر في كلّ دولة أفراد من طراز فريد، ومن سعادة أيّ بلد ألّا تخلو منظومته من أمثال هؤلاء سواء في مرحلة التّأسيس والبناء، أو إبّان الاستقرار والثّبات، وخلال زمن التّحوّلات والأحداث التي لا يصمد لها إلّا كبار رجال الدّولة من أولي الحكمة، والفهم، والأمانة، ولقيمة الرّجال العظماء تمنّى الفاروق غرفة مليئة من أمثال أبي عبيدة بن الجرّاح مع أنّه كان يخاطب بعض الصّحابة رضوان الله عليهم.
أقول هذا بعد فراغي من قراءة كتاب عنوانه: عبدالله السّليمان الحمدان سيرة…وتاريخ، تأليف أ.د.عبدالرحمن بن سعد العرابي، صدرت الطّبعة الأولى منه عام (1439) عن شركة تارة الدّوليّة، ويقع في (419) صفحة، ويتكوّن من مقدّمة وعشرة فصول ثمّ قائمة بالمصادر، فتسعة ملاحق فيها نصوص اتفاقيّات متنوعة.
ويتخلّل الكتاب صور تاريخيّة، ووثائق، وقصاصات من صحف، وطباعته فاخرة جدًا، ولا يخلو من أخطاء طباعيّة ونحويّة ولغويّة، إضافة إلى أغلاط في بعض التّواريخ والأسماء مثل تسمية والد الطّريقي سليمان وهو حمود، ولم يتطرّق الكتاب إلى أوراق ابن سليمان، ومكتبته، وأوقافه.
يبدأ الفصل الأول بالحديث عن النّشأة، ويختصّ الفصل الثّاني بالعمل المالي، فيما يقف الثّالث مع مصنع كسوة الكعبة وإلغاء رسوم الحج، ويبحث الرّابع العلاقة الشّخصيّة مع الاقتصادي المصري الشّهير طلعت حرب، ويأخذنا الفصل الخامس إلى تداعيات الحرب العالميّة الثّانية.
بينما يحكي لنا الفصل السّادس قصّة اكتشاف النّفط، ويعتني السّابع باتفاقيّات المناصفة والتّابلاين والمنطقة المحايدة، فيما يطلعنا الثّامن على الأدوار التّنمويّة للشّيخ، ويصل بنا التّاسع إلى استقالته ووفاته، ويرصد العاشر ما قيل عنه في حياته وبعد رحيله. وفي المقدّمة شكر المؤلّف الشّيخ أحمد بن عبدالله السّليمان ود.فهد السّماري ود.زاهر عثمان، وجمعًا ممن أعانوه على إنجاز كتابه.
ولد ابن سليمان عام (1302) في عنيزة، وتوفي في 17 من شهر رجب عام (1385) بجدّة، وهو الابن الثّاني بين أبناء أبيه، وحصل على تعليم من جنس ما ساد في زمانه، وبرز في الحساب كما رزق خطًا جميلًا، وكان لهما أكبر الأثر في صعوده، فجمال الخط أحد الفصاحتين، ويستعان به على قضاء الحوائج، والحساب علم لا غنى عنه، ولا تتقنه إلّا ذهنيّة مرنة مبدعة في الغالب.
ثمّ انتقل من عنيزة إلى الأحساء والكويت فالبصرة والهند والبحرين، وعاصر فيها قامات تجاريّة ذات وزن وتأثير من آل الذّكير والفوزان وزينل والقصيبي وغيرهم، قبل أن يصطفيه الملك عبدالعزيز-رحمه الله- متفرّسًا فيه النّباهة والقدرة والأهليّة، ولا غرو فالملك يسعى لبناء دولة قوّية، وهو كما قال الشّاعر خالد الفرج:
ومن كمليكنا يزن البرايا | فيرجح عنده الرّجل الرّزين؟ |
وخلال غربته الجريئة ازداد ضبطه للحساب، وبرع في شؤون التّجارة والإدارة، وأتقن الّلغة الأرديّة، وفهم فيما يبدو لي المزاج الإنجليزي والغربي، فأضحت رحلاته المبكرة أشبه بالإعداد لأمر عظيم ابتدأ باستدعاء الملك عبدالعزيز له ومقابلته، ثمّ ضمّه إلى فريقه وجعله ضمن الدّائرة المقربة من الملك حتى أصبح لصيقًا به وموضع ثقته، وأسند إليه عظائم الأعمال وجديدها.
كان أوّل عمل مالي بدأه هو جرد موجودات حائل بعد دخولها تحت إدارة الملك عبدالعزيز في التّاسع والعشرين من صفر عام (1340)، وظلّ ستّة شهور عاكفًا على أداء هذه المهمّة التي شيّدت له أساس علاقة متينة وطويلة مع بيت الحكم، ثمّ زادتها رسوخًا وقائع دخول الحجاز تحت الحكم السّعودي؛ إذ تكفّل ابن سليمان بتدبير تموين الجيش وإمداده، وتطمين تجار مكة وأعيانها وكسبهم إلى صف الحكم السّعودي.
لذلك عيّنه الملك في مطلع عام (1345) مديرًا عامًا للشّؤون الماليّة والاقتصاديّة، وفي عام (1348) ارتقى لمنصب الوكيل العام للماليّة، وحمل على عاتقه دمج الإدارات الماليّة للحجاز ونجد وغيرهما، ووضع موازنة للإيرادات والنفقات، وبعد ذلك سمي وزيرًا للماليّة عام (1351)، وهي تسمية غير مسبوقة؛ فأصبح الوزير علمًا شائعًا متداولًا يستغنى به عن ذكر ابن سليمان صراحة، وهذه من فرائده التي يضاف إليها النّص الصّريح من الملك عبدالعزيز بأن لا سلطة لأحد على وزيره!
ولم يقتصر ابن سليمان على العمل المالي وسك العملة وإنشاء مؤسسة النّقد ثاني أقدم بنك مركزي عربي، بل شارك تلبية لأوامر الملك عبدالعزيز في أعمال عسكريّة، وخارجيّة، ونفطيّة، وزراعيّة، واقتصاديّة، وتعليميّة، وبلديّه، وإداريّة، وإعلاميّة، فضلًا عن أخرى تخصّ الحرمين والحج والأوقاف، أو ضمن قطاع المياه والكهرباء، أو في مصلحة المواصلات البريّة والبحريّة والجويّة، وفي مسائل الإسكان والأشغال العامّة؛ ولذلك فليس غريبًا أن يصفه تشرشل بأنّه رئيس وزراء الملك، وإلى هذه الأدوار الحاسمة يمكن تفسير أبويّة وزارة الماليّة لكثير من الوزارات، وسلطة وزيرها المتوارثة.
ولأنّ خدمة الحرمين شرف يُسعى إليه، ومكسب يُحافظ عليه، أجاد ابن سليمان تنفيذ أمر الملك بصنع كسوة للكعبة حين امتنعت مصر عن إرسالها بسبب خلاف طارئ عام (1345)، وأنشأ بعدها مباشرة مصنع الكسوة سنة (1346)، واتّخذ للحرم ساعة مرجعيّة ظاهرة عام (1352)، وبعد أن أفاض الله المال على البلاد شارك مع مليكه في إسقاط الرّسوم عن الحجّاج عام (1371)، وكان نعم المعين لتحقيق رغبة الملك بربط مكة بريًا مع غيرها، وفي توسعة المسجد النّبوي، وإيصال المياه لجدّة.
كما استثمر صداقته مع طلعت حرب لتحسين العلاقة مع مصر، وتلطيف الأجواء وترتيب الزّيارات، والإفادة من الخبراء المصريين في مجالات عدّة، وصنع ذات الشّيء في علاقاته مع الهند وبريطانيا وأمريكا تحقيقًا لمصالح بلاده وأهلها. ويبدو أنّ الرّجل شغوف بالتّعليم ونشره، وفتح الباب لبعثات تحتاجها البلاد مع زيارة الطّلاب وتفقدهم، إضافة لحرصه على توظيف المواطنين وتدريبهم وتأهيلهم كي ينهضوا بإدارة العمل وتستغني الدّولة عن غيرهم.
أمّا مفاوضات النّفط التي كان ركنًا رئيسًا فيها بأمر من الملك، فأبانت عن طول نفس، وقدرة تفاوضيّة، ومهارة في وضع الشّروط وتنويع الخيارات حتى لا يكون القرار اضطراريًا، واعتماد المراجعة لتصحيح أيّ غبن، واستثمار متغيرات السّوق لمصلحة المملكة، مع الإفادة من تجارب المماثلين، والتّعاون مع المشتركين في الشّأن، ودرّة الجهود وذروتها إعداد المواطنين بالدّراسة والممارسة، والثّمرة الأبرز لنظرة الملك ووزيره هي ظهور شخصيّة بحجم الوزير الشّيخ عبدالله الحمود الطّريقي.
وفي أجواء المفاوضات حرص الشّيخ عبدالله السّليمان على تحصيل أكبر عائد من المال لخزينة دولته سواء بالذّهب أو بالعملة الصّعبة ولم يقبل سواهما، وأبرم اتفاقيّات تكميليّة، وانتزع من أرامكو بعض امتيازاتها، وبحث عن شركاء آخرين، واجتهد في أمرين حكيمين هما ألّا تتحمّل حكومتنا أيّ أعباء ماليّة، وألّا تتدخل أيّ حكومة أجنبيّة في شؤوننا حتى لو عقدنا معها شراكة اقتصاديّة أو تنمويّة.
ومن معلومات الكتاب التي تستحق الإشارة أنّ رؤية الملك عبدالعزيز لبلاده تقوم على أربعة محاور هي: أمن وصحة ورخاء واقتصاد كما لاحظ رجل الأعمال الأمريكي ريتشارد كرين، ويلتفت الملك للاستقلال الاقتصادي وليس السّياسي فقط، واستلزم تنفيذ مشروع خط الأنابيب “التّابلاين” أكبر عمليّة نقل شهدها العالم في فترات السّلم، وأطلق الغربيون على ابن سليمان: مستر لا!
ومنها أنّ الطّائرة قطعت بين القاهرة وجدّة ثمان ساعات دون توقف بعد عودة علاقات البلدين، وقرأ أهل جدّة عدد الأهرام في ذات يوم صدوره، ورست أوّل سفينة في ميناء جدة بتاريخ 14 من شهر شعبان عام (1369) تحمل على متنها (479) حاجًا قادمة من بومباي.
ويعود الفضل في إقامة مشروع الخرج الزّراعي الضّخم لانزلاق سيّارة بعض الأمراء في عين ماء على إثر رحلة صيد في تلك المنطقة، فتعهّد الوزير بإخراجها فلما عاين الماء رأى استثمارها زراعيًا، وبعد نقص عدد الحجّاج وضغط الحرب العالميّة الثّانية أبدع الوزير في ترشيد المصروفات وجدولة النّفقات وجلب مساعدات ماليّة خارجية.
ولأنّ الدّول العريقة تقدّر رجالاتها، وصف الملك وزيره بأنّه عصابة رأسه، وصرّح بأنّ على كلّ أحد أن يصغي لابن سليمان، بينما كتب له الملك سعود بأنّ لك علينا مئة حق، وقال له الملك فيصل وهو على سرير المرض: إنّك من بناة الدّولة، ومنح الملك عبدالله لأنجاله وسامًا وقال لهم: خدم والدكم دينه ووطنه ومليكه، وكرّمه الملك سلمان في حفل جامعي كبير.
بينما نعته تلميذه الوزير الطّريقي بأنّه قطعة من الشّعب، وكتب عنه الأديب محمّد حسين زيدان: مات إنسانًا وعاش تاريخًا، وتحدّث الزّركلي عن الآثار التي طبعها ابن نجد في مسيرة بلاده، وسمّاه رئيس أرامكو توماس بارغر الوزير الكبير، واستنتج جورج خير الله بأنّ الشّيخ رجل تزدحم أيّامه بالعمل، ونال أوسمة، وحملت قاعات كبرى وشوارع نابضة بالحياة والمال اسمه.
وبعد استقالة ابن سليمان لم يترك العمل والإنجاز، فكانت له يد طولى في إنشاء مصنع الإسمنت، وتشييد فنادق فخمة، وتسريع إتمام مشروع جامعة الملك عبدالعزيز، والملاحظة الأهمّ أنّه خلال ستّة عقود صنع رجالًا أصبح عدد منهم وزراء ومسؤولين وأثرياء. وقد أنجب الشّيخ عشرة من الأبناء مناصفة بين الأولاد والبنات لم يبق منهم الآن إلّا أربعة، ويحقّ لهم ولغيرهم أن يردّدوا مع الشّاعر محمّد حسن فقي أبياتًا من مرثيته في الوزير:
يا فقيدًا بكت عليه الأماني | وضجت بفقده الأمصار | |
أذهل النّاس من شبابك والشّيب | ولاء وفطنة واقتدار | |
ربّ روح تمضي إلى عالم الخلد | وتبقى من بعدها الآثار |
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 17 من شهرِ شعبان عام 1440
22 من شهر أبريل عام 2019م
10 Comments