سير وأعلام عرض كتاب

قبسات من ومضات الجزائري

قبسات من ومضات الجزائري

مضى على إنشاء وزارة الصّحة سبعون سنة منذ عام (1370)؛ تعاقب عليها عشرون وزيرًا منهم أمير هو أوّلهم، وثمانية أطبّاء. وكتب خُمس هؤلاء الوزراء سيرهم الذّاتيّة، وأظنّها خصيصة تنفرد بها الوزارة، وهم حسب ترتيب الكتابة: د. القصيبي، و د. المانع، و أ.د. شبكشي، ورابعهم أحدثهم تأليفًا هو الوزير التّاسع د. الجزائري الذي أكمل الخمس، ورقم خمسة يرد كثيرًا في سيرته.

عنوان هذا الكتاب: ومضات من الذاكرة: نصف قرن في خدمة الصحة والتعليم الطبي، تأليف: حسين عبدالرّزاق الجزائري، صدرت الطّبعة الأولى منه عام (2019م)، عن جداول للنّشر والتّرجمة والتّوزيع، ويقع في (325) صفحة مشتملة على إهداء وشكر وتقدير، فتقديم ثمّ ثلاثة عشر عنوانًا مختلفة الحجم، تحتها أربعة وتسعون عنوانًا فرعيًا، وأخيرًا الملاحق.

يستبين من سرد الكتاب أثر الأسرة والبيئة والجدّية، إذ عاش المؤلّف في وسط محاط بتخصصات صحيّة، ومع أنّه فقد والده وهو طفل ذو أحد عشر عامًا إلّا أنّه عاش حياة آمنة في كنف أمّه وجدّته، فانغرست مواقفهما في وجدانه، وظلّ وفيّاً للأمومة ويقدّمها على أيّ شيء، لذا سعى لتسهيل عمل المتزوجات في المستشفيات خلال حقبته الوزاريّة.

وواصل الفتى مسيرة الجدّية التي بدأها مع والده، فانغمس بالتّعلم منذ صغره بطرق مختلفة، وفي بلاد عربيّة وأجنبيّة، وكان بيتهم أشبه بمدرسة لغات، ونظرًا لكثرة تنقله الدّراسي أصبحت شهادة الكفاءة أوّل شهادة مطبوعة يحصل عليها، ومن الطّريف أنّه درسها وحده بعد أن استقطبت العسكريّة أصحابه واستثني هو، وذلك تدبير العزيز الكريم.

كما يظهر للقارئ خطر العلاقات الشّخصيّة من خلال علاقة المؤلّف ببعض المسؤولين والأمراء وأكثرها حسنة، والخيرة خفيّة. ويلمح قارئ السّيرة أنّ استمرار الممارسة والعمل، والانصراف للهدف والإعراض عن المنغّصات سبب أكيد للنّجاح، فضلًا عن الالتزام بمبادئ راسخة هي: بناء الثّقة بين الأطراف التي يجنّد الإنسان لخدمتها، والصّدق مع الوضوح، وتحري التّصرف الصّحيح بغضّ النّظر عن الأشخاص والخواطر.

ويعدّ د.حسين أوّل سعودي ينهي الشّهادة العليا في تخصص طبي، ثمّ أنشأ أوّل كلية طب في المملكة، وبقي عميدًا لها تسع سنوات ثنتان منها بلا طلّاب ولا موظفين؛ وتخرجت أوّل دفعة في الكلّية وهو وزير للصّحة. وإبّان عمادته أنجبت الكلّية الأم ابنتين لها؛ واحدة في جدّة والأخرى في الأحساء، وكانت سببًا في افتتاح كلّيات صحيّة أخرى، واستثمر عميدها مكانة الكلّية في مجلس الجامعة؛ ليحمي منسوبيها من القرارات التّجريبيّة.

ومن نصح العميد المؤسس لبلاده إصراره على مشاركة أساتذة من كلّية الهندسة في مشروع كلّية الطّب لاكتساب الخبرة، كما قطع الطّريق على الأجانب حتى لا يجعلوا من بلادنا ومشاريعها ميدانًا لهم ولتجاربهم، وعلاوة على ذلك أبدى تحفظه على استيراد أنظمة الآخرين وخبراتهم قبل فحصها والتّأكد من مناسبتها لنا، وتعديلها إذا لزم الأمر.

ثمّ سرد معاليه إنجازاته وأوّلياته في أعماله بالجامعة، والوزارة، ومنظّمة الصّحة العالميّة، وعرّج على علاقاته بزعماء ووزراء في المملكة وغيرها، وعرّف بمديري المنظمة المتعاقبين، وامتدح بعض العاملين معه في كلّ محطّة، ولم ينس زملاء الدّراسة في المراحل المختلفة، ولم يخف ما تعرّض له من مضايقات في المنظّمة، أو حسد في الجامعة، حتى طار من كرسي العميد إلى مقعد الوزير تاركًا ما بينهما من مناصب لمن يظنّ امتلاكها!

من مواقف الكتاب المحزنة حضوره مع ثلاثة أطبّاء أمريكان مشهد رحيل الملك فيصل في غرفة العمليّات، وإبلاغه الأميرين فهد وسلطان المنتظرين خارجها، ومن المواقف شقاوته مع تلميذات كتّاب الشّيخة المكيّة حتى طرد منه، وجوابه الهزلي عن خيام السّعودية ذوات الطّوابق لزميل مصري أثناء دراسته في القاهرة، واستثماره التّطبيب لكشف عنف اليهود ضدّ أهل فلسطين، ولإيقاف القتال في أفغانستان، وغيرها وهي لا تخلو من حنكة أو طرافة.

أمّا أجرأ مواضع الكتاب فشهادة الوزير التّاريخيّة المنصفة لحركة طالبان والملا عمر الذي التقى به مرّتين، ونقض ما وصموا به من تشدّد، وتكذيب تعميم معاقبة من يسمع الموسيقى أو يحلق لحيته، وتفنيد فرية معاداتهم للمرأة، مع ثناء على تعاملهم، وتعاونهم، ومنطقيّة كثير منهم، ونزاهتهم الماليّة التي افتقدها من خلفهم بمساندة أمريكيّة، ولا ينبّئك مثل خبير!

وأثنى د.حسين على تجربة إيران في الجانب الصّحي مع ارتباط التّعليم الطّبي بوزارة الصّحة، وأفاض في هذا الموضوع، وامتدح التّدريس بالّلغة العربيّة في سورية، ويراه الأصوب، وبه توصي منظّمة الصّحة، وهو قرار سيادي بيد المسؤول، وليست العربيّة أقلّ من الفارسيّة أو العبريّة أو الكوريّة، وللمؤلّف مع زملائه جهد رائع في إصدار المعاجم، وأشاد الكاتب بإجبار صدام حسين أكابر رجال دولته على تخفيف أوزانهم.

أيضًا حظي مجلس وزراء الصّحة في دول الخليج بنصيب من ومضات أبي عبدالرّزاق، فمنها أنّ فكرة المجلس نبعت في جنيف من الوزير الخويطر الذي سبقه في وزارة الصّحة، وعُقد أوّل اجتماع في الرّياض بمشاركة المؤلّف، وتبنّى المجلس مشروعات وأفكارًا ناجحة، ولنشاط المجلس وافقت منظّمة الصّحة العالميّة على كثير من مقترحاته حتى أضحى التّدخين ممنوعًا في مقرّات المنظّمة، وتسابقت شركات الطّيران إلى منعه على متن طائراتها استجابة لجهود المنظّمة.

وبإحساس رجل الدّولة الذي يحب ثقافة التّوثيق، أورد د.حسين حكاية ترشيحه لفترة سادسة في مكتب المنظّمة لشرق المتوسط، والخلل الذي أدّى لتنافس مرشحين من السّعودية على المنصب، وإصراره على المواصلة دون انسحاب كي لا يظنّ به زملاؤه التّآمر والخداع، وهو ما أثمر فوزه بفترة أخيرة، ورفضه الانصياع للتّخويف من موقف الحكومة تجاهه وتجاه أسرته، وشرح دافعه بأنّ حكومة بلاده عاقلة غير بوليسية، وأنّه حين يخطئ يُحاسب هو دون أسرته، وهذا مسلك الحكم الرّشيد.

لا يخلو الكتاب من ملحوظات نحويّة ليست قليلة، ومآخذ صياغيّة جديرة بالمراجعة، وسقوط حرف نفي من جملة، وتكرار المعلومات أو التّوسع فيما لا داعي له كعلامات الوفاة، وإدراج صور دون شرح، واختيار صورة لوزير المال الأسبق الشّيخ محمّد أبا الخيل بلباس أجنبي وصوره بالزّي الوطني ليست نادرة، ولا يوجد للمؤلّف صورة مع الملك خالد أو فهد، وفي أواخر الكتاب حاشية موضعها الأنسب في المسوّدة وليس في الكتاب المنشور!

كما نجد في السّرد معلومات خاطئة أغلبها تخصّ الوزير القصيبي سواء عن وزارته عام (1395) وهي الصّناعة وليست العمل، أو عنوان كتابه الماتع، ووصفه لوزارة الصّحة، وفيه معلومات نقض بها المؤلّف ما أورده أبو يارا قبل ربع قرن تقريبًا عن طريقة تعيينه وزيرًا للصّحة، وحول سبب إعفائه، وذكر د. الجزائري رأيًا قد يصدم كثيرين مفاده أنّ فترة القصيبي لم تحدث فرقًا ملموسًا في القطاع الصّحي، وأنّ تحويل الفنادق لمشافي خطأ كبير!

ومن المعلومات التي تحتاج لمراجعة قوله إنّ أوّل مدير لجامعة الملك سعود د.عبدالوهّاب عزّام شقيق لأوّل أمين عام للجامعة العربيّة المجاهد عبدالرّحمن عزّام، والصّواب أنّه ابن شقيقه؛ فعبدالرّحمن عم لعبدالوهّاب، وللعلم فالعم جدّ من جهة الأم للأمير عمرو بن محمّد الفيصل، وابن الأخ جدّ من جانب الأم للدّكتور أيمن الظّواهري، وله كتب مقالات رفيعة راقية.

والكتاب بجملته يضاف إلى منابع الخبرة، ومكامن التّجربة، وهو سيرة مسؤول مسلم عربي وطني صاحب موقف ورأي وعزيمة، وجدير بمن يأتي أن يستفيد من ومضات السّالفين، ويستنير بخبراتهم، ويقبس منها جذوة أو فكرة، فما أكثر ما تولد الحكمة على لسان أو قلم من وعاها، وجمع مع العلم عملًا وأمانة وشفقة.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 14 من شهرِ رجب الحرام عام 1440

21 من شهر مارس عام 2019م

Please follow and like us:

4 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)