عبدالرحمن آل الشيخ وعقدان بين زرع وماء!
لو كان لي أمر مطاع، أو رأي مسموع، لأوجبت على كلّ ذي ولاية عامّة أن يسرد تجربته؛ كي يفيد الّلاحق من السّابق، فالتّعاقب من سمات عراقة أيّ كيان ومجتمع، وألزمت كلّ مبتعث حكومي بترجمة أهم مراجع العلم الذي أوفد لدراسته، أو أحدث ما صدر عنه، فضلًا عن التّأليف فيه، فنقل العلم والمعرفة أساس النّهوض ونفض الغبار.
ويوم أمس أهدي إليّ كتاب يجمع الأمرين وإن كان الأوّل أظهر فيه، عنوانه: عشرون عامًا.. بين الزراعة والمياه، تأليف معالي د.عبدالرّحمن بن عبدالعزيز آل الشّيخ –وزير الزّراعة والمياه الأسبق- إذ صدرت الطّبعة الأولى منه عام (1440=2019م)، عن العبيكان للنّشر، ويقع في (218) صفحة على ورق لامع ناصع.
يمكن أن يصنّف كتاب الوزير آل الشّيخ على أنّه سيرة ذاتيّة جزئيّة، يحكي فيها شهادته على عصر شارك فيه، ويتكوّن الكتاب من مقدّمة ثمّ ستّة فصول دون خاتمة، ويفترض الفصل الأوّل أنّ الاستقلاليّة تبدأ بامتلاك المعرفة، ويسهب الثّاني بأحاديث عن المسيرة من الجامعة إلى وزارة الزّراعة والمياه، ويفيض الثّالث حول صناعة الانتاج الزّراعي والحيواني والسّمكي.
أمّا الرّابع فيبحث قضيّة ساخنة كانت ولازالت عن المياه والقمح-التّرشيد والاكتفاء والتّصدير، بينما يقف الخامس مع محطّات تحلية المياه والأمن المائي، ويختم السّادس بحديث الخبير عن إستراتيجيّة الأمن الغذائي والمائي. ويمتاز الكتاب بمعلومات كثيرة، وبعضها أودع في جداول وأشكال توضيحيّة إبداعيّة. وتعبّر ألوان الكتاب عن الزّراعة، والمياه، والثّروة الحيوانيّة، والأرض العربيّة، وإن الأناقة لفنّ؛ إذ جمع الكتاب الماء والخضرة والإخراج الحسن!
تبرز في الكتاب أفكار عامّة وأخرى خاصّة، بيد أنّ حبل الصّلة بينهما وثيق، إذ يبصر القارئ احتفاء بالتّعليم، وعناية بالبحث العلمي، وتعزيزًا للوعي، وانتصارًا للمجتمع ومصالحه، وحرصًا على الدّولة وما ينفعها، وهذه السّمات ظاهرة جدًا في أبناء معالي الشّيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشّيخ، واجتماعها كلّها في أنجاله يشير إلى أنّها مبادئ أصيلة مركوزة مذ غضاضة نفوس أعضاء ذلكم البيت النّبيل؛ فأينعت وآتت أكلها.
ومن أخصّ أفكار الكتاب الدّفاع بعلم ساندته التّجربة عن الأمن الغذائي والمائي، والحرص على امتلاك الخبرة فيهما وتوطينها، وتمكين الشّركات الكبرى في مجال الغذاء الزّراعي والحيواني والمائي؛ لتكون قاطرة صامدة في وجه الأعاصير دونما احتكار، أو إضرار بالمستهلك وصغار المستثمرين، فالأمن الغذائي والمائي جزء أصيل من الأمن القومي، وقوّة تدفع لاستقلال القرار السّياسي، وتمتين السّيادة، وتحرير الإرادة، وكلّ إجراء ينقص من جهود الاكتفاء يشبه معاول الهدم في صرح الحريّة الوطنيّة.
كما يؤكد المؤلّف على أنّ الاقتصاد الزّراعي والمائي والحيواني ركن أساسي من أركان الاقتصاد الكلّي، وفي بلادنا الغالية فرص لما بعد الاكتفاء من التّمور، والقمح، والأسماك، ولحوم الدّواجن والماشية، والإبل، ومنتجاتها من البيض والحليب والألبان وما يشتق منها، فضلًا عن امتلاك أسرار التّطوير والصّناعة فيها، وصرف جزء من الإعانات الحكوميّة الخارجيّة على هيئة منتجات محليّة زراعيّة أو حيوانيّة.
وفي الكتاب معاتبة لطيفة دون تسمية لمسؤولين، وكتّاب، وصحفيين، حملوا وجهة نظر الشّركات الغربيّة النّاهبة للثّروات، التي يقلقها استغناء أيّ بلد عن الشّراء منهم، ويضايقها اكتفاء البلد بمنتوجاته، وصنيع المعاتَبين كان بحسن نيّة غالبًا، وبدون علم عمّا وراء الأكمة فيما يبدو إذ لا مجال للشّك لدى معاليه الواثق بنفسه وبالآخرين.
ولم يذكر د.عبدالرّحمن أحدًا بالاسم، لكني سمعتُ من صديق كبير أنّ النقاش في اجتماعات مجلس الوزراء كان أحيانًا يحتدم بين المؤلّف ووزيرين كبيرين ارتحل أحدهما عن الدّنيا، والثّاني على قيد الحياة ويعدّ سيرته الذّاتيّة فيما روي لي، وكانت حجّتهما المحافظة على الماء، وتيّسر سبل الاستيراد مع معقوليّة أسعاره، ويهدأ الحوار بانتصار الملك فهد لرأى وزارة الزّراعة والمياه؛ كي نأكل ممّا نزرع، ونحافظ على قدراتنا المحليّة، ولا نقع في أسر الغير حتى لو أبدى الصّداقة العميقة لنا.
وأشار معاليه إلى أنّ اقتصاد الزّراعة لا يقلّ أهميّة عن النّفط والصّناعة، بل ربّما يفوقهما أولويّة، ونقل مكانة هذا القطاع في الهند، والاتّحاد الأوروبي، والصّين التي كانت قبل قرن أرض المجاعات، وهي اليوم ثاني أكبر منتج للغذاء في العالم، وقد تقفز للمرتبة الأولى قريبًا، ومن الّلافت أيضًا أن دخل الزّراعة في روسيا أعظم من قيمة مبيعات السّلاح!
كما يوقظ الكتاب وعي القارئ من خلال إيراد وقائع ذات دلالة، منها سعي وزير الزّراعة الأمريكي الحثيث لتقديم “نصائح” للمملكة تثنيها عن مواصلة الزّراعة وخطط الاكتفاء، وكانت دوافعه اقتصاديّة دون استناد لضغط سياسي، ولم ينل اليأس من الوزير الأمريكي إذ حاول تكرار التّأثير بطرق متنوعة وعن طريق وزراء آخرين، بيد أنّها لم تفلح والحمدلله.
ومنها مراوغة أستراليا ورفضها القاطع تعريض صادراتها الحيوانيّة للفحص في مختبرات سعوديّة أنشأتها الوزارة بجرأة حتى تفحص ما يرد لسوقنا قبل فسحه، ولم تقبل حكومة أستراليا نتائج فحص أغنامها وأبقارها التي أثبتت مرضها، وأنّ المصدّر لنا أقلّ ما يملكونه جودة وسلامة، فأوقفت التّصدير للمملكة، وكان لهذا التّحدي ثمار مباركة على ثروتنا الحيوانيّة.
ووقف الوزير كثيرًا مع زراعة القمح، واتّهامه باستنزاف الماء، وفنّد ما قيل من خلال دراسات وحقائق ومقارنات، وأبدى استغرابه من رمي القمح بالتّهمة مع أنّ استهلاكه للماء أقلّ وأقصر من استهلاك الأعلاف مثلًا! ولارتباط الماء بالزّراعة لم يوافق على فصلهما في وزارتين، ويبدو أنّ إعادة إنتاج القمح، وجعل الماء والزّراعة في وزارة واحدة قبل أربع سنوات يؤكّد صحّة ما ذهب إليه. ومن معاناة الوزارة ووزيرها ما وصمت به من مجازفة بالدّعم للمشاريع الزّراعيّة والمائيّة والحيوانيّة، وأهلًا بمجازفة -لو صح الوصف- نتيجتها ألّا نجوع أو نعطش! وأين أولئك النّاقدين عن بعثرة المال فيما لا جدوى منه؟!
أمّا الماء فخريره مسموع ونحن نقلّب صفحات الكتاب، وأفرد المؤلّف له أكثر من فصل، استعرض فيه المخزون المائي السّعودي، والسّدود التي تضاعفت خلال عقدين أكثر من عشر مرّات، وروى طرفًا من قصّة المؤسّسة العامّة لتحلية المياه، والتّخطيط لها مع الإصرار، والتّدريب مع التّوطين، حتى غدت الأكبر عالميًا، وصنعة سعوديّة بامتياز، وعندي أنّ هذه الحكاية جديرة بأن يُكتب عنها؛ فهي لم تلق وهجًا كما حدث مع شركات النّفط والصّناعة، وأجد قول المتنبي صادقًا في المقارنة بين قصّة الماء والزّراعة من جهة وقصص أرامكو وسابك من جهة أخرى:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية **** وفي البداوة حسن غير مجلوب!
وختم رجل الدّولة كتابه بنظرة مستقبليّة كرّر فيها أهميّة وجود رؤية وتوجه تكاملي حتى لا تظلّ أمّتنا سوقًا استهلاكيّة، وعقد مقارنة بين مصر العزيزة التي لا تكفّ عن الاستيراد، والهند الضّخمة التي تجاوزت الاكتفاء لعالم التّصدير. وجال معاليه كثيرًا حول معاني خطيرة على رأسها ضرورة ردم الفجوة الغذائية التي تتزايد في عالمنا، مع تأكيده على أنّ الاستيراد ليس ضمن معادلة الأمن الوطني، بل هو سبب في اختزال جزء من الإرادة السّياسية، وألمح إلى تفضيله الانزواء الإعلامي في مشاريعنا المائيّة والغذائيّة كي لا تُستثار شركات أجنبيّة، أو تُستعدى توجهات عالميّة، والحكمة مطلب.
كانت ليلة ماتعة قضيتها مع هذا الكتاب، وهو بوح صريح من مؤلّفه بما علّمه الله، وبما اطلّع عليه خلال عمله ثامن وزير للزّراعة والمياه بين عامي 1395-1415، ولا بأس من آراء أخرى، ومناقشات جادّة، تبنى على العلم والخبرة، وتستهدف المصلحة العامّة المعتبرة، التي تفيد الحاضر ولا تهمل المستقبل، فشأن الزّراعة والمياه أعظم مما نتصوّر، ويكفي أن نعلم أنّ القاتل “شارون” كان وزيرًا لزراعة إسرائيل -وهو قطاع متطور للغاية- فطار بالمروحيّة فوق مصر لاستعراض مساحاتها الزّراعيّة ضمن جولات الإعداد لاتفاقيّة كامب ديفيد؛ والله العالم بخفايا تلك الجولة الآثمة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 30 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440
07 من شهر مارس عام 2019م
3 Comments
أعلن في الرياض اليوم الأحد الثامن من شهر ذي القعدة عام 1444= 28 من شهر مايو 2023م عن وفاة الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ رحمه الله، وهو من أواخر الراحلين من وزراء حكومة الملك خالد (1395=1975م) التي لم يتبق منها على قيد الحياة فيما أعلم سوى د.الملحم، و د.كيال.
عظم الله اجركم في معالي الدكتور عبدالرحمن غفر الله له ورحمه واسكنه فسيح جناته وجعل قبره روضة من رياض الجنة وجزاه خير الجزاء .
وجزاك الله أخي الفاضل احمد خير الجزاء على مدوناتك الرائعة.