سير وأعلام عرض كتاب

وفاء وديع لأعلام عصره

Print Friendly, PDF & Email

وفاء وديع لأعلام عصره

كتبت عن الجزء الأوّل من كتاب وديع فلسطين يتحدّث عن أعلام عصره، الذي صدرت طبعته الأولى وربّما الوحيدة عن دار القلم بدمشق عام ١٤٢٤=٢٠٠٣م في جزءين. وهذه المقالة عن الجزء الثّاني المكوّن من (352) صفحة، تتضمن (46) مقالة عن (42) شخصيّة، منهم ثلاث نساء، وأطول مقالاته عن مي زيادة، ثمّ وداد سكاكيني.

والكتاب مع حداثته نادر، وامتنّ الله عليّ بنسخة من الكتاب بعد مطاردة ذكرت تفاصيلها في مقالة سابقة، وأتمنّى أن يعاد نشره من جديد. وأهتبل هذه الفرصة لشكر الأستاذ المثقّف بخيت المدرع الذي رشّح لي هذا الكتاب، ثمّ مدّ حبال التّواصل لي مع مؤلّفه الذي يناهز مئة عام صرمها في عالم الثّقافة والوفاء قارئًا، وكاتبًا، ومحرّرًا، ومعينًا لحملة مشاعل العلم والأدب.

وهاهنا مقتطفات لفتت نظري خلال قراءة الجزء الثّاني مع تعليقات يسيرة:

  • مع أنّ عبدالله كنون أوّل حاكم عربي لمدينة طنجة، إلّا أنّه لم يبتعد عن العلم والعلماء، فوضع مئة كتاب بين تأليف وتحقيق، وحضر مئات المؤتمرات، وأوقف مكتبته النّفيسة على طنجة حيث لم ينجب، ووقف المكتبات عمل كريم جدير بالعناية.
  • من عادة عبدالله حلاق رصد الأماكن ذات التّاريخ الأدبي؛ فيسأل أين يسكن فلان؟ وأين مقر مجلّة أو ندوة؟ وأين موضع دفن عالم وكاتب؟ وكم نحن بحاجة لإحياء ثقافة المكان.
  • وصف عبدالمسيح حدّاد شعور العودة للوطن بعد طول غربة أنّه يعدل شعور من استطاع أن يستنزل كوكبًا من السّماء إلى جيبه. ومن المفارقات أنّه مات وهو في مسامرة مع رفاقه، وبلغ الخبر للمؤلّف ولاثنين من رفاقه في ذات الوقت، بينما كان كلّ واحد منهم في ناحية قصيّة من العالم، والأعجب أنّ هؤلاء الثّلاثة كانوا إذذاك يقرأون كتاب المهجري الآتي نعيه “انطباعات مغترب”.
  • سرق اليهود محتويات مكتبة عجاج نويهض في القدس، فغادر إلى لبنان، وحين مات أوصى بمكتبته لصالح فلسطين؛ لتكون بمثابة زكاة عمّا فاته من جهاد، وصنيع اليهود في السّرقة تجاوز الأرض إلى المكتبات كما فعلوا مع مكتبة نقولا زيادة وغيره.
  • عزيز أباظة هو الشّاعر الوحيد المعروف في أسرته النّابهة، وبرز بعد صدور ديوانه أنّات حائرة الذي رثى فيه زوجته، فاستقبل الدّيوان بحفاوة من أعلام الفكر. وعقب وفاته نشر ديوانه بعد أن حذفت منه قصيدتان سياسيتان إحداهما بعنوان: قال صفوان وهي زاخرة بالنّصائح الحكيمة للسّاسة.
  • شكى علي باكثير من الشّلل التي قاطعت أعماله بدعوى أنّها رجعيّة! مع أنّ اعماله حظيت بتقدير لاحق من الملك سعود والحبيب بورقيبة، ومن الطّريف أنّ أم كلثوم كانت تمازحه لصغر جرمه قائلة أنت باقليل!
  • حين مات علي الغاياتي نعته جميع الصّحف السّويسرية، وكتبت عنه مقالات ضافية، ويبدو أنّ العلاقات الدّوليّة للكاتب والمثقف تنفعه أحيانًا.
  • مُنح وسام القدس لكثيرين ولم يمنح لعلي هاشم رشيد، فاستنكر المؤلّف ذلك ليسمع من علي جوابًا جميلًا حينما قال: القدس في قلبي وليست على صدري.
  • توفي عيسى النّاعوري حال وصوله إلى تونس للمشاركة في ندوة فكريّة، وأوصى بمكتبته لمجمع الّلغة العربي الأردني.
  • حُكم على فارس نمر بالإعدام غيابيًا ثلاث مرّات، ومنح مع يعقوب صروف الدّكتوراه الفخرية من جامعة نيويورك عام ١٨٩٠م ولم يسبقهما لها عربي. وأسدى فارس قبيل وفاته عام 1951م نصيحة ثمينة لوديع ملّخصها: الاعتدال، وتقليب الرّأي قبل الخوض في موضوع، واستطلاع آراء جميع الأطراف، واحترام القلم، والتّمسك بالمثل العليا، والمثابرة على القراءة، وهي نصيحة مهمة لأيّ كاتب ومثقف.
  • عرفت فدوى طوقان سنة ميلادها من شاهد على قبر ابن عم أمها حيث ولدت في نفس السّنة التي لم يحفظها أهلها، فتعاظم لديها الشّعور بالغربة والنّبذ من أسرتها، وكان أخوها إبراهيم ملاذها، ولم يسلم إبداعها من مضايقات كما في سيرتها.
  • توفي الشاعر فؤاد بليبل قبل أن يكمل ثلاثين عامًا، وفي شعره جزالة فحول الشّعراء، وحكمة الكبار.
  • أوّل من تكلّم بالعربيّة في مؤتمرات اليونسكو هو فؤاد صروف، وله كتاب عن سيرة روزفلت استحق عليه الشّكر من روزفلت نفسه.
  • يعتبر فيليب حتي أكبر مرجع أكاديمي لتاريخ الشّرق الأوسط في الّلغة الإنجليزيّة، ويرى أن تعدّد الرّوايات مفيدة للمؤرخ، وآلت مكتبته الضخمة لزوج ابنته وتلميذه ريتشارد وايندر الذي وضع كتابًا مهمّاً عن الدّولة السّعوديّة الثّانية. وقد نقشت الحكومة الأمريكية اسم فيليب حتي على حائط المعرض العالمي في نيويورك ضمن اثني عشر اسما ممن لهم آثار عظيمة.
  • أصبح قدري طوفان وزيرًا لخارجيّة الأردن، وحاول بالعلم والأدب رأب صدع العرب، وقضى عمره في محراب القراءة والتّأليف بلا زواج، ومن آثاره المهمّة تراث العرب العلمي في الرّياضيات والفلك.
  • يودع قرياقص ميخائيل أيّ وثائق تاريخيّة يشتريها في صندوق حفظ المجوهرات الملحقة بالمصارف! وإذا قرأ كتابًا عن مصر، نظر في مراجعه واشترى الكتب التي ليست موجودة في خزانته، ويجهد نفسه بالبحث في المكتبات والإعلان في الصّحف؛ حتى صارت مكتبته فريدة عامرة بالمؤلّفات العربيّة والإنجليزيّة عن مصر، ولأنّه لم يتزوج آلت مكتبته الى دار الكتب المصريّة. وكان هذا الرّجل كريمًا مع بلده ومواطنيه، عاشقًا لمصر حتى أنّه علّم خادمته الإنكليزية الطّبخ المصري الشّعبي، وكان يسافر بقفة وليس بحقيبة، ومن سمو نفسه أن تزعم حملة للدّفاع عن الإسلام والأزهر في صحف الإنكليز مع أنّه قبطي.
  • اشتهر كامل السّوافيري بمكتبته الحافلة بجميع ما يخص فلسطين، واستغراقه في خدمة كلّ قاصد، ومات دون أن يودي الحج أو العمرة مع تلهفه على ذلك، ومن البشرى للأستاذ وديع أنّ أحد من بلغه ذلك تكفّل بالحج والعمرة عن كامل في موسم حج ١٤٤٠.
  • حقّق كريم تابت الرّقم القياسي في مقابلة زعماء العالم، وكان مدخله إلى الزّعيم التّركيز على هواياته. ومع اتّصاله بالزعماء وقصورهم إلّا أنّه لم يترك العناية بشؤون المواطنين معللًا ذلك بأن الكاتب والصّحافي يحكم على مستقبله بالفشل حين ينفصل عن قضايا الشّارع.
  • لم يرزق محمد جميل بيهم بأولاد فأوصى بمكتبته الى جمعية المقاصد الخيريّة في بيروت، وكان يرى أن تزييف الحقيقة أخطر شيء على التّاريخ، وله كتاب مهم عن تاريخ المرأة ترجم إلى لغات عالميّة.
  • مع أنّ محمد مندور عاش ودرس تسع سنوات في فرنسا إلّا أنّ عجمة اللسان لم تدركه، وظلّ معتزًا بلغته، وتزوج طالبته في الجامعة فاضطرت لترك الدّراسة، وحين أرسل له عمل أدبي لتقييمه، كتب عليه: يحال إلى بوليس الآداب لقبح مضمونه!
  • أحاطت المصائب الجسديّة والماليّة بالشّاعر محمود أبو الوفاء منذ طفولته، وفاز في مسابقة بقصيدة عنوانها: تغريدة، وبما أنّنا في زمن التّغريد عبر تويتر، فما أحرى كلّ مغرّد بترداد قول أبي الوفاء في مطلع قصيدته:

صدّاحة الرّوض، ما أشجانا *** نوحي بشكواك، أو نوحي بشكوانا

وله أبيات شعر تصلح أن تكون ميثاقًا للكتّاب والمتحدّثين:

لم أقل غير ما حسبتُ مفيدًا

ليت شعري، هل قلت شيئاً مفيدًا؟

فإذا عشتُ، عشتُ حراً ضميري

مستريحًا لما صنعتُ سعيدًا

وإذا متُ، متُ حراً لأنّي

لم أُضف للحياة قيداً جديدًا

بل إذا متُ لم أجرّ ورائي

من كلامي سلاسلاً وحديدًا!

  • يقول محمود حسن إسماعيل إنّ الشّاعر الموصول بأسباب الإلهام لا يحتاج إلى التّوسع في المطالعات؛ لأنّها تشوش على تدفق أفكاره، كما أنّ تقليل المطالعات يخلصه من المحاكاة، وهي نصيحة مهمة للكاتب أيضًا.
  • صرم الأمير مصطفى الشّهابي عمره خادمًا للعربيّة، وحين عين محافظًا لحلب أنشأ فيها مكتبة وطنيّة، وكرّر الفعل نفسه إبّان عمله في اللاذقيّة محافظًا، وبعد وفاته أهدى مكتبته وأوراقه للمكتبة الظّاهريّة، وأوصى أن ينقش على قبره:

أمّ الّلغات قضيت العمر أخدمها*** فهي الشّفيعة في غفران زلاتي

  • لم تتزوج مي زيادة بسبب تربيتها منذ الطّفولة والمراهقة في مدارس الراهبات اليوسفيات والعذراوات، وحين أراد المعجبون بها تفنيد إصابتها بمرض عقلي أو نفسي دعوها لإلقاء محاضرة فبهرت المستمعين. وكانت موهوبة تجيد عددًا كبيرًا من الّلغات، وتتكلم بها بطلاقة أو بدلال مع صوت فتن من يبصر ومن لا يبصر! وتدير صالونها باحتراف، علمًا أنّها فتحته ليكون موعدًا ومكانًا لمن يرغب في لقياها من المثقفين المتصدرين حينذاك حتى أدمنه بعضهم طوال انعقاده لمدة ربع قرن، ولا غرابة؛ فقد اختصرت مي للجليس سعادة العمر في لفتة أو لمحة أو ابتسامة.
  • تمتّع نجيب العقيقي بالصّحة واللياقة لأنّه خاصم السّيارات طوال عمره مكتفيًا برياضة المشي، وهو صاحب أعمال موسوعيّة في الاستشراق وغيره.
  • كتبت وداد سكاكيني بصدق عن انفعالات المرأة في جميع أحوالها، بنتًا وأمًا وزوجًا وحماة وعانسًا وعابدة، وعن كل صفات الأنثى خيرها وشرها، مع وقوفها ضد ما يخالف فطرة المرأة ودينها وحيائها، وكانت تدعو إلى تجميل البيان؛ فالكتابة من فنون الجمال كالرّسم والتّطريز.
  • ألّف يعقوب العودات كتابه “من أعلام الفكر والأدب في فلسطين”، وترجم فيه لأكثر من ثلاثمئة شخصيّة ليس فيهم امرأة، وهو أوفى ما كتب عن شخصيّات فلسطين مع كتاب عجاج نويهض “رجال من فلسطين”.
  • تخلّى يوسف داغر عن مكتبته لصالح مؤسسة حكوميّة لبنانية؛ لانصراف أولاده نحو تخصصّات بعيدة عن اهتمامه، فخشى عليها التّبدد، وليوسف كتب مهمّة، وله كتاب لطيف عن الأسماء العربيّة القلميّة.

والملاحظ على سير هؤلاء الأفذاذ، أنّ علاقات المثقفين لا يظهر فيها آثار أيّ أزمات سياسيّة ناشبة بين بلادهم وما أكثرها، فقد جمعهم العلم والأدب، وانحصر خلافهم في شؤونهما. وعانى بعضهم من عمليّات التّطهير والملاحقة الحكوميّة بعد تغيير نظام الحكم أو توجهاته، واشتكى غير واحد منهم من صعوبة النّشر بعد أن كبر في العمر، ومن الحسرة فقدان مؤلّفاتهم، أو ضياع أوراقهم، فضلًا عن إهمال أخبارهم في وسائل الإعلام.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 05 من شهرِ صفر عام 1440

14 من شهر أكتوبر عام 2018م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)