عبدالعزيز الزامل بين الكيمياء والكهرباء!
عنيزة مدينة فاتنة بكلِّ ما فيها، وتقف في صحراء نجد كحسناء شَموس، لا يصل إليها أحد إلا بحقِّها، وهي راضية بأي مستحدث بعد أن تضعه على ميزان الشِّريعة والمقبول من العرف والعقل، ولذا ظلت عنيزة حكاية أخرى مختلفة، وتاريخها خير شاهد.
وأسر عنيزة بمجملها نابهة، متميزة، انتشر فيها العلم، والأدب، والفكر، والتِّجارة؛ حتى غدت علامة مضيئة عند الغريب والقريب، وأصبحت بلدة بارعة منجبة، ولا أدَّل على ذلك من استقلالية مدرستها الشَّرعية، وتطواف تجارها في أرجاء الدُّنيا، وسبقها بعدد الحاصلين على الشَّهادات العليا، وكثرة أصحاب المناصب والجاه من بنيها.
وكنت، ولا زلت حريصًا على قراءة سيرة عنيزة المكان، وسيرة عنيزة الإنسان، وسيرة عنيزة التَّاريخ، وكتبت فيما مضى عن سيرة الأديب الحسّون، وعن رجل الخير والمال السُّبيعي، وفي أرشيفي المزيد، وإنّي لأجد ألماً لضياع فرصة الحصول على سيرة الثَّري سليمان العليان، وكانت بين يدي، ولكنَّ قضاء الله غالب.
لذا أستعرض اليوم سيرة رجل من عنيزة، ينتمي لإحدى أكبر أسرها، وبلغ منصب الوزارة، وله حضور بارز في مسيرة البتروكيماويات، وتاريخ الكهرباء، وتطور الصِّناعة، وذلك من خلال كتاب بعنوان طويل لا يستبين منه العنوان الرّئيس له، ويحكي سيرة المهندس عبدالعزيز بن عبدالله الزّامل، وزير الصّناعة والكهرباء الأسبق.
يقع الكتاب في (236) صفحة، بطباعة أنيقة فاخرة، وصدرت طبعته الأولى عن مكتبة العبيكان عام 1438=2017م، وهو من تأليف أرنولد ثاكري، وريتشارد أولريتش، وترجمة محمود محمد الوحيدي، ويتكون من إهداء، وشكر، وتمهيد، ومختصرات، فمقدِّمة، يعقبها عشرة فصول قصيرة أو متوسطة، وعلى الغلاف صورة حديثة وقورة للوزير، وخلفه صورة تصف الصّناعة السّعودية.
وإضافة إلى الزّامل الوزير، يحضر في الكتاب والده، وشقيقاه محمد، وعبدالرّحمن، وغازي القصيبي، ومحمود طيبة، وإبراهيم بن سلمة، ومحمد الماضي، وعبدالله النّجيدي، ومؤيد القرطاس، وعبدالعزيز القويز، وعبدالمحسن العسيري، وعبدالعزيز الجربوع، وفهد الرّاجحي، وشركة سابك، وشركة الكهرباء، وقطاع الصّناعة، وهؤلاء هم الأكثر ترداداً؛ وإن حوى الكتاب أسماء آخرين غيرهم.
ومن طريف ما ورد في الكتاب أنّ والده جمع ثلاث زوجات خلافًا لما يشاع عن اكتفاء أهل عنيزة بواحدة، ومن الرّائع أنَّ أبا أسامة يصف زوجات أبيه بقوله: أمهاتي، ولوالده منهج متميز في إدارة هذا البيت المتنوع، والتّقريب بين أبنائه؛ وإن كانوا من غير أم.
وضع المهندس إخوانه الذُّكور الاثني عشر في ثلاث مجموعات حسب العمر، ولم يذكر سوى الأربعة الكبار، وأغفل المجموعتين الباقيتين، وأمَّا البنات فسردهنّ دون أن يوضح أمهاتهنّ كما فعل مع الأولاد، وكان الأنسب أن يجري في سياق واحد، أدام الله ألفتهم، وهذه مسألة متكررة في الكتابة، ومن المهم استحضارها عند من يسرد الأسماء حتى لا ينسى فتسقط سهوًا بعضها.
والجانب الأسري في سيرته قليل بالجملة، وإن جعل الإهداء والشّكر لزوجته حصّة البّسام، وأبنائهما: أسامة، وسطام، ومضاوي، ورقية، وأحمد، وعمر. والأمور الأسرية من طرائف، ومواقف، وعبر، تمنح للسّيرة بعدًا إنسانيًا، وتخفف من سطوة الجانب المهني فيها، وغالب السّير الذّاتية تولي هذا الجانب عناية؛ بل تكون أحياناً عامل جذب للقارئ.
أما ما رواه الزّامل عن والده ففيه من البّر بأبيه، والفخر بكفاحه، وهمته، ونشاطه، وبعد نظره التِّجاري، وحرصه على التّواصل مع بلدته وأهلها، وسعيه لنشر التّعليم في عنيزة ولو بإحضار اللوازم الدّراسية لها. ومنها جرأته في دخول ميادين الاكتساب، وحكمته حين شعر بدنو الأجل، وفي ورثته قصّر، فطلب من شيخ البحرين ألاَّ تتدخل الحكومة في ميراثه؛ كي لا تعطّل مصالح الورثة؛ وهو ما كان؛ حتى نهض النّجل الأكبر محمد بالمجموعة، وأنقذها بعون الله من صعوبات كثيرة.
ويحمد م.عبدالعزيز الله أنَّ عائلتهم محافظة على دينها وتقاليدها، هذه المحافظة التي جعلتهم أكثر تماسكًا وتشاورًا في شؤونهم، وحين ضحّى محمد بتعليمه لأجل مصلحة الأسرة، كان على يقين أنّه يستثمر في إخوانه استثمارًا طويل الأجل، ولذا كانوا بفضل الله متفوقين، بارزين، متكاتفين، فحملوا عبء العمل والأسرة معه، وبعده.
كانت خطوات الزّامل الأولى نحو العمل في مركز الأبحاث والتّنمية الصّناعية، ومثّل عام 1969م وزارة التّجارة والصّناعة في برنامج تدريبي بالهند، ومن اللافت أنّ السّفير السّعودي حينذاك، حضر الحفل الختامي لهذا البرنامج لوجود سعودي واحد فيه، فأعجبته كلمة المتدرب السّعودي، ثم كتب لوزير التِّجارة والصِّناعة عابد شيخ؛ يوصيه على المهندس الشّاب، وهو كتاب نفع الزّامل في عمله.
والغريب أنَّ المهندس لم يذكر اسم هذا السّفير، مع أنَّ فعله نادر بين السُّفراء، وقد كتبت لحساب السَّفارة في نيودلهي عبر تويتر ثلاث رسائل، ورسالة واحدة لحساب مركز الإعلام التَّابع لوزارة الخارجيّة، اسألهم من هو سفير السُّعودية في الهند عام 1969م ولم يجب أحد منهم! فليت شعري لو كنت أطلب أمرًا ضروريًا ثمّ تواجهني دبلوماسية بلدي بهذا الإهمال! وظننتُ أنَّ السَّفير حينها هو الشّيخ الشّبيلي، لكنّ الصّديق محمد العقيل، أطلعني مشكوراً على اسم السّفير في موقع وزارة الخارجيّة باللغة الإنجليزيّة، وهو الأستاذ أنس يوسف ياسين.
كما يروي الزَّامل عدَّة مواقف مع الملك فهد قبل توليه الحكم وبعده، فالملك يناديه مستخدمًا لقب “دكتور”، ولم يحصل الزَّامل على شهادة الدّكتوراه بعد الماجستير، وأشار الوزير إلى أنَّ وزيرًا آخر قال للملك: عبدالعزيز مهندس وليس دكتورًا! فأجابه الملك: هو دكتور عندي! ولم يذكر الزَّامل من هذا الوزير الجريء؟ وما باعثه على التَّعقيب؟!
وأبحر الكتاب في أخبار سابك، ولا غرو؛ فهي جزء من الزّامل، وهو جزء منها، ومن ملامح عمله وفريقه في سابك، الدِّقة، وتنويع المصادر والشّراكات، والحرص على توطين التّقنية، وتوظيف الطّاقات الوطنية بعد تدريبها في الدّاخل والخارج، وفرض السّعودة حتى على الشّريك الأجنبي، وتحمّل أعباء الشّراء، والتّسويق، والمنافسة، وتداعيات حرب الخليج، والاتهامات بالإغراق، وغير ذلك عبر جهد حثيث متواصل، نجم عنه نجاح باهر بالمجمل.
وما لم يقله المؤلفان، بيد أنّه واضح في السّياق، هو أنّ الزّامل وفريقه كانوا يعملون لأجل البتروكيماويات، والصِّناعات، والكهرباء، ونفع البلد بالموارد البشريّة، والماليّة، والتّقنيّة، ولم يكن همُّ كبراء سابك وشغلهم الشّاغل، تنفيذ أجندة ثقافيّة خاصّة، وإسقاط حمولتهم الفكريّة على مشاريع البلد التّنموية، ولذا ركزوا على العمل والثّمرة، ولم يلتفتوا لبنيات الطّريق التي تضيع في دهاليزها المشاريع الكبرى، ولو أنّهم جعلوا سابك مطية للتَّغريب؛ لكان لدينا آلاف المستغربين والمستغربات، من دون كهرباء، ومصانع، وكيماويات!
وأصبح الزَّامل وزيراً على رأس أربعين عامًا من عمره المديد بإذن الله، وظلّ وزيراً لاثني عشر عامًا، وأعفي عام 1416 مع أول مجلس وزراء مكون بنظام السّنوات الأربع، ولم يخبرنا الوزير كيف تلقى خبر التَّوزير؟ ثمَّ كيف بلغه نبأ الإعفاء؟ فضلاً عن مواقف من مئات الجلسات التي حضرها لمجلس الوزراء، وهذه الأخبار تهب للسِّيرة حيوية، وتخفّف من روائح الكيمياء، وهدير المصانع، ومشكلات الكهرباء، وكلُّها حاضرة في كتابه.
ثمَّ تحدّث المؤلفان عن جهود المهندس في خدمة قطاع الصّناعة، وتطوير شركات الكهرباء، مع ثناء خاص، فيه وفاء وعرفان لأبي الكهرباء-كما يسميه الزّامل- أي المهندس محمود طيبة، وهو رجل يستحق الإشادة والتّكريم. وختم المؤلفان الحديث عن مسيرة الوزير في نشاطه كمستثمر صناعي في القطاع الخاص، حيث انتقل أبو أسامة من مقعد الوزير، إلى مقعد رجل الأعمال، ورئيس مجلس إدارة شركة العائلة.
وتعدُّ أسرة الزّامل- وفقهم الله- من البيوت المتميزة جدًا في العمل الأسري، وليت أنَّ المهندس أفاض في هذا الجانب؛ ولم يكتفِ بإشارات مختصرة، وهي تجربة ثرية جديرة بالتّقدير. وفي الكتاب صور لبعضها تاريخية ورمزية، ويؤخذ عليها أنَّ غالبيتها بلا تاريخ، وجلّها خالية من التّوضيح، ثم ختم الكتاب بفصل عاشر جميل عن شخصية القائد، وكان سيزداد نفعًا لو أنّ الوزير صبّ خبرته الشخصيّة، ومواقفه، فيها.
وبلغني من مسؤول في مكتبة العبيكان، أنَّ المهندس يستعدُّ لإصدار طبعة ثانية، وليت معاليه أن يستدرك الملحوظات الواردة هنا، وغيرها مما تركته اختصارًا، وفي تداركها تمتين للكتاب وتجويد، فقدر الزّامل، وطبع عنيزة، أن يكونوا من أهل الإبداع، والتّفرد، والعطاء الآسر.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
السبت 24 من شهرِ جمادى الأولى عام 1439
10 من شهر فبراير عام 2018م
One Comment