سير وأعلام شريعة وقانون

الملك عبدالعزيز والقانون

يعود اهتمام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بالمسائل النظامية سواء الخاصة بالدستور والحكم، أو برعاية المصالح وترتيب شؤون الدولة والمواطنين، إلى جملة من الأسباب، منها الذاتية بما وهبه الله، والأسرية كونه سليل بيت حكم متوارث منذ مئات السنين. يضاف لذلك الخبرة التي نالها إبان إقامته في الكويت، ومراقبته لمجريات السياسة، وكذلك العلاقات التي بناها مع عدد من المتعلمين من أبناء بلاده، أو من العرب والأجانب.

لم تظهر النتيجة الطبيعية لهذه المؤثرات أول الأمر؛ لأن الملك المؤسس انشغل باسترداد البلاد، وجمع شتاتها بين عامي (1319-1343=1902-1924م)، ولهذا الهدف الضخم لوازمه التي تقتضي التأني، خاصة أن مجتمعي نجد والأحساء، لم يكن فيهما تعقيدات إجرائية، أو إرث إداري ونظامي سابق؛ وبالتالي يمكن إدارتهما حسب المعهود، فيتكاتف أمير المكان مع القاضي أو الإمام، ويتعاون معهما المسؤولون عن المالية والزكاة والجند، وبذلك يكتفى حسب طبيعة البيئة الزمانية والمكانية.

بيد أن هذه الحال لم تستمر مع دخول الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز ابتداء من عام (1343=1924م)، والسبب يعود لما رسخ في المنطقة من أنظمة وتراتيب سابقة عائدة للحكم العثماني والشريفي. لم يكن هذا الواقع خافيًا على الملك، فاستعدّ له، وتعامل معه بحكمة وبراعة وتدرج. كان أول إجراء هو إعلان أصدره الملك عبدالعزيز وصف بأنه أول بلاغ، ونشر بعد أيام من إعلانه في العدد الأول من صحيفة أم القرى بتاريخ 12 من شهر جمادى الأولى عام 1343= 09 من شهر ديسمبر عام 1924م، وفيه النص صراحة على أن “مصدر التشريعات والأحكام لا يكون إلّا من الكتاب والسنة والفقه”، وهو نصٌّ لا يمكن الاعتراض عليه، وظلّ يتكرر فيما يصدر عن الملك  وخلفائه كتابة أو خطابة.

وفي شهر جمادى الآخرة من عام 1344، أمر الملك بتكوين هيئة تأسيسية لوضع تنظيم للحكم، وبعد سبعة أشهر من ذلك الأمر، صدرت التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية، ووافق عليها الملك بتاريخ 21 من شهر صفر سنة 1345= 30 من شهر أغسطس عام 1926م. ثم أعلن الملك عبدالعزيز عام 1346= 1926م عن رغبته في وضع مجلة للأحكام الشرعية مستنبطة من كتب المذاهب الأربعة، ونشرت هذه الرغبة الملكية في العدد (141) من صحيفة أم القرى، وفي هذا الإعلان إشارة لافتة إلى أن المذاهب الفقهية الأربعة كلها معتبرة في بناء الأنظمة السعودية، حتى لو كانت المرجعية القضائية السائدة للفقه الحنبلي، وعلى هذا العمل حتى الآن.

كما تكوّن بعد ضم الحجاز مباشرة مجلس للشورى، بمختلف أسمائه وأنظمته وطرق تحديد أعضائه وعددهم، حتى صدر نظام مجلس الشورى عام 1346، وفيه نص واضح على أن سنَّ القوانين والأنظمة من أعمال المجلس ومهامه؛ ولذا خاطب الملك عبدالعزيز المجلس فيما بعد، مؤكدًا لأعضائه بأن أي نظام لا يعتمد ولا يعمل به قبل عرضه على مجلس الشورى، حتى لو جاء من نائبه في الحجاز، وكان هذا الخطاب الملكي المؤكد لاختصاص مجلس الشورى في سنة 1349=1930م.

ثم وافق الملك في 19 من شهر شعبان شعبان عام 1350= أواخر أغسطس عام 1931م على نظام مجلس الوكلاء، وهو مجلس تنفيذي يشبه مجلس الوزراء، أسس بتاريخ 28 من شهر جمادى الآخرة عام 1350 = 09 من شهر نوفمبر 1931م. ويحق لهذا المجلس أن يصدر التشريعات إذا حضر معهم نائب رئيس مجلس الشورى وأعضاء المجلس، وفي حال غيابهم يكتفي مجلس الوكلاء بالمهام التنفيذية فقط. وفي 17 من شهر جمادى الأولى عام 1351= 18 من شهر سبتمبر عام 1932م صدر أمر ملكي بتوحيد البلاد تحت اسم “المملكة العربية السعودية”، ونص الأمر ذاته على أن يضع مجلس الوكلاء نظامًا أساسيًا للمملكة، ولتوارث العرش.

وهو ما تم فعلًا حسب خبر وارد في العدد (610) من صحيفة أم القرى نشر في 26 من شهر جمادى الأولى 1355= 14 من شهر أغسطس عام 1936م. وفي مستهل شهر صفر من عام (1373=1935م) أصدر الملك أمره بتكوين مجلس الوزراء، وأسند إليه الأعمال التنظيمية، لكن هذا المجلس لم يجتمع ولم يسر نظامه المختصر إلّا بعد وفاة الملك، وصدور نظام جديد له أوسع من السابق وأصرح في إحالة العمل التنظيمي إليه، لكن هذا المقال لا يشملها لانتهاء عهد الملك المؤسس بوفاته، علمًا أن المعلومات التنظيمية السابقة المحددة بالتاريخ الدقيق منقولة باختصار عن كتاب عنوانه: “معالم العمل التنظيمي في المملكة العربية السعودية”، تأليف د.محمد المرزوقي، وهو من مطبوعات جمعية قضاء.

وقد صدر مئتان وتسعة وعشرون نظامًا بين عامي (1343-1373=1924-1954م) على اختلافها في الأهمية والطول، وبعضها أفاد مما كان موجودًا قبل الحكم السعودي وأبرز مثال نظام المحكمة التجارية الصادر عام (1350). علمًا أن عدد الأنظمة الصادرة بين عامي (1343-1351=1924-1932م) يصل إلى أربعة وتسعين نظامًا، حسبما أوردها مرتبة د.إبراهيم العتيبي في كتاب بعنوان: “تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز” أصدرته جامعة الملك سعود بمناسبة المئوية، وفي هذا الكتاب ملحق فيه تعريفات نظامية أصدرتها وزارة الخارجية عام (1353=1934م)، ومن ضمنها تعريف وتمييز للأوامر الملكية، والنظام، واللائحة، والتعليمات.

هذه الأنظمة التي تناهز المئة، صدرت وأعلنت ونفذت قبل توحيد المملكة، وترافق معها تطوير قضائي مؤسسي، فساهمت في تقبل باقي أجزاء البلاد للعمل التنظيمي، وأوجدت الاعتياد التدريجي عليه؛ خاصة بعد التداخل الإداري والشعبي بين الحجاز والمناطق الأخرى، وتيسر سبل التواصل التي قطعت في أواخر أيام الشريف، وبالتالي أصبحت أجزاء البلاد كافة في وضع ملائم لاستقبال ما سن من أنظمة جديدة، وفي حال استعداد وتهيئة للمزيد، حتى غدت تمامًا مثل منطقة الحجاز التي عرفت الأنظمة بناء على تجارب سياسية واقتصادية سابقة، إضافة إلى موسم الحج وقدوم وفود الحجاج من أقطار الدنيا، ووجود ميناء مهم، وعدة سفارات أجنبية.

مما لا يفوت التنبيه إليه، أن الحكومة سارعت إلى تلبية حاجات الدولة لأصحاب الاختصاصات المختلفة، وذلك  بإرسال البعثات التعليمية إلى مصر منذ مبايعة الملك عبدالعزيز في الحجاز، وأمره بإنشاء المعاهد والتحضير للبعثات التي توالت، وبعض الدارسين في مصر ثمّ لبنان والعراق هم من طلائع القانونين السعوديين سواء كانوا من المبتعثين على حساب الحكومة، أو من الأسر السعودية التي عاشت في الخارج، ولها صلات مع حكومة بلادها وقادتها؛ ونتج عن ذلك حضور قانوني لافت في مجلس الوزراء، وفي أجهزة الدولة المختلفة.

 كذلك يحسن الإشارة إلى أن الملك المؤسس استعان برجال عدة ممن درسوا الحقوق والأنظمة، مثل السيد عبدالوهاب نائب الحرم الذي درس الحقوق بتركيا، والشيخ محمد مغيربي فتيح الذي نال شهادته من لوزان، وهما من أهل الحجاز، ويضاف لهما الأستاذ موفق الألوسي، والشيخ يوسف ياسين، والأستاذ فؤاد حمزة الذي استقطبه الملك بعد أن ضمن تحقق مطلوبه فيه، وهو إجادة أكثر من لغة، والتخصص في القانون؛ ولأجل هذا ترأس فؤاد حمزة لجنة وضع الأنظمة بمجرد وصوله للمملكة عام (1345=1926م)، وشارك معه في هذه اللجنة الشيخ مغيربي وآخرون، حسبما ذكر د.بندر المعمر في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط عنوانه: “صورتان ترويان قصة مئة عام من التطور القانوني”. ويمكن أن يضاف لهذا أن الملك استعان بمشايخ وقضاة ذوي تميز يتجاوز العلم الشرعي مثل المشايخ عبدالله بن بليهد، ومحمد بن إبراهيم، وفيصل ابن مبارك، وعبدالله ابن حميد، وهذا الملمح جدير بالدرس والبيان.

إذًا نستطيع القول إن الملك المؤسس جمع في ذهنه بصيرة شرعية وقانونية، واستطاع تنفيذ الممكن منها على بلاده قبل اكتمال التوحيد، ونفعته في التوقيع على معاهدتي دارين والعقير، ثمّ استثمر التطور التنظيمي في الحجاز، وأبقاه كما هو مع قصره على المنطقة نفسها أول الأمر. وترافق مع ذلك إنشاء عدة مؤسسات تنظيمية وتنفيذية وقضائية، وابتعاث الطلبة للدراسة، واستقطاب المؤهلين، وتمكين ذوي الدرس القانوني من العمل في هذا المجال، مع التأكيد قولًا وفعلًا على مرجعية الشريعة وأحكامها وفقهها؛ فنتج عن ذلك عشرات الأنظمة كما سلف، وبعضها مهم للغاية، وفيه ما هو خدمي أو خاص بفئة، ومنها الأساسي والعام، وبعضها كثيرة مواده، وطال عمر قسم منها، بينما تعرض بعضها للتطوير حسب مقتضيات الأحوال.

ahmalassaf@

حريملاء- الجمعة 15 من شهرِ شعبان عام 1446

14 من شهر فبراير عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)