سليمان الجاسر الحربش وتجربة فاخرة!

حضرت المملكة العربية السعودية في منظمات دولية وإقليمية عديدة، وقد مثلّها في هذه المنظمات أسماء لها تجارب إدارية وسياسية وثقافية وخيرية. هذه التجارب جديرة بالتدوين أو النشر ولو بالحديث واللقاءات. فمثلًا يمكن أن تسعى الوزارات إلى حفظ تجارب من أوفدته دوليًا، ويمكن لوزارة الخارجية أن تدير هذا الملف؛ لأنه في النهاية جزء من التعاون الدولي، ومحسوب على العمل خارج البلاد. مثل هذا الصنيع سوف يفيد كل سعودي يرشح للعمل الدولي، وسيحمل هذا المرشح خبرة متراكمة يتفوق بها على غيره، ويرفع من درجة تأثير بلاده.

من الأمثلة التي تحضرني الأستاذ سليمان الجاسر الحربش، المولود في مدينة الرس بالقصيم. لدى الأستاذ الحربش تجربة محلية سعودية، وأخرى عالمية، حقيقة بالتدوين أو بالإشاعة، كي تفيد الأجيال، وتحسن تصوير مهارات أبناء البلد للآخرين، وبيان قدراتهم على التفاعل المثمر أينما وجدوا. هذه السيرة لها جوانب محلية ودولية، وأسرية وعملية، وثقافية وإدارية، واقتصادية ونفطية، وفكرية وخيرية، إضافة إلى لقاءات، ومؤتمرات، ومواقف فيها ما يعجب ويطرب، وحقًا إنها لسيرة فاخرة جذابة لو كتبت لكانت ذات مكانة ومكان.

تلّقى الحربش مبادئ التعليم في بلاده، ودرس بالمعهد العلمي في الرياض. كان لهذه الدراسة المعهدية آثار جليّة محمودة على التمكن اللغوي والأدبي، والفهم الشرعي. ثمّ واصل دراسته في كلية الاقتصاد والسياسة العريقة بجامعة القاهرة، ودرس فيها على يد أساتذة عظام مثل د.حامد ربيع -رحمه الله-، وهو من أعلام الفكر السياسي. كما درس على الدكاترة بطرس غالي، ورفعت المحجوب، وسعيد النجار، وهم أصحاب مناصب علمية وعملية.

وقد حرص إبان دراسته على حضور نقاشات الرسائل العلمية ولو كانت في غير تخصصه؛ إذ حضر مناقشة د.يحيى الجمل -رحمه الله- التي شارك فيها ثلاثة من أكبر أساتذة القانون الدولي في ثلاث جامعات مصرية منهم د.حامد سلطان -رحمه الله- وغيره، وهو من أنبغ أساتذة القانون العربي. كما نال الحربش بعد البكالوريوس شهادة الماجستير في الاقتصاد من جامعة الثالوث، سان أنطونيو بولاية تكساس، ودرس دورة متقدمة في اقتصاديات النفط بلندن.

وفي العمل أمضى أ.سليمان أكثر سنوات العمل قريبًا من النفط والطاقة وشؤونهما، وعاصر أو زامل أكثر وزراء النفط في المملكة أو كلهم بداية من الشيخ عبدالله الطريقي -رحمه الله- الذي التقى به عقب مغادرته منصبه، وصولًا إلى الوزير الحالي الأمير عبدالعزيز بن سلمان قبل أن يتولى الوزارة، وعليه فقد عمل الحربش عن قرب مع ثلاثة وزراء نفط متعاقبين هم الشيخ يماني، والأستاذ ناظر، والمهندس النعيمي.

لذلك وقع عليه اختيار مجلس الوزراء الموقر ليصبح ممثل السعودية في مجلس محافظي أوبك منذ عام (1990م) حتى عام (2003م) إضافة لعمله الأساسي وكيلًا مساعدًا لوزارة النفط. وقد أدار المجلس مرتين، أولاهما في نوفمبر عام (1990م)، وكانت جلسة عاصفة بسبب اعتراض ممثل العراق على وجود الكويت وطعنه بهذا الأمر؛ بيد أن الحربش ألجمه وأصمته، والثانية في (2002م) في اليابان، وخلالها أعلن عن منتدى الطاقة. وفي عام (2003م) رشح للعمل مديرًا عامًا ورئيسًا تنفيذيًا لصندوق أوبك للتنمية (أوفيد)، واستمر حتى عام (2018م)، علمًا أن الحربش كان قد أكمل أربعين عامًا في العمل الحكومي عام (1998م)، ولشدة تمسك الوزارة به تعاقدوا معه خمس سنوات أخرى للعمل قبل تسميته رئيسًا ثالثًا للمنظمة، وهو أول سعودي يترأسها.

خلال هذه الحقبة الطويلة من العمل، تداخل الحربش مع العمل الدولي، سواء برفقة وزراء النفط الذين وثقوا به كثيرًا، وعرفوا قدره ومكانته حتى أن الوزير المهندس علي النعيمي ودعه باحتفال يليق به، وألقى كلمة ثناء جميلة، ضمن حفل تداخل الشعر فيه مع المشاعر. كما اكتسب أبو زهير خبرة دولية متعددة الجوانب إبان تمثيله المملكة في أوبك، أو عندما أسندت له رئاسة الصندوق الذي تدعمه المملكة ماليًا ومعنويًا أكثر من غيرها. ومن تجاربه الممارسة الإدارية المميزة، تلك الممارسة التي خلقت له خليطًا من الولاء والمحبة بين موظفي المنظمة القادمين من ثقافات شتى، وبلاد ربما تكون متشاكسة.

لأجل ذلك حظي الحربش بعلاقات دولية واسعة تدل عليها الصور والقصص، وربما أنه من نوادر المسؤولين الذين قابلوا الزعيم الكوبي التاريخي “فيدل كاسترو”، و”شافيز” وملك دولة إفريقية لا تكاد أن تعرف، إضافة إلى قيادات دولية مهمة من زعماء ووزراء وأمناء منظمات أممية وإقليمية، ومن المؤكد أن الحربش حاز على إعجاب كثير منهم.

أما داخليًا فقد عُرف الحربش من قبل قادة البلاد وملوكها، وارتبط بصلات دائمة ووثيقة مع وزراء النفط والمالية والخارجية، إضافة إلى حضوره الثقافي عبر الكتابة العربية المتقنة، وبعضها مقالات عن شؤون محلية، أو دولية، وفيها ما يخص النفط، والاقتصاد، والتنمية، ومنها ما يدخل في باب الذكريات والمراثي، علمًا أنه حين يكتب راثيًا فإن ما يسطره يتميز بوجود مادة جديرة بالرواية والنقل، ولا يكتفي بالمشاعر القابلة للتكرار مع أي راحل، وقد أفدت منه فيما كتبته عن السفير الشبيلي، والدكتور الجبر، وربما أني أشرت لذلك في مواضعه، وإن لم أفعل فهذا اعتراف بالفضل، وإسناد المعروف لأهله.

من أجلّ منجزات الحربش ما أحدثه من تغيير كبير في صندوق أوبك للتنمية، حتى أنه أضاف هدفًا للمنظمة غايته القضاء على فقر الطاقة، وتأمين الطاقة النظيفة، وهو الهدف الذي أصبح أمميًا فيما بعد لمعالجة عوز الطاقة لدى مليار إنسان. ومن منجزاته حفاظه على المبنى العريق للمنظمة، وحفظ تاريخه موثقًا بالصور في كتاب عمل عليه أساتذة بصراء بالعمارة والخط والتاريخ والتراث والوثائق. وإن أتجاوز فلن أنسى المساندة المالية التي تكفلت بها المنظمة لمشروعات خيرية ومجتمعية في بلاد عديدة، ومنها بلاد عربية وإسلامية، وبعض هوامش هذا الدعم جعلت الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” لا يخفي ابتسامته العريضة أمام المصورين.

كما حضر الحربش القمم الثلاث لزعماء الأوبك في الجزائر وكاراكاس والرياض، ورافق الملك فهد -رحمه الله- في طائرته الخاصة للجزائر للمشاركة في القمة. وساهم إسهامًا واضحًا في إنشاء منتدى الطاقة العالمي، ورأس بعض لجانه التحضيرية، وعليه فليس بمستكثر أنه حصل على أوسمة وشهادات دكتوراة فخرية تتجاوز العشرة من بلدان وجامعات عدة، ولكفاءته رشح أمينًا عامًا لمنظمة الأوبك، لكن إيران اعترضت على هذا الترشيح من باب المناكفة بسبب الخلاف السياسي ،وليس تحفظًا على المرشح بشخصه.

ما سلف جزء يسير من مسيرة رجل سعودي عربي مسلم، ظلّ يحمل هذه الصفة العظيمة ولا يتنازل عنها -وهي مجموعة من ثلاث صفات متلاحمة لا فكاك بينها-، فكان الحمل منه والأداء مثلما ينبغي وأكثر؛ فأحسن الريادة لقومه ودياره وثقافته وحضارته، وأجاد في التعبير عنها. إن هذه السيرة التي اطلعت على طرف منها، وشاركت القارئ في رؤية طرف من ذلكم الطرف، لجديرة بأن تروى كاملة، وتشهر أمام الناظرين والقارئين؛ حتى يقتبس منها غيره من مواطنيه، ومن أبناء حضارتنا العربية والإسلامية، وعسى أن ينهض لها أستاذنا، وإنه للنهوض اللافت النافع لأهل، ومنه الخير يُرتجى، خاصة أن هذه النبذة بها لا يُكتفى!