نظلم التاريخ حينما نقصره على السياسة والحروب والشؤون العسكرية. نظلم أنفسنا وتاريخنا عندما نرهنه للأجانب الغرباء، أو إذا لم نقم بالواجب المنتظر تجاهه خير قيام وأتمه. لا بأس من حيث المبدأ أن يتحدث عنا الآخرون؛ بل هو مطلب، شريطة ألّا يكتفى بهم. من المؤكد أنه لا يمكن منعهم من طرق تاريخنا وفحصه، لكن نسطيع الحيلولة دون أن يكونوا المرجع الوحيد أو الأوثق عمّا يخصنا، ونستطيع تصحيح أخطائهم، ودحض الأكاذيب، أو بيان عوار بعض التحليل والرأي.
إن التاريخ بمعناه الواسع هو أحد ركائز الحضارة والثقافة، وأحد عرى العراقة التي تزهو بها الدول حكومات ومجتمعات وأناسًا ومؤسسات. إن غياب التاريخ لأمر موجع مهما بلغت القوة المادية، حتى وإن تمادت القوة وادعى أهلها أن التاريخ ينتهي عندهم، ومن استشعر هذا البعد لدى الأمريكان فلن تفوت عليه مشاعر القوم بالنقص والفقد، وسيوقن بهذه الحقيقة التي عاشها ولاحظها سفير مصري جواب، عندما مثّل بلاده في أمريكا والأمم المتحدة؛ فوجد فيهم غصص غياب التاريخ، وحداثة النعمة.
لأجل ذلك، تعتني الأمم بتاريخها وتضعه في مكان رفيع سواء في معاهد العلم العليا، أو عبر المؤسسات المتخصصة، والمتاحف، والملتقيات، وفي كل مناسبة يمكن فيها أن يخدم التاريخ أو يستدعى. من هذا الباب تقريب الحاذقين بالتاريخ دراية ورواية من دوائر القرار، وجعل التاريخ بعمقه وقربه وبعده مادة تأهيلية أساسية للزعماء ورجال الدولة. ليس مقبولًا أن يجهل كبار الناس تاريخهم وما يرتبط بهم، كي لا يقعوا في مواقف محرجة غير حسنة. هذا التفخيم للتاريخ لا يُقصد منه الاستغناء به أو الركون إليه وحده. لا يُراد به الرجوع إليه في كل حدث ومع كل أحد. لا يعني بحال الامتناع عن التصالح مع الماضي؛ فالمصالحة مع الماضي سمة الأقوياء، ودليل على العقلاء.
والحمدلله أن العناية بتاريخ المملكة، والاحتفاء بامتدادها العربي والإسلامي، ركن ركين في السياسات السعودية عبر أكثر من اتجاه قديم وحديث. من ذلك اهتمام حكام المملكة، والأسرة الملكية بعامة بالتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمملكة والجزيرة العربية. منه كذلك كثرة أقسام التاريخ الحديث في الجامعات السعودية التي تحتض عددًا من الأساتذة الجهابذة في هذا الباب.
من هذا الباب أيضًا إنشاء مؤسسات تعتني بالتاريخ وتحفظه مثل دارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الوثائق، وغيرها من كيانات. من ذلك التكفل بطباعة الكتب الضخمة، ورعاية المؤتمرات العلمية، ونشر مادتها مهما كانت طويلة. وقد توّجت تلك الجهود تتويجًا لافتًا في رؤية المملكة (2030)، التي وسعت البحث التاريخي ودرسه ليشمل جوانب عديدة، كان بعضها في السابق غفلًا، أو ينال من العناية قدرًا يسيرًا.
ولدارة الملك عبدالعزيز جهود متواصلة بحفظ الوثائق وحمايتها، وطباعة الكتب والدراسات، وعقد المؤتمرات والندوات، والاستكتاب لمجلتها أو لكتب خاصة، ونشر السير الذاتية والغيرية التي تعرّف بأعلام وساسة وعلماء، ومتابعة ما لدى أصحاب المكتبات والمخطوطات من مواد تخدم علوم التاريخ والبلدان واللغة وشؤون الحج والعمرة. ومن جهودها مساعدة الباحثين قدر المستطاع، والمشاركة في المعارض والمؤتمرات. منها كذلك اغتنام الوسائل الحديثة للتثقيف والتذكير عبر مواقعها وحساباتها مع المسارعة لللإفادة من كل وافد جديد، وأتمنى أن تستثمر الذكاء الاصطناعي لجعل مادتنا التاريخية هي الأصل الذي يُستقى منه، وعنها يُترجم.
من أعمال الدارة القديمة نوعًا ما مع بقاء نفعها وفائدتها، مجموعة عنوانها: المملكة العربية السعودية في مائة عام: بحوث ودراسات. صدرت الطبعة الأولى منها عام (1428=2007م)، وتقع في خمسة عشر مجلدًا، تحتوي على أكثر من مئة وسبعين بحثًا ودراسة باللغة العربية، ومعها عشرها باللغة الإنجليزية. يبلغ عدد صفحات جميع المجلدات (10144) صفحة، منها (625) باللغة الإنجليزية للمجلد الأخير.
ألقيت جميع المواد المطبوعة في هذه المجموعة ضمن جلسات مؤتمر المئوية العلمي العالمي بعنوان “المملكة العربية السعودية في مائة عام”، المقام لعدة أيام ابتداء من يوم الأحد السابع من شهر شوال عام 1419 الذي يوافقه الرابع والعشرون من شهر يناير عام 1999م. تحدث في هذه الجلسات أمراء وعلماء ووزراء ومؤرخون وكتّاب ومهنيون. كما تحدث فيها باحثون من داخل المملكة وخارجها، وشهدت الجلسات نقاشات وحوارات أثرت الموضوع، وخدمت الفكرة، وأعانت على كتابة توصيات عملية وثمينة. في هذا المؤتمر حضر الشعر عبر أمسية، وحضرت الكتب في معرضين بمدخل القاعتين، وزار المشاركون مؤسسات حكومية، ومعالم تاريخية.
من ثمار هذا العمل الضخم وتوصياته جمع المادة العلمية في كتاب. ولتحقيق هذه الغاية ألفت لجان، وبدأت أعمال، حتى صدرت في هذه المجموعة. ومن باب التيسير على القارئ والباحث، صنفت المادة العلمية بعد التحرير اليسير الذي يخدم التصنيف ويضم المتشابه، ويعين على تقريب الموضوعات بحسب التخصص وإن اختلفت مواعيد إلقائها في الجلسات. وبناء على ذلك استقر الرأي على تصنيف المجموعة إلى أقسام تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية وصحية وبيئية وتقنية وقانونية وأمنية.
كان من الطبيعي البداية بنشأة الدولة، وسيرة الملك المؤسس عبدالعزيز -غفر الله له ورحمه-، ثم تتواصل الموضوعات بأقسامها إلى التنمية والبيئة، مع تخصيص آخر مجلد للأبحاث الإنجليزية. لن يعجب القارئ إذا لاحظ أن أضخم مجلد في هذه المجموعة يشتمل على موضوع واحد فقط هو عن المملكة وجهودها في خدمة الإسلام في أصقاع الدنيا عبر مؤسسات رسمية، ومنح دراسية، ومشروعات دعوية وتعليمية، وبرامج تعاون وإغاثة تنجد الأقليات والمنكوبين.
مما يظهر في هذه المجموعة بوضوح جلي، وجلاء بين، المساندة الكبيرة للدارة وأعمالها، ولفكرة المئوية ومؤتمرها من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه- منذ كان أميرًا للعاصمة الرياض. هذا الاهتمام ليس بغريب قياسًا على ما اشتهر عن المقام السامي من بصيرة تاريخية، واهتمام بعلومه وما يحتف به من قضايا، ومن يشارك فيه من علماء وأساتذة. ظهرت هذه العناية حينما افتتح الملك سلمان أعمال المؤتمر، وألقى فيه كلمتين، وكان الواصل بين الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله والأمير سلطان -رحمهم الله- وبين المشاركين في المؤتمر. كما ظهرت هذه الرعاية الملكية عبر المتابعة الحثيثة، والمساندة الدائمة، وتقويم الفكرة وإجراءات العمل، وإناطة التنفيذ والإشراف على المؤتمر ولجانه إلى رجلين قريبين من الملك في الشأن الإداري والعمل اليومي هما معالي الأستاذ ناصر الداوود، ومعالي الدكتور فهد السماري، وكفى بهما.
إن التاريخ علم عميق عريق رفيع مؤثر، ولا مناص من الإحاطة به أو الاقتراب منه. من مفردات هذا الاقتراب تجويد مناهج التاريخ المدرسية والجامعية، وزيادة ما يقدم لأقسام التاريخ في الجامعات، أو للمؤسسات والمراكز التاريخية. منها كذلك ابتداء مشروعات نظرية وتطبيقية لصناعة المؤرخ، وعرض التاريخ للأطفال والناشئة والشباب بالسبل التي يحبونها، ولا يعسر عليهم هضم مضمونها وفهمه. إن هذا الأمر لواجب خدمة للماضي والحاضر والمستقبل.
الرياض- الأحد 08 من شهر جمادى الأولى عام 1446
10 من شهر نوفمبر عام 2024م