إدارة وتربية سير وأعلام

مشاهد من حياة الوالد

مشاهد من حياة الوالد

عقول الصّغار متعلّقة بمن حولهم من كبار، ومنصرفة إليهم، ترى ما فعلوه رشادًا، وما تركوه باطلًا. يالها من مسؤوليّة جعلت مالك بن دينار يقول لمن أساء في صلاته: ما أرحمني لعيالك! لذلك فمن الحكمة أن يلاحظ الكبار أفعالهم وأقوالهم، لأنّ المحيطين بهم من الأبناء يراقبون ويقتدون، ويتأكّد الأمر في حق الوالدين والمعلّمين؛ لعظم تأثيرهم وامتداده.

كان هذا الملمح التربوي حاضرًا عند الوالد رحمة الله عليه في شأنه كلّه، فهو مسؤول عن ذريته أمام الله سبحانه وتعالى، هذا غير أنه يأمل لهم حسن السلوك في التفكير والقول والعمل، فغدا ذلك أحد مرتكزات مساعيه عظم الله أجره، خاصة أننا نحن نقتبس منه؛ فنتابعه في السّكوت والكلام، ونقتفي مساره وآثاره في الإقدام والإحجام، وهكذا يصنع الأبناء مع آبائهم، علم ذلك من علمه، وغفل عنه من غفل.

وقد سبق لي كتابة مقالين، الأول منهما عن التّأثير الثّقافي للوالد علينا، والثّاني حول مواقفه التّربويّة معنا، وهذه الثّالثة فيها ثقافة، وتربية، وطرائف، على أمل أن يتحقق منها النّفع المبارك، والاقتداء الحميد، وإيناس القارئ وإمتاعه.

إلّا القرآن:

للقرآن العظيم مكانة سامية عند الوالد، وله ختمات قرآنية دورية كثيرة، وكانت درجاتنا في القرآن ومواد الدّين مهمّة لديه، ويفرح كثيرًا بثناء المعلمين علينا فيها. من هذا الباب ما أخبرني أحد إخواني أنّ الوالد امتعض حين رأى درجته في امتحان القرآن الكريم منخفضة، وقال له بنبرة عتاب مشوبة بغضب: إلّا.. القرآن!

سمو التّواضع:

يحضر إلينا في العيد وغيره من مناسبات، أناس كانت لهم أو لآبائهم علاقة تبعيّة بأجدادنا، ورُوي لي بأنّهم كانوا ينادون إخوتي الكبار بعبارات إجلال، وحين سألوا الوالد عن السّر وراء هذه العبارات؛ أجابهم بأنّها ممازحة، ولم يخبرهم عن مسألة التّبعيّة التي انتهت وصارت من الماضي. كان سكوته تربية لبنيه الصغار حينذاك على التّواضع، وصرفًا لهم عن التّشامخ.

لا تكن صعلوكًا:

يحرص أبي على إيقاظنا لصلاة الفجر، ويحرص كذلك على تبكيرنا في الذهاب للمسجد، وحتى يجمع بين الفضيلتين، يأمرنا بالنّوم الباكر، ثمّ يوقظ أحدنا، ويوكله بإيقاظ الآخرين، ويتابع قدومنا إلى المسجد، وكان يقول لمن ثقل نومه: لا تكن كالصّعلوك الذي يفقر أهله ولا يغتني!

الحور.. والواعظ:

يحضر لمجلس والدي واعظ يشاع بأنّه اهتدى على كبر، ويعظ بالكم القليل ممّا يحفظه. ذات مرّة زادت حماسته فشرع يخبر الجلّاس عن الحور العين، وكلّهم قد علاهم الشّيب إلّا أنا كنت في يفاعة العمر، لذلك شرع يصرف بيده وجهي فأرفض الالتفات، ويبدو والدي راضيًا عن امتناعي وإصراري على السماع، فاهتبل أحد الحاضرين الموقف بتعليق لم يرق لوالدي؛ فصرف حينها وجه الحديث!

مع ريغان وتاتشر:

ذات ضحى، حضر إلى بيتنا أضياف ممّن لم يدركهم الوالد بغداء أو عشاء، وتلك عادة يسمونها “شبة الضحى”. خلال الجلسة ظهرت على شاشة التّلفزيون لقطة تجمع بين الرّئيس الأمريكي “رونالد ريغان”، ورئيسة الوزراء البريطانيّة “مارجريت تاتشر”، فقال رجل من أسنان جدّي لوالدي: يا عبدالمحسن! أتراه لقاء بريئًا؟! فأجاب: لديه أمريكيّات أجمل منها، ولديها إنجليز أشبّ منه!

البنادق بين ناسك وفاتك:

رُوي لي بأنّ لصوص الصّحراء طاردوا قافلة تجاريّة لوالدي وشريكه، وبفضل الله استطاعوا النّجاة بالقافلة وحمولتها وخدمها، فوقف الشّريك على تلّة من الأرض، وبدأ يطلق نيران بندقيته صوب السّراق ليضمن التّشريد بهم؛ بينما امتنع الوالد عن فعل ذلك تحرجًا، وحجّته أنّ القافلة بلغت مأمنها؛ بينما يرى شريكه الفاتك بأنّ الدّفاع عن النّفس والمال، ودفع الصّائل جائز بل واجب.

التّاجر المتظارف:

تحالف رجل مع والدي في أعمال تجاريّة، ولم تستمر شراكتهما كثيرًا، فوالدي وقور بطبيعته، يحب الوضوح في تعاملاته، والآخر يجيد المناورات، كثير التّماجن، رحمهما الله.

داهيتان في وليمة واحدة:

يقيم والدي ولائم متتابعة، ويدعو أناسًا كثر إليها، ومنهم رجلان كبيران، فإذا استجاب أحدهما كفّ عن دعوة الثّاني؛ فليس من الحكمة اجتماعهما! فهما داهيتان، متخالفان، لسِنان، وقيل عنهما: لو اجتمعا على أمر عسير فلن يعجزهما! في إحدى المناسبات، نسي ودعاهما فوافقا، وحين تفطن لذلك شعر أنّه وقع في مأزق؛ وظلّ يدعو بالسّلامة خوفًا من أن يكون مجلسه حلبة تصارع حجاجي بينهما. انتهت الوليمة بتآلف فريد بينهما، خلافًا للمعتاد من التقاء النّقيضين. لعل الله قد استجاب دعواته بالستر والسلامة.

من الشّمس إلى الظّل:

حين توفي جدّي، اجتهد والدي في إنهاء جميع بقايا أعماله التجارية وتعاملاته مع الناس الذين تفرقوا في أماكن عديدة، إضافة إلى تنفيذ وصيته قبل تقسيم الإرث. وبعد أن قضى الدّين كلّه رأى أبي والده في المنام راضيًا مسرورًا قائلًا له: لقد نقلتني من الشّمس إلى الظّل! وبعد أن فرغ والدي من الدّيون والوصيّة قسم الإرث كله كما أمر الله، والله يغفر للجميع.

أهلًا بالعيد:

في رمضان والعيدين يحرص والدي على معايدة كبار أهله وخؤولته، وأصحاب الفضل عليه، ويتواصل مع من بادلوا والديه المحبة والتّقدير، ويكرّر التّواصل الهاتفي مع البعيد منهم حتى يؤدي واجبه.

إشاعة جميلة.. ومحزنة:

بلغ والدي أنّ النّاس يتداولون إشاعة مفادها أنّه خطب امرأة لتصبح زوجة ثانية له، فلم تقبل نفسه هذه الرّواية المصنوعة التي وضعته خاطبًا متنافسًا مع رجلين آخرين، لا يرغب أن يكون قرينًا لهما؛ لأنّه لا يرتضي بعض أخلاقهم وطرائقهم. كانت أمّي حفظها الله كبيرة حين لم تصدّق الإشاعة، ولم ترفع بها رأسًا.

قبول يشبه الرّفض:

دخل والدي إدارة الجوازات، ومعه أحد إخواني، وحين خرج لمحه أحد الموظفين، فأصرّ على دعوته لقهوة أو شاي؛ لكنّه اعتذر بما لديه من أعمال، فمدّ الرّجل علبة عصير وقال: إذن ليأخذ الولد هذا العصير! فأجاب والدي خوفًا من برودة المشروب: لا يريده! لكنّ أخي مدّ يده نحو الموظف وهو يقول: لا أريده!

قداسة الاسم:

أغضبني أخي سعود ذات مرّة فالتقطت عصا جدّي سعود لأضربه فقال والدي: لا تضرب سميّه بعصاه! علمًا، بأنّ عصا جدّي لها من العمر أزيد من ستين عامًا، وهي لديّ الآن. مما أذكره بالمناسبة أني ناديت سعودًا بتحريف اسمه كما يناديه أطفال الأسرة، فرمقني الوالد مغضبًا وقال: لا تعبث باسم والدي!

آفة الجهل:

تنازع في المسجد رجلان عربيان فاحتكما لوالدي، وأصل النّزاع بينهما أنّ أحدهما قرأ آية فيها ذكر الحمار، والثّاني ينزّه القرآن عنه! فأخبره والدي أنّ القرآن ورد فيه ذكر حيوانات كثيرة، فضلًا عن سور بأسماء حيوانات، ففغر المسكين فاه، والله يجعل لنا ولأمّة محمّد من كتاب ربنا نصيبًا.

انظروا المعسر:

يروي أحد إخواني بأنّ الوالد ينظِر كثيرًا من المعسرين أو الواقعين في أزمات ماليّة، ويمهلهم ويصبر عليهم، ويقول لعلّ الله أن يتجاوز عنّا يوم العرض عليه. وأذكر بنفسي أن رجلًا اشترى منه عدّة سيارات ثمّ وقعت مصيبة احتلال الكويت، وأصبح الرجل مضيفًا لبعض قرابته الذين خرجوا من الكويت، واستحال عليه سداد الدَّين؛ فجاء لوالدي الذي استرجع سياراته بسماحة نفس، وشطب على عقد البيع وأقال الرجل.

افحصوا الخاطب:

خطب والدي زوجة أخي من والدها، فقال أبوها: مادام أنّه ابنك فأنا موافق! فأجابه الوالد من فوره: الزّواج له وليس لي، فافحص جميع خبره بنفسك ولا تغترّ بأبوتي له! وفي أيّامنا يجعل النّاس -وخاصّة الأمّهات- أبناءهنّ حين الخطبة أشبه بالقدّيسين، بينما واحدهم لا يحسن الصّلاة، أو يعاني من اعتلالات نفسيّة، وويحهنّ!

بين التّمر والعصا:

فرغ والدي من عمله التّجاري في سوق بريدة وهو شاب صغير، وأراد العودة إلى والده في عيون الجواء، وكان معه بعض المال، فرغب أن يشتري عصا، لكنّ ابن عمّته الأكبر منه سنًّا نصحه بشراء تمر يتزوّد به خلال الطّريق ففعل. يقول الوالد: لا زلت أدعو لابن عمتي الشّيخ عبد العزيز على هذا الرّأي الرّشيد، والشيْ بالشيء يُذكر إذ غمر الحزن محيّا والدي حين بلغه نبأ وفات ابن عمته الناصح في شهر المحرّم عام 1412 غفر الله لهم جميعًا.

رحم الله الأموات من الآباء والأمهات وغيرهم، وانزل على أجداثهم النّور، والسّرور، وأطال عمر الأحياء على صحة، وعفو، وعافية، ونفع كثير، وجعلنا أئمّة في الخير، نفعله تعبّدًا وديانة، ونغدو به قدوة للمتقين والصّالحين من بعدنا.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 04 من شهر شوال عام 1439

18 من شهر يونيو عام 2018م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)