أحسن إلى تاريخنا د.عبدالرحمن الصالح الشبيلي حينما عقد لقاءات تلفزيونية مبكرة في عدة برامج حوارية، تربع على قمتها برنامجه الثمين شريط الذكريات. ذلكم الشريط الذي قُص في بداية ظهوره قبل أن يستكمل مشواره المئوي، ولو استكمله لحفظ لنا المزيد من الروايات والأحداث. إن الآراء الشخصية المتعجلة، والحسابات الفردية، وخشية المنافسة، تطيح بالمشروعات العظيمة، تئدها من فور بزوغها، أو تتحين أي شيء حمّال أوجه للقضاء المبرم عليها، والخسارة قلما تكون منظورة أو متخيلة حينذاك.
من أنفس لقاءات الشبيلي التلفزيونية ثلاث لقاءات مع الأمير مساعد بن عبدالرحمن، المحفوظ منها اثنان فقط. من لطيف الموافقات أن الشبيلي أجرى أول حوار في التلفزيون السعودي بعد شهور فقط من افتتاحه مع الأمير مساعد، ومع مساعد سجلت أول مادة تلفزيونية من نوعها بعد تلوين الشاشة، وهي من أوليات الأمير المثقف. هذه اللقاءات مع غيرها محفوظة على اليوتيوب، ويمكن الوصول المباشر إليها من موقع د.عبدالرحمن الشبيلي الذي أنشأته أسرته بعد رحيله.
ثم جمع أبو طلال هذه الحوارات في كتاب مطبوع، وأضاف إليه عدة كلمات من رجال دولة كبار عاصروا الأمير مساعد، وتلك خدمة تاريخية من الشبيلي، ووفاء منه للأمير مساعد إذ كان المؤلف د.عبدالرحمن الشبيلي من رواد مجلسه. عنوان هذا الكتاب: الأمير مساعد بن عبدالرحمن آل سعود في حوارات تلفزيونية توثيقية وقراءات في سيرته وشخصيته، صدرت طبعته الأولى عام (1425=2004م)، ويقع الكتاب في (156) صفحة من القطع المتوسط. ومما لم يرق لي أني طالعت مقالًا عن الأمير مساعد، وهو منسوخ من الكتاب نسخًا دون إشارة! إن أكثر النقل عن الأشخاص أدناه من هذا الكتاب، وبعضه بتصرف وتوضيح للمعاني، مع إضافات سمعتها من أمين مكتبة الأمير الأستاذ المثقف الوفي منصور مهران، ومن غيره.
قال الشيخ محمد أبا الخيل عن الأمير مساعد: لديه أسلوب في اتخاذ القرار، ووضع قواعد ملزمة للإدارة المالية، وللتعامل مع صندوق النقد الدولي في أول تعامل البلاد معها إبان عهد الملك فيصل. أضاف أبوعلي: كان الأمير مساعد واضحًا صريحًا في منطوقه ورأيه، وينظر للوظيفة على أنه مؤتمن على التطبيق، ومن أساس أسلوبه الالتزام بمفاهيم الخدمة العامة. وهو رجل اجتهاد شرعي بحكم قراءاته الكثيفة، ولديه انفصال صارم بين البيت والعمل، وقد أفدت -يقول زميله وخلفه في منصبه أبا الخيل- من نقاشاته مع الشيخ صالح الحصين ومع القانوني بهجت لطفي.
أما أنا فسمعت من معاصرين للأمير وزملاء له في أعماله، أنه يستند إلى رأي هذين الخبيرين في القانون، ويناقشهما بحكم تبحر الأمير في القراءة الشرعية والقانونية. وكان الأستاذ فهد الدغيثر معجبًا بالفقه القانوني والإداري وبالقدرة الكتابية عند الخبير القانوني لطفي بحكم ارتباط معهد الإدارة بالأمير مساعد وبوزارة المالية، ولا مناص من الاستئناس برأي القانوني الأستاذ بهجت، وكثرة الرجوع إليه، وها هنا ملمح إلى جودة اصطفاء الأمير مساعد، وبراعة الانتقاء واصطناع الرجال لديه، والتوفيق من الله.
كذلك وصف عميد الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر إدارة الأمير مساعد بقوله: تقوم اللجان التي يرأسها على التقصي والدقة ومراعاة المصلحة العامة، وله مهارة ناجحة في تغيير مجرى الحديث. بينما ذكر الشيخ الحصين أن الأمير مساعد يتحرى الصدق حتى في المجاملة، ووهبه الله القدرة على إدارة النقاش، وعلى ابتداء موضوعات للحديث نظرًا لثقافته الواسعة، ومن خصائصه الترحيب بالحل غير المتكلف، وهذا يعني أنه عملي غير منبهر بالشكل، والإضافات، التي قد يكون بعضها بهرج زائف خادع ليس إلّا.
كما نقل عنه الشيخ ناصر المنقور أنه يصطحب معه في سفره سجادة الصلاة، والبوصلة، وجهاز المذياع، وهذه الرفقة تدل على الانضباط والجدية والمتابعة. من بديع ما أشار له المنقور أن مساعد بن عبدالرحمن لا يبدي رأيه بالشأن الداخلي، وهذا التحفظ يعود فيما يظهر لخصوصية موقعه الوظيفي، ومكانته الأسرية، ولا شك أن صنيعه من الحكمة التي تفعل الأصوب والأرشد، وتبتغي الخير والمصلحة، وربما أنه يطرح رأيه حيث يناسب زمانًا ومكانًا وإنسانًا، وهذا ديدن الأسر العريقة، ومنها الأسرة الملكية السعودية.
امتاز الأمير أيضًا بأنه مستمع منصت لا يقاطع المتكلّم معه، وهذه الخلة الحميدة نادرة في بعض أصحاب المنصب والجاه؛ فما أقل صبرهم على السماع، وما أضيق نفوس بعضهم بالمتحدثين والمناقشين، وشهد لمساعد بهذه المعاملة الراقية مع المحاورين الشيخ محمد بن جبير، والأستاذ تركي الخالد السديري، والمحامي صلاح الحجيلان الذي ترجم بين الأمير ووفود أجنبية، وذكر السديري والحجيلان أن تلك الوفود تخرج منبهرة بعمق فهم الأمير، وصبره على الإنصات وتبادل الآراء والأحاديث. لا غرو أن يفعل ذلك وهو الذي يدقق أوراق المعاملات بتؤدة، ويفحصها فحصًا شاملًا مثلما يروي مدير مكتبه الأستاذ حامد حمدالله، وإن لم يتمكن مساعد من النظر فيها دفعها لمن يثق في أمانة تلخيصه، وتمكنه من الفهم وجودة التعبير.
ومن جميل ماذكره الأستاذ محمد الشريف في كتابه “جوهر الإدارة” عن الأمير مساعد بعد أن عمل معه في ديوان المراقبة أن الأمير يحمل كثيرًا من الصفات الجديرة بالتحليل حتى يستفيد منها الإداريون. كما أثنى الأستاذ عبدالرحمن السدحان على مجلس الأمير المنزلي، وهو المجلس الذي أدار الأمير فيه دفة الحوار باقتدار دون استئثار، وكان له فيه استشراف مستقبلي مجتمعي فيما يخص الطفرة، والوافدين، وغيرها من شؤون.
كان الأمير بالجملة بعيدًا عن زخرفات الدنيا في المسكن والملبس والأحوال. سمعت نقلًا عن طبيب كبير أن الأمير جاء لمستشفى الملك خالد الجامعي، وجلس مع جموع المنتظرين دون أن يشعر أحدًا بشخصه واسمه، مع أنه يمكنه بيسر الذهاب لمستشفيات فخمة بلا انتظار. وحين عرف هذا المسؤول بوجود مساعد هرع إليه ليقدمه فرفض. وركب الأمير الطائرة إلى الأردن من أجل خدمة مزرعته، مستخدمًا الدرجة العادية خلافًا للمعتاد من أكابر الناس، واختياره ليس بخلًا لكنه نوع من إدارة النفس فيما بدا لي، ذلك أن له يدًا في الانفاق والعطاء بمعانيه الواسعة، وسعر التذكرة لا يثقل كاهله.
من أخبار الأمير الجليلة أنه احتفى بالكتاب والثقافة، وتابع الحصول عليه حتى مع صعوبة توافره، فتكونت لديه مكتبة فريدة، جعل لها أمينًا، وأمر بكتابة إعلان عن الكتب الجديدة المضافة فيها، وفتح أبوابها للمثقفين مثل الشيخ الجاسر والجهيمان والخياط والبليهد وغيرهم. وبعد تقاعده نوى إصدار مجلة تعنى بالوعي وشؤونه، لكن هذا المشروع لم يتم أو لم يستمر. وعقب وفاته أحسن أولاده بأن تبرعوا بمكتبة أبيهم لجامعة الإمام، وربما أنها أول مكتبة عامة مفتوحة في الرياض، ويعود تاريخ تكوينها إلى عام (1363=1944م).
ومن سيرته الثقافية أنه ألّف في عام (1360=1941م) رسالتين عن شؤون المجتمع والتعليم بعنوان واحد يجمعهما هو: “نصيحتي إلى إخواني في الدين والنسب”، الرسالة الأولى منهما بعنوان «الغايات التي يرمى إليها الاسلام، وموقفنا منها وبيان بعض ما يجب عمله”. وعنوان ثاني الرسالتين: “في التربية والتعليم”، وقد صدرتا عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، وكتب اسم الأمير المؤلف على غلافهما بحروف كأنها لاتينية!
أما سيرته الوظيفية والإدارية ففيها ثنائيات لافتة، فقد تولى رئاسة ديوانين هما ديوان المظالم وديوان المراقبة العامة، وكان لهما المؤسس. وأسندت إليه وزارتان هما الداخلية ثم المالية والاقتصاد الوطني، وهو أول وزير يخلف أبناء أخيه وأحفاد أخيه كذلك على الوزارة فيهما. وأنيطت به استثناء إدارة جلسات مجلس الوزراء إبان سفر رئيسه الأمير -الملك- فيصل للعلاج.
كما ترأس مجلسين أحدهما مجلس معهد الإدارة العامة، والثاني المجلس الأعلى للتخطيط بالنيابة عن رئيسه، وعمل في لجنتين من لجان الديوان الملكي المهمة إحداهما لجنة خاصة، والأخرى ترعى الشؤون الإسلامية، ومثّل المملكة في مهمتي إصلاح مع اليمن، وبين الهند والباكستان، وكان مقربًا من الملكين سعود وفيصل، وموضع ثقتهما -غفر الله للجميع ورحمهم-، وأشرف بنفسه على استقبال الزعماء المشاركين في تشييع الفيصل والتعزية به.
ولا يغيب عن الملاحظة أن كثيرًا ممن عملوا مع الأمير مساعد أصبحوا من رجال الدولة الكبار، ففيهم الوزير الشيخ محمد أبا الخيل، والعالم الوزير الشيخ صالح الحصين الذي شفع له الأمير مساعد حتى يقبل طلبه الإعفاء من منصبه! ومثلهما يقال في مسؤولين آخرين على اختلاف درجات القرب والبعد منه، وقد عبرت بنا أسماء بعضهم فيما سلف من المقال. أيضًا توثقت صلة الأمير بالثقافة وأهلها في العالم العربي، وفتح الله عليه بالبصيرة النافذة حتى أنه زجر الأستاذ محمد الشارخ -زجرًا مهذبًا- حينما جاء إليه يطلب منه مساندة سعودية وخليجية مالية لمشروعات تنسب لمنظمات عالمية أو لدول غربية، وقال له بما معناه: إذا أردنا التبرع فسوف نتبرع بأنفسنا مباشرة، ولن نمنح أموالنا لغيرنا كي يتفضل بها.
هذا هو الأمير مساعد بن عبدالرحمن الذي درس في كتّاب المصيبيح في الرياض، وتخرج على يد علمائها مثل المشايخ ابن عتيق وابن فارس وابن سمحان ومحمد بن إبراهيم. وقد رحل الأمير عن الدنيا عام (1407=1987م) بعد أن اختلف المؤلفون في تحديد سنة ميلاده على أقوال متباعدة نوعًا ما، علما أنه وأخويه أحمد الذي يكبره، وسعد الثاني الذي يصغره، ربما توافقت سنوات ميلادهم مع سنوات ميلاد بعض أبناء الملك عبدالعزيز وكبار أحفاده، وهذه واقعة نادرة الاجتماع في ثلاث طبقات من أسرة واحدة، والله يتغمد برحمته وعفوه جميع الراحلين من المذكورين وغيرهم.
مع هذا الاختلاف التاريخي حول سنة الميلاد الذي لا يهم كثيرًا؛ إلّا أن الكافة اتفقوا بما يشبه الإجماع على صرامة الأمير مساعد الإدارية، وضبطه المالي، وبعد نظره في كثير من القرارات والآراء، حتى أن سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- توج تلكم التزكيات كلها حين استشهد بأحد أفكار الأمير مساعد العقارية القديمة التي لم يؤخذ بها ساعة اقتراحها، وانتصر الأمير محمد للفكرة إبان حديثه عن شركة “روشن” العقارية. رحم الله الأمير المثقف الإداري مساعد نجل الإمام عبدالرحمن الفيصل.
الرياض- الأحد 28 من شهر صفر عام 1446
01 من شهر سبتمبر عام 2024م
3 Comments
رحم الله الأمير مساعد رحمه واسعه و بارك فيكم و جزاكم خير الجزاء . و جزى الله الدكتور عبدالرحمن الشبيلي خيراً على جميل صنعه لتاريخنا المحلي و جعل ما قام به براً و ذخراً له يوم القيامة .
لقد كان الأمير مساعد فريداً من نوعه و رجلاً سبق عصره ، و ما تمنيت أحداً كتب مذكراته مثلما تمنيت لو أن الأمير مساعد و الشيخ صالح اللحيدان كتبا مذكراتهما . و للأسف مع رحيل غالبية من عمل مع الأمير مساعد عن قرب ، يتعذر الآن بل قد يستحيل أن يُألف في منهجه الإداري أو فكري ، و لكن عزائنا في ذلك أن تلك إرادة الله و ما أعده الدكتور عبدالرحمن الشبيلي عنه فيه بركه بدليل أنه غدا المصدر الأوحد لمن أراد معلومة عن الأمير مساعد .
حفظكم الله و رعاكم 🌹
لقد أحسن الأستاذ أحمد العساف بإحياء التذكرة برجال من موكب التاريخ كانت حياتهم في محيط الأسرة وفي مجال العمل تسير على منطق الإفادة من القراءة أينما اتجهوا – هكذا قال صاحب الترجمة الأمير العالم : مساعد بن عبد الرحمن : ما فائدة العلم المكتوم في الرؤوس إن لم يرتقِ به صاحبه –
لقد جعل العلم في الصدر ليسهل انتشار نوره وصداه في معترك الحياة فكانت سيرته عملا هادفا وعلما عاملا
وتذكير الأجيال بالرعيل الذين حفظ التاريخ بصماتهم في بناء الدولة وبناء الهيبة أمر واجب تحيا به الأمم والجماعات .
شكرا لكم أستاذنا الموفق على هذه الإضافة وعلى وفائكم