سير وأعلام

عبدالرحمن الفيصل: الإمام والأمان!

عبدالرحمن الفيصل: الإمام والأمان!

نظلم التاريخ، ونجني عليه، ونحرم أنفسنا ومجتمعاتنا وبلادنا من الدروس والشواهد، إذا نحن اكتفينا بقراءة تاريخ المجتمعات، والدول، والمؤسسات، والأشخاص، والنظر في سيرهم، قراءة عابرة مثلما يفعل الذكاء الاصطناعي الذي يبدو أنه سيتفوق على بعض البشر في هذه المسألة وأخواتها إلى حين! فحقيقة التاريخ حركة مسرحها البلدان والجغرافيا، وفلسفة التاريخ تغيير يقف وراءه أشخاص وأفكار وتدابير، وغاية التاريخ مستقبل تصنعه البصائر والحسابات بعد توفيق الله وأمره.

أقول ذلك بين يدي الحديث عن الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود (1267-1346=1851-1928م)، وهو النجل الرابع للإمام فيصل بن تركي بعد إخوانه عبدالله وسعود ومحمد، وهو آخر أئمة الدولة السعودية الثانية، ووالد الملك عبدالعزيز، وجد جميع الملوك من بعده، والله المسؤول أن ينعم على هذه السلسلة من الأسرة الملكية بالرحمة والغفران ورفيع الدرجات بعد قبول الحسنات ومضاعفتها.

لم يعاصر الإمام عبدالرحمن والده العظيم كثيرًا، بيد أنه عاش في دولته وعهود أبناء فيصل من بعده، وشهد على الاستقرار ونعمائه، وجرب الأمن والسلام، لكن لم تستمر معه الحال الرغيدة؛ إذ عاين الخلاف وشروره، ووقعت الفتن والحروب أمامه، وعانى بسبب الشقاق وكثرة التنقل، ومارس القتال والتفاوض، ووقف وسيطًا بين عزيزين، ومصلحًا بين فرقاء من أهل مودته، وقدّم نفسه فداء للفكرة التي جاهد لأجلها أسلافه، واستنفد غاية وسعه كي يحفظ الأمر أو يحافظ عليه لمن يتولاه من بعده.

وشاء المولى الحكيم الخبير أن يكون عبدالرحمن الفيصل أمانًا لدولة آبائه واجداده حينما قبل إسناد الأمر إليه في زمن اضطراب واختلاف بين عامي (1291-1293=1875-1876م)، ولم تستبد به شهوة طلب الشرف، وخلة الاستئثار؛ إذ أعاد الولاية لأخيه الإمام عبدالله بمجرد عودته إلى العاصمة الرياض. وعندما خلت الساحة مرة أخرى، واحتدم الصراع الداخلي والخارجي من جديد حمل الراية التي هو لها أهل بين عامي (1307-1309=1889-1891م)، فكان أمانًا أبقى للدولة اسمها، وذكرها المحبوب في بيئتها، وأطال عمرها حتى وهي مثخنة بالجراح.

ولم يتخل الإمام عبدالرحمن عن مهمته الجليلة بمغادرة العاصمة، وإنما قدّر فأحسن التقدير، ورأى أن النجاة بالأسرة وبعض أنصارها هي أفضل خيار متاح بحثًا عن تمكين مستقبلي، ورجاء عودة أقوى، فكان أمانًا للأسرة، وللدولة، وللمجتمع الموالي، وللفكرة العظيمة العتيقة الضاربة أصولها في أعماق قرون مضت، والراسخة جذورها تحت أطباق الأرض الطيبة، وظلّ خلال عقد البُعد يلقي في روع أنجاله أن المقام ليس بدائم، ولا مناص من قفول للديار وعرشها، وصنيعه هذا استمرار في الحفاظ على الأمان الداخلي كي لايغيب؛ لأنه أساس استنقاذ الأمان الكامل.

ثمّ حين أراد نجله المقدام وغراس تربيته عبدالعزيز استعادة ملك الأوائل وأمجادهم الخالدة محاسنه في الوجدان والذاكرة، أظهر الأب الشفيق الممانعة حتى يضمن أي قدر مقبول من العون والتأييد من لدن الشيخ مبارك، وهو ماكان، فسار الابن بأمان الله حتى استعاد عاصمة الملك وديار الآباء. وبعد الاستقرار رجع الإمام عبدالرحمن ببقية الأسرة من الكويت إلى الرياض؛ لأنه بقي فيها أمانًا للأسرة والفكرة، وضمانًا للإمداد والعون في حال حاجة نجله الفارس إلى شيء منها.

وفي الرياض، وفي الجامع الذي يحمل اسم الإمام تركي بن عبدالله، ووسط حشد من الجموع فيهم الأمراء، والعلماء، والتجار، ورؤوس البلاد والقبائل، وأهل الرأي والمعرفة والحفظ، أعلن الإمام عبدالرحمن تنازله عن الحكم لابنه عبدالعزيز عام (1320=1902م)، وأنه سيبقى معه مشيرًا ومعينًا، وأمانًا للعاصمة التاريخية وأهلها، وقد صنع الإمام عبدالرحمن ذلك وهو مقتنع بنهجه غاية الاقتناع، بعد أن قاسى وبلاده من اختلاف الإخوة وتنازعهم، وبعد أن رأى التاريخ يسير بسلاسة وسلامة كلما استبان الخط فيه، وعرف كل امرؤ موضعه فلا يتعداه ولا يأمل بغيره، فأصبح الإمام بقراره التاريخي رمزًا عظيمًا للأمان خامس مرة للبلاد وأهلها وتاريخها.

ومما يروى في سيرة الإمام عبدالرحمن أنه على الأغلب أول من حمل هذا الاسم الجميل في أسرة آل سعود من جهة جده الأمير عبدالله بن محمد بن سعود، وقد سبقه آخرون من فروع ثانية، وسمعت أن والده الإمام فيصل أسماه على الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب رفيقه أيام الاحتجاز في مصر. كما امتاز الإمام عبدالرحمن بالحكمة والحنكة، وهي صفة بادية من اختياراته وتصرفاته التي صيرته رمزًا كبيرًا من رموز الأمان، وسمة ظاهرة في حراكه داخل حدود الجزيرة العربية، وفيما بعدها من بلاد، بحثًا عن طريقة لنزع فتيل مشتعل، مما أكسبه معرفة أكبر بالدول، والقبائل، والزعماء، والسياسة، ومكائدها.

كذلك من دلائل الحكمة أنه اختار الكويت دون غيرها من بلاد الجزيرة العربية لتكون مقامه المؤقت، وحرص على تحقيق هذا الهدف المهم حتى مع تمنع المستضيف أول الأمر، وعقب محاولته الخلاص منهم لاحقًا في صفقة استرضاء مع حائل، والسر في إصرار الإمام عبدالرحمن على الكويت أنها أنسب مكان للتواصل مع أهل نجد داخلها وخارجها، والتنسيق مع المقيم منهم في الكويت وجوارها، والفرصة فيها أكبر لمعرفة ما يدور في أروقة السياسة الإقليمية والعالمية، والسبب في اختصاص الكويت بهذين الأمرين وجود الميناء، ونشاط حركة التجارة، وكثرة الأجانب وقنصلياتهم.

كما تشير بعض المرويات إلى بصيرة الإمام وحسن تقديره للأمور، فمن ذلك أنه أجاب الشيخ مبارك عن سؤاله بعد نهاية معركة الصريف التي انتصر فيها الأمير عبدالعزيز بن رشيد على جيش الكويت عام (1318=1901م)، والسؤال استفهام بما معناه: هل استقر الأمر لابن رشيد في نجد؟ وجاء الجواب الرشيد الفيصل من الإمام عبدالرحمن الفيصل بما معناه: إذا انتهج عبدالعزيز المتعب مع نجد وأهلها مثلما فعل عمه محمد العبدالله بعد معركة المليدا (1308=1891م)، فسيطول مقامه بها، وإن سام البلاد سوء العذاب، وبطش بأهلها، وضيّق على الناس، فما أسرع ما تنقضي أيامه، وتنكسر سطوته، وهو ما حدث بالضبط! علمًا أن تفاعل الإمام عبدالرحمن مع أحداث المليدا، وتأخير مسيره من الرياض، يدلّ على رويته من أجل موازنة المصالح، والنظر في جميع الاحتمالات والعواقب.

أما في الأخبار الشخصية فقد رزق الإمام عبدالرحمن بعدد من الأبناء والبنات، منهم الملك المؤسس عبدالعزيز، والأمير الشجاع محمد الملقب بالمصطفق، والأمير الفارس الجسور سعد الأول، والأمير العالم عبدالله الموصوف بعالم آل سعود وفقيههم، والأمير مساعد الوزير الوحيد من إخوة المؤسس وصاحب التآليف والمكتبة العامة الأولى بالرياض. ومن بناته الأميرة نورة التي كان ينتخي بها شقيقها عبدالعزيز، وهي من أشهر نساء الأسرة الملكية، وباسمها جامعة كبرى متميزة في الرياض.

ومن فرائد الإمام عبدالرحمن وأولياته غير الأسبقية بالتسمية مثلما مرّ بنا، أنه أصغر حكام الدولة السعودية سنًا في أطوارها الثلاثة، إذ بويع بالإمامة وعمره دون الخامسة والعشرين، وهو آخر من حمل لقب الإمام حتى الوفاة، والوحيد من أئمة الدولة السعودية الأولى والثانية المحفوظة صورته يقينًا، وهي صورة ملتقطة في الكويت عام (1319=1902م) كما ذكر صاحب حساب تاريخ آل سعود على منصة إكس، وهو حساب نافع دقيق المعلومة، ولم يتبين لي من هو المصور الذي يستحق الإشادة، ولا سبب التصوير أو مناسبته.

ومن اللافت عناية الإمام الكبيرة بالعلم وكتبه، وله منسك حج مطبوع. ومما يسترعي الانتباه أيضًا معرفته بالطب معرفة نظرية وتطبيقية كما يتضح من بعض تعليقاته على كتب طبية قديمة مثلما نقل أ.سليمان الحديثي في كتاب مطبوع له عن الأمير عبدالله بن عبدالرحمن. ومن النوادر أن الإمام عبدالرحمن، ونجليه الملك عبدالعزيز، والأمير محمد، وأحفاده وهم: الملكان سعود وفيصل، والأميران محمد وناصر، قد تزوجوا بنات الأمير أحمد بن محمد الأحمد السديري، وهن على التوالي -حسب عمر أزواجهن- الأميرات: الجوهرة والدة الأميرة شيخة بنت عبدالرحمن، وحصة والدة الملك فهد والملك سلمان وأشقائهما، وحصة والدة الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن، وموضي زوجة الملك سعود ولم تنجب منه، وسلطانة والدة الأمير عبدالله الفيصل، ولطيفة والدة الأميرة نورة بنت محمد، وموضي والدة الأمير خالد بن ناصر وأشقائه -رحم الله من توفي منهم وحفظ الأحياء-.

وقد اشتهر عن الملك عبدالعزيز بره الكبير بوالده الإمام مثلما ذكر الملك سلمان -حفظه الله ومتعه بالعافية- في محاضرة مطبوعة له، ومن ذلك حرص عبدالعزيز ألّا يكون في مكان مرتفع من البيت ووالده الإمام موجود في أسفل المنزل، واستئذانه من والده قبل دخوله للرياض قادمًا من الحج أو المعارك أو البر، وجلوس الملك الابن بين يدي الإمام الأب خافضًا له الجناح. ومن أجلّها أن الملك المؤسس حمل والده الإمام بين كتفيه في صحن المطاف بالحرم المكي كي يؤدي الطواف، مع أن لديه آلاف الرجال القادرين على إنجاز هذه المهمة، بيد أنه أولى الناس بأبيه.

لذلك ورث ملوك الدولة السعودية عن والدهم إجلال الإمام ومحبته، وإكرام ذريته من بعده، إذ كان الأمير العالم عبدالله بن عبدالرحمن موضع التقديم والتقدير من الملك فيصل، حتى أنه يقول للداخل عليه بحضرة عمه: سلّم على عمي عبدالله أولًا. وحظي الأمير الوزير المثقف مساعد بن عبدالرحمن بالمحبة وإسناد المهام الجسام إليه من الملكين سعود وفيصل. وفي مستهل عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه- أطلق اسم جده الإمام عبدالرحمن الفيصل على جامعة الدمام، وهي الجامعة الكبيرة الواقعة في مناطق مشى عليها أو قريبًا منها الإمام الجد في أحوال كثيرة، وسنوات متعاقبة، لغايات التوسع، والإصلاح، والنجاة، والاسترجاع، والله يغفر للراحلين من هذه الأرومة الكريمة ومن ذكر معهم بخير، ويسبغ عليهم من رحمته وعفوه ما يسرهم ويؤنسهم، ويحفظ السائرين على آثارهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 25 من شهرِ محرم عام 1446

31 من شهر يوليو عام 2024م

Please follow and like us:

9 Comments

  1. إذا كان ألتاريخ يشهد للأحداث عبر ألزمن *** فإن من دوّنه وسجله هم من عاصروه واندمجو وشاركوا وشهدوا تلك الأحداث وسجلوها للأجيال تلو الأجيال *** حتى الأجيال المتعاقبة قطفوا ثمارها وطعموا خيراتها وعاشوا بسعادة وأمن واطمئنان من بركاتها الممتدة *** وذالك دليل قاطع على سلامة النية والإخلاص والصلاح في العمل من أجل سلامة البناء وصيانته والمحافظة على قوته ووحدته واستمرار مسيرته والمحافظة على كرامته ووحدته وعزته وتماسكه ( إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) نسأل الله دوام نعمه ويوزع الجميع تقديرها وشكرها والمحافظة عليها

  2. بديع المقال؛ ومعلومات قّيمة بإسلوب سلس متدفق، وليس مستغرب عليك..
    على أني تخرجت من جامعة عبدالرحمن بن فيصل لكن اول مره يخطر في بالي سبب التسمية او من يكون هذا الرمز البطل في تأريخنا،..

    سلمت .. سرد يغوص بك نحو المفاخر أن يكون وراء كل هذا النماء والخير والازدهار شجاعة رجال نادرة..

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حياكم الله أستاذنا أحمد و مساكم الله بالخير
    أستوقفتني هذه العبارة بخصوص أولية اسم عبدالرحمن في مقالتكم ؛ و أظن أن أسم عبدالرحمن كان موجود في أسرة آل سعود من قبل .
    فممن سُمي عبدالرحمن في آل سعود في عهد الدولة السعودية الأولى
    عبدالرحمن بن الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود
    ايضاً الأمير مشاري بن عبدالرحمن بن حسن بن مشاري آل سعود ، وهو قاتل الإمام تركي بن عبدالله.
    ايضاً في المرده من بني حنيفة أجداد آل سعود كان أسم عبدالرحمن حاضراً ، فمنهم عبدالرحمن بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي وهو الجد الأعلى لآل عبدالعزيز المعروفين بالشيوخ في ضرماء .
    هؤالاء هم من يحضرونني الآن في الذاكرة و لعل هناك غيرهم

    أعذرونا على الإطالة و الإزعاج
    و حفظكم الله و رعاكم
    🙏🏻🌹

  4. الاخ الكريم احمد وفقه الله لكل خير
    ما شاء الله سعدت كثيراً بالبحث
    عن الإمام عبد الرحمن الفيصل
    واستفدت منه سرد سلس شمولي يستفيد منه الصغير والكبير
    اشكركم علي هذا البحث القيم وفقك الله دوما لكل خير
    خيركم من تعلم العلم وعلمه

  5. مقال قيم ورائع يستحق القراءه عن احد عظماء الجزيره العربيه رحمه الله وأعتقد أنه وفق الكاتب في جمع مادته وسردها بشكل مشيق للقارئ الكريم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)