سير وأعلام

سطور عن طلال!

سطور عن طلال!

رزق الملك المؤسس عبدالعزيز بستة وثلاثين ولدًا من الذكور، وفي المنتصف من هؤلاء الأبناء جاء نجله الثامن عشر الأمير طلال المولود في الطائف يوم الخميس 28 من شهر صفر عام 1349= 25 من شهر يوليو عام 1930م، ولا أدري إن سبقه أحد بحمل هذا الاسم داخل أسرته الملكية العريقة الحاكمة غير أخيه الذي ولد قبله وتوفي صغيرًا أم أنه الأول وهو الأقرب. ويبدو أن التسمية بهذا الاسم الجميل شائعة عند أسر حكم عريقة كريمة مثل الأسرة الهاشمية في الأردن، وآل الرشيد، والشعلان، وغيرهم.

ويظهر أن الأمير طلال في طفولته وشبابه الأول امتاز بشيء من الحراك الدائم، وحب التجربة، والبحث عن الجديد، وغير المعهود، والجرأة الحميدة على والده العظيم، الذي أحب ابنه تمامًا كما أحب بقية ذريته، فلم يغلق الأب الباب دون جرأة ولده اللافتة؛ كي يتيح له التعبير عن نفسه ومكنونها. وقد بادله الابن حبًا بحب مع إجلال وإكبار يليقان بمقام الوالد الزعيم، فأصبحت سيرة عبدالعزيز سلوان طلال، ومصدر سعادته، وسببًا لتحقيق الهدوء والسكينة، وتحصيل الأُنس والانشراح، والموضوع الذي لا يمل من الحديث عنه، والاستماع حوله، حتى برع طلال في تفسير تاريخ عبدالعزيز، فضلًا عن حفظه وإشاعته.

لذلك حظي الأمير بالمشاركة في مجلس والده بما فيه من سياسة وإدارة وتاريخ وأدب ورجال دولة، حتى لو تسلل إلى هذا المجلس الملكي أول الأمر. وأفاد طلال من المدرسة التي خصصها والده لأبنائه الأمراء في قصر المربع، وجعل على رأسها أشياخًا ومربين فضلاء منهم الشيخان الخياط والكاظمي، ثمّ اقتبس طلال فلسفة القانون وسياسته من الزعيم العراقي الكيلاني إبان استضافته في المملكة، وفوق ذلك اغتنم الأمير طلال السفر، والانضمام إلى الوفد الملكي الزائر أو المستقبل، واجتهد في القراءة الذاتية، ومباحثة العلماء والمفكرين؛ لبناء نفسه وشخصيته الفكرية الواعية المستقلة.

ومن لطيف ما سمعت أو قرأت عن الأمير طلال، أن الملك عبدالعزيز اعتاد على أن يطلب قراءة سورة البقرة كل ليلة في الغرفة التي سيبات فيها، وتوكل هذه المهمة لفتيان حفظة دون البلوغ رعاية لحرمة البيوت؛ ولذا أسند هذا العمل المبارك لحفيد مؤذن القصر، وهو شيخ أعمى يقوده هذا الحفيد الصغير للمسجد كل صلاة. ومرة شرع الحفيد في قراءة السورة داخل الغرفة الملكية بين المغرب والعشاء؛ فدخل عليه أمير يقاربه في العمر، وطلب إليه اللعب معه فأبى القارئ التزامًا بأداء المهمة المسؤول عنها، فما كان من الفتى الأمير إلّا أن جال في الغرفة بجري سريع نجم عنه تحطم ساعة المنبه التي توقظ الملك لصلاة آخر الليل والفجر!

ثم بعد انقضاء صلاة العشاء رجع المؤذن وحفيده لمنزلهما، بيد أنهما توقفا في أول الطريق بناء على صوت المنادي لهما، فرجعا للقصر، وطلب من الفتى القارئ أن يذهب إلى الغرفة، ليتفاجأ بوجود الملك المهيب أمامه سائلًا إياه عن سبب  كسر الساعة! فلم يستطع الفتى الإجابة هيبة من الموقف ومن الجواب! لكن العناية الإلهية أدركته؛ فجاءت الأميرة منيرة والدة طلال تسعى مسرعة، وقالت يا عبدالعزيز: إن الذي كسر الساعة هو ابنك طلال الذي اعترف لي بذلك كي لا يلام القارئ البرئ! فحمد الملك الله على ورود هذه المعلومة في وقتها المناسب، وأعطى الفتى شيئًا من المال، وهدأ روعه قبل أن ينصرف لجده بسلام وأمن.

كما قرأت أن الأمير طلال أصبح المسؤول عن التعامل مع المصعد في قصر المربع، ووجود المصاعد في المنازل والمباني في المملكة إبان تلك السنوات نادر، فكان طلال هو الذي يتولى إدارته لخدمة والده، حتى تعلّم الآخرون كيفية تشغيله وفتحه وإغلاقه. وللأمير ولع بالاتصالات وعالمها، وربما أنه ممن بادر مبكرًا لاقتناء الأجهزة الخاصة بالاتصال والتواصل الفردي، أو عبر التقاط الإذاعات، وفيما بعد أصبح يستفيد مما ترسله أرامكو لموظفي سكة الحديد من أفلام ووثائقيات؛ فيستعيرها ليشاهدها مع زوجه ثم يعيدها إليهم.

لأجل هذا اختار الملك عبدالعزيز نجله طلال ليصبح أول وزير للمواصلات عام (1372=1953م)، وتقودنا هذه المعلومة إلى اختصار خصائص تاريخ الأمير طلال الوظيفي الرسمي وأولياته؛ فطلال هو أصغر وزير في تاريخ الوزراء بالمملكة من ناحية السن، ورابع وزير من أنجال المؤسس بعد إخوانه فيصل ومنصور ومشعل، وخامس وزير من الأمراء بعد السابقين مع عبدالله الفيصل، وسادس وزير سعودي بعد السابقين مع ابن سليمان، ومؤسس سابع وزارة من الوزارات المنضوية تحت مجلس الوزراء بعد الخارجية والمالية والدفاع والداخلية والصحة والاقتصاد.

وهو أول أمير غادر مجلس الوزراء ثمّ عاد إليه، وأول وزير أصبح سفيرًا، وثاني سفير يصبح وزيرًا، وربما أنه أول الأمراء السفراء. والأمير طلال هو صاحب أول توقيع على أول عملة ورقية سعودية صدرت في عام (1381=1961م)، وهو أول رئيس لمجلس إدارة معهد الإدارة، وأول أمير يمثل منظمات دولية أو إقليمية، ومما قاله لي أحد أساتذة معهد الإدارة: إن أي سيرة لمرشح تصل إلى الأمير طلال، ولصاحب السيرة خبرة معهدية، فسوف ينال تزكية الأمير وقبوله، تقديرًا للمعهد، ووثوقًا بالعاملين فيه.

ليس هذا فقط؛ فقد عني الأمير طلال بالعمل المجتمعي والخيري عناية فائقة باكرة، وتمثل هذا بسعيه الحثيث لمؤازرة مشروعات تعليمية وطبية مثل افتتاح المدارس، وابتعاث الطلبة ودعمهم، والمسارعة لإنشاء معاهد تدريب مهنية، ورعاية مدارس خاصة لتعليم الفتيات، وإنجاز مشروع مستشفى أهلي تحول إلى حكومي فيما بعد، والتبرع بمنازل وقصور لأغراض تعليمية، وتواصل منه ومن عائلته هذا العمل إلى تأسيس مؤسسة خيرية تحمل اسمه، ويصرف عليها وقفه الناجز، ويرعاها بنوه من بعده، وهم غراس تربيته وعقله وعاطفته، ولا غرو أن يصنعوا هكذا وقد انتقى والدهم أمهاتهم الكريمات من بيوت سعودية وعربية عريقة كبرى؛ فحازت ذريته العراقة من أطرافها كافة.

لكن اللافت أن هذا التوجه الحميد صوب ذلكم المجال الرحب البهيج من الأعمال والأنشطة الخيرية لم يقتصر على المملكة، بل تجاوزها إلى بلاد عربية وإسلامية وعالمية، ولم يكتف الأمير بذلك بل استوثقت علاقاته في العمل الخيري مع منظمات دولية مثل الأمم المتحدة، واليونسكو، وإسلامية مثل بنك التنمية، وعربية وخليجية. واستمر الأمير في طرق هذا الباب فيما يخصّ الطفولة، والمرأة، والفقراء، والتعليم، والبيئة، والمياه، وعدة شؤون فريدة في نوعها أو مدلولاتها حتى نال الجوائز والأوسمة، ووقف على رأس جمعيات ومؤسسات وبرامج محلية وعربية وعالمية.

وكان من المزايا التي ترافقت مع سيرة الأمير طلال، أنه لا يتردد في الإقدام على عمل غير مألوف إذا تيقن من جدواه؛ فحين قرأ مقالًا للكاتب السعودي البارز عبدالرحمن الراشد -رئيس تحرير مجلة المجلة، وصحيفة الشرق الأوسط ومدير قناة العربية- وتحوم فكرة المقال على تيسير التعليم عن بعد، اقتنص الأمير الفكرة، وقرر تكليف لجان تدرس هذا المنهج التعليمي، وأثمرت عنايته عن افتتاح الجامعة العربية المفتوحة، وفروعها العديدة، التي منحت شهادات جامعية لعشرات الألوف من الطلبة العرب الذين لا تسمح أحوالهم بالدراسة المنتظمة الكاملة، وقد أضحى هذا النظام معمولًا به على نطاق أوسع فيما بعد. ومن وفاء الأمير طلال لصاحب الفكرة، إصراره على دعوة الكاتب الراشد لحضور احتفالات الجامعة في فروعها المختلفة. ومن نماذج الإقدام سجل الأمير الحافل بالاجتهاد قولًا وفعلًا وعملًا وكتابة، وكل اجتهاد يخضع ولا مناص للصواب والخطأ، وكل اجتهاد باكر تنضجه التجارب اللاحقة، وتعيد بناء رأي المرء فيه، ونظرته إليه، والله غفور رحيم سميع بصير عليم.

أما الأمير طلال في بيته ومع أولاده، فهو الصارم الحنون، يريدهم أن يكونوا على أرفع طراز، وأحسن مثال، وأكمل تربية وتعليم وقدرات، وألّا يركنوا للدنيا حتى لو خضعت لهم طائعة. ومن ذلك متابعته لأنجاله في الدراسة داخل المملكة وخارجها، وحضور المجالس الخاصة بالأباء، وإلحاق بعض ذريته بدورات عسكرية حتى تزيدهم انضباطًا وجدية، وإشراكهم معه في العمل الخيري والاجتماعي لتبقى جذوته حية في نفوسهم حتى بعد رحيل والدهم وهو ماكان، ويضاف لذلك كثرة النقاش مع الأبناء، والفرح بحضورهم لمجالسه الثقافية والفكرية، ومن نافلة القول أن هذه السمة الأبوية شملت الأحفاد، الذين نالوا من قطافها اليانع.

كذلك مما لا يغيب عند الحديث عن الأمير طلال، تلك المكتبة التي يمتلكها، وليس الحديث هنا عن عدد الكتب ونوعها فقط، وإنما يتجه صوب ارتباط المكتبة بوحدات دراسة وبحث ونشر، مما صيرها أشبه بمركز أبحاث فاعل، ومعمل إنتاج أفكار بعد إنضاجها؛ ولذلك حفظ التاريخ الثقافي للأمير طلال إصدار بعض الكتب، وكتابة عدد من المقالات، وإجراء حوارات صحفية وإذاعية وتلفزيونية كثيرة جديرة بالجمع والدراسة، ومعها المشاركات في الندوات والمحاضرات، إذ ساعدته حصيلته الفكرية والثقافية، وقدراته الذهنية والإقناعية، وتاريخه في مؤسسات المجتمع المدني، وتخففه من الصفات الرسمية والمناصب، على أن يخوض غمار تلك المواقع والمنتديات بثقة وإقدام وحرية واستعداد يبهر المنصت والمشاهد والقارئ، أو المنصف منهم على الأقل.

وحتى تكتمل أركان الصورة عن الأمير طلال، لا مناص من الإشارة إلى بعض سماته ومنها حبه الشديد ودعوته الدائمة للحوار، ويتجلى ذلك في روابطه البرلمانية، وحضوره لإحدى جلسات مجلس الأمة الكويتي وإن انزعج من طريقة بعض الأعضاء في الحديث بصوت مرتفع جدًا. ومن سماته إبقائه للصلح موضعًا، ويتضح هذا من أن خلافاته لا تطول، وتنحصر في مسائل دون اختلاط بغيرها حفظًا للمودة وإبقاء للأواصر، ولهذا لم يتأخر في قبول الصلح مع الوزير د.القصيبي الذي توسط فيه المحامي الحجيلان.

أيضًا منها تعمده بأن تكون أعماله داخل المملكة وخارجها تحت عين ملوكها وسمعهم، والتزامه بألّا ينقطع عن مجالس عائلته الأسرية الخالصة، وسروره باستقبال شباب الأسرة وزواره منهم، وهو الذي لا يتحفظ من أن يبدى إعجابه بالسمو الفكري والنضج المعرفي الذي يلحظه فيهم. ولم تغب عن بصيرة الأمير أهمية استشراف المستقبل، وضرورة التفطن لها، والتيقظ من كل متربص أو مريد سوء، وحتمية التهيئة لأي احتمال وارد، ومن أراد المزيد عن الأمير فبوسعه الرجوع لبعض المؤلفات عنه مثل كتاب أ.د.عبداللطيف الحميد، أو كتاب د.صابر طعيمه، أو زيارة الموقع الإلكتروني لمؤسسته، ومشاهدة اللقاءات معه، والتسجيلات عن المعارض التي أقيمت له عقب رحيله.

إن الأمير طلال واحد من أفراد أسرة ملكية عريقة، ممن سُكن بحب البلاد، وهبّ لمبادرات الإحسان، وصرم عمره في خدمة الإنسان، وظلّ حتى توفي يوم السبت 15 من شهر ربيع الآخر عام 1440= 22 من شهر ديسمبر  عام 2018م وفيًا لسيرة والده وجهاده الطويل، حتى أن جلساته مع أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان تطول وفيها إمتاع وإفادة للحاضرين عن تلك السيرة سردًا وتحليلًا؛ لعظيم عناية الرجلين بأخبار المؤسس رواية ودراية، فضلًا عما بين الأخوين من صلة تشهد عليها الصور ومظاهر التوقير والروايات المتداولة.

وقد أمضى الأمير طلال حياته بعد أن خاض تجارب عديدة، خرج منها بدروس وخلاصات، وربما لو عاد به العمر كما صرح لما كرر بعض التجربة، أو سلك طرقًا أخرى لإيصال المراد وتوضيح الفكرة الكفيلة بتحقيق المصالح المشتركة التي التف حولها هذا الكيان وأهله ومكوناته حتى تماسك واستوثقت عراه، والله يرحم من سلف من هذه الأرومة الطيبة، ويوفق الباقين للمكرمات والمنجزات كي ينعم بها القادمون ومن بعدهم من أجيال، وترتقي البلاد في مدارج العزة وسلّم الصعود، وهو ما سيكون بعون المولى وحوله وتأييده، ثمّ بهمة القائمين على الأمر أعانهم الله وسددهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 05 من شهرِ محرم عام 1446

11 من شهر يوليو عام 2024م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحم الله صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز ورفع درجاته في الجنه فقد عرفه الشعب السعودي الكبار منهم ايام شغله لوزارة المواصلات اولا ثم وزارة الماليه ثم بقية المناصب التي شغلها ، والصغار منهم من خلال احاديثه التلفزيونيه والمؤتمرات التي حضرها ومؤسساته الخيريه واخيراً الجامعه العربيه المفتوحه التي كانت الاولى من نوعها في العالم العربي ،

  2. تتبع سير الأعلام وقراءة آثارهم ومآثرهم قراءة تأمل وعمق هذا ما نجده دائمًا في حضن هذه المدونة التي تلم شتات الأفكار بقالب متجدد وفكر منير..
    انبهرت بهذه السيرة العطرة لسمو الأمير طلال رحمه الله، وقد ذكرت معلومات ربما للمرة الأولى التي أعرفها من خلال مقالتك..
    وهنا أتوقف قليلًا.. فحفاوة هذا الكاتب المتميز الاستاذ أحمد العساف صاحب المدونة المتفردة بترجمات النبلاء من رجالات هذا الوطن الغالي واستقصاء سير الرموز العريقة بقلم سعودي أصيل هو أمر مدعاة للفخر والاعتزاز…
    وانا اقرأ هذه المقالة أصبت بالذهول فلم أكن يومًا على إطلاع عن هذه الشخصية العريقة او معرفة أنه يكون ابنا للملك عبدالعزيز غفر الله لهما، كانت ترجمة الكاتب عن الأمير طلال رحمه الله بقدر من التحليل والاستيعاب، ولم يكتف بسرد المعلومات القيّمة سردا أصمّ كما يفعل بعض الكتاب، بل استطاع الكاتب أن يقرأ ما خلف شخصية الأمير من مواقف إنسانية مؤثرة وحرص على الإيجاز والشمول وذكر لنا مالا نعرفه عن هذه الشخصية النبيلة..
    شكرًا لهذا المقال البديع.. كثيرًا من النبلاء والرموز لم نكن نعرفهم لجهل وربما لاختلاف مدارك جيلنا بأهمية التقصي والبحث عن المعلومة، لتكن مدونتك الفضاء الرحب الذي يربط الأجيال ببعضها، وتختصر بقلمك الفذّ والذكي كل الطريق وتقدم أثمن المقالات بأسلوب شيّق رشيق يدخل القلب بكل يسر ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)