الشيخ صالح بن حميد ومعالي الفضائل
هو من الشخصيات المشيخية والعلمية والإدارية الباهرة في عصرنا وبلادنا، وهو شخصية لا يمكن تجاوزها إذا شرعنا في الحديث عن المشايخ، والخطباء، والحفاظ، ورجال الدولة، والمصلحين. وأعني بهذا الوصف صاحب الفضل والفضائل والمعالي المتواترة المتسلسلة الشيخ أ.د.صالح نجل سماحة الشيخ القاضي العبقري عبدالله بن محمد بن حميد -رحمه الله-. والحقيقة أن الكتابة عن إنسان في عيار شيخنا يشبه الدخول إلى مبنى ضخم يحتوي على نفيس الجواهر والدرر، وأغلى أصناف البخور والطيب، فأنت في حيرة وتردد: ماذا ستأخذ، وما ستبقي؟ وأيها تقدم أو تؤخر؟ ولعل هذه الإشارة الموجزة أن تفتح الباب لمن شاء الاستزادة بغية إسعاد العين، وإطراب الأذن، وإبهاج الخاطر، وشرح الصدر، بمثل هذا الخبر العاطر، وهذا كله دون أن نزعم لأحد العصمة أو التقديس؛ فكل بني آدم -عليه السلام- عرضة للنقص والخطأ.
فأول أمر أشير إليه هو أن الشيخ تقلّب منذ طفولته في بيت صالح شيده أبوان على قدر كبير من الديانة والتأله، والارتباط بالقرآن الكريم وطلب العلم وحفظ العمر والوقت، ولذلك لا يفتر الشيخ عن ذكر صنيعهما الحسن، والاعتراف بفضلهما السابغ-غفر الله لهما ورحمهما-. وأذكر أني مرة سمعت محاضرة للشيخ صالح قال فيها مامعناه: إن والده حرص على ثلاثة أشياء في تربيتهم، هي حضور الصلاة جماعة، ومعرفة رفقائهم، وألّا يؤذن العشاء وأحد منهم لم يرجع إلى المنزل، ولعمركم يا قوم إن الضبط لأكيد الثمرة، وما هدمت البيوت بمثل التفريط، والتفلّت، ومنح الثقة الزائدة لأغرار أو صغار مع تناسي الشياطين وكيدهم.
لذلك درج الشيخ هو والجدية والانضباط معًا، وتلك ملامح بارزة في شخصيته تراها في مشيته، ولفظه، ولحظه، وتنبئك عنها دروسه وكتبه ومقالاته، وتلتقطها من خطبه ومحاضراته، وتراها يانعة في غراسه من أنجال وطلبة صالحين موفقين. وقد اجتمعت هاتان الخلتان الكريمتان فأثمرتا ارتباطًا وثيقًا بين الشيخ والقرآن الكريم، وأعظم بكتاب ربنا من أنيس ورفيق حياة في الحل والترحال، وفي الخلوة والجلوة، وهي علاقة قديمة راسخة منذ الطفولة، وباقية إلى يومنا، حتى أن الشيخ يقرأ ورده القرآني اليومي الطويل وهو في أعلى المناصب، وينوء بحمل مسؤوليات ثقال، ويلتزم باجتماعات ولقاءات، ولا يتخلّى عنه البتة، فما عذرنا أهل التفريط والتسويف؟!
ثمّ شاء الله الولي الحميد أن يغيث عبده بفيوض إحسانه من حيث لم يحتسب، ولم يحرص، ولم يطلب، فصدرت الأوامر بتعيينه مدرسًا ومفتيًا بالحرم المكي، وبعدها بمدة غير طويلة أصبح إمامًا وخطيبًا للحرم المكي الشريف، وهو حاليًا أقدم أئمته وخطبائه، والثاني في الأقدمية بالحرمين الشريفين، وأول إمام يتقدم المصلين بالحرم، ويصعد إلى منبره، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، والله يديم عليه هذه النعمة، ويجعلها حجة له، وينفع به نفسه وبلاده وأمته، علمًا أن الشيخ ملتصق بالحرم إن مصليًا وطائفًا ومتعبدًا، أو إمامًا وخطيبًا، ولأجل هذا طلب البقاء في الحرم إضافة للمناصب العالية التي أسندت إليه، وأجزم أنه لو خيّر لما فضّل على الحرم الشريف شيئًا، وشاهد رأيي أنه لم يُفقد من المسجد الحرام أبدًا مع أدائه لأعماله الحكومية في العاصمة.
ففي الحرم المكي وجنباته أقام الشيخ دروسًا علمية مضى على بعضها عدة عقود، وأفاد الطلبة والنساك والمجاورين، وتفاعل مع الأسئلة، والاستفتاءات، والمقترحات. وقد سمعته بعد نهاية درسه عقب الفجر يذكر أن ورقة وصلته من أحد الحضور يشير فيها لوجود منكر عقدي -حسب فهمي-، وأن الشيخ كلف من يتابع الأمر فلم يجد شيئًا، وكان الشيخ حينها رئيسًا لرئاسة الحرم المكي والمدني، فطلب من السائل أن يوافيه ليسمع منه مباشرة، ويقف على الخبر منه بدقة، وهذا يدل على أن شيخنا ممن أخذ الكتاب بقوة، واحتاط للأمانة التي ألقيت على كاهله، ولو كانت المسألة واردة عبر ورقة عابرة.
ومما روي لي ولا أستبعد صحته، أن الشيخ أ.د.صالح بن حميد بعد تعيينه رئيسًا لمجلس الشورى على إثر رحيل رئيسه الأول الشيخ محمد بن جبير-رحمه الله-، طُلب إليه اقتراح أسماء تخلفه في منصبه برئاسة الحرم، فكتب عدة أسماء منهم الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- الذي أسند إليه المنصب فعلًا، فتعجب ولاة الأمر من فطنة الشيخ ابن حميد للشيخ الحصين المحتجب عن المناصب وهو من هو، والبعيد عن العيون والأذهان، وقدروا للشيخ صالح بن حميد نصحه للحكومة وللمنصب بهذا الترشيح الفخم المهيب.
أما خطب الشيخ صالح بن حميد فهي درس في الإعداد الطويل البارع، حتى أن الشيخ يحتشد للخطبة مدة تتجاوز الشهر، ويرجع إلى مئات الصفحات وربما أكثر. وخطبه درس في تركيب الجمل والعبارات، وانتقاء الألفاظ الفصيحة دون إغراب أو تعسير على السامع، ودرس في الإلقاء المتفاعل بين اللسان والذهن، والمغترف من شغاف القلب- أحسبه ولا أزكي على الله أحدًا-، ودرس في فن صناعة الفكرة، وصياغة الكتابة، وحسن الاستدلال، وبديع الاستهلال؛ ولذا أبدى الملك فهد -رحمه الله- تقديره لها، وسانده الأمير سلطان -رحمه الله- عندما ألقى الشيخ خطبة موسمية ذائعة الصيت عقب عدوان يهودي على لبنان، وتداولت خطبه وكالات وقنوات وصحف، وتناقلها الناس واحتفوا بأجزاء منها عن الإخوة، والصداقة، وتربية الأبناء، والمحافظة على الأصول الشرعية، وحماية عراقة المجتمعات، وغيرها من الفتوح التي وهبها الفتاح العليم لعبده فوق المنبر الشريف.
ومن خبر الشيخ المسكون بحب القرآن والحرم، تلك التلاوات القرآنية الفجرية العذبة، بصوت خاشع، وأداء متقن تلقائي برئ من الافتعال، حتى أن جمهرة المصلين يأنسون بالائتمام، ويود بعضهم لو أطال الشيخ. ومن شدة دلالتها على قرآن الفجر أن بعض البرامج الإذاعية الخاصة بقرءاة القرآن فجرًا تتخذ من تلاوة الشيخ صالح مدخلًا لها، وياله من مدخل يخبر بجلاء عن المراد. وإن مكان الشيخ في الحرم، وسجادته على أرضه الشريفة، وكرسيه للتعليم والإفتاء، لمن أحب المواضع للشيخ وأقربها لنفسه، ولا يدانيها مكان آخر مهما رآه أهل الدنيا منصبًا رفيعًا عليًا.
تلك المناصب التي ظفرت بالشيخ وأبرزته رجل دولة وقرار وإدارة بعد أن تقلّدها، سواء في الجامعة أستاذًا ورئيس قسم وعميدًا، أو في شؤون المسجدين الأقدسين نائبًا ورئيسًا، أو في مجلس الشورى عضوًا ثم رئيسًا، أو رئيسًا للمجلس الأعلى للقضاء، ولمجمع الفقه الإسلامي، إضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء، والعمل مستشارًا بالديوان الملكي، ولعل هذه الخبرات مع غيرها من مراحل الحياة والنشأة وذكرياتها، أن تكون مجالًا للكتابة السيرية من الشيخ، يمتع بها قراءه، ويفيدهم، ويزداد بها أجرًا، مع لسان صدق مذخور من رب العالمين، وإنا لعلى انتظار وترقب.
أما في الجوانب العملية للشيخ، فأذكر منها باختصار أن الشيخ حافظ على التدريس حتى وهو في مناصب رفيعة جدًا ومجهدة ومشغلة، وكان يحضر لمواعيده مبكرًا دون أن يلبس البشت، ويطلب من عميد المعهد العالي للقضاء أن يعطيه مادة دراسية جديدة كل فصل، خلافًا للمعتاد من الأساتذة الذين يحبون الجمود على مادة واحدة كي لا يتجشم الواحد منهم عناء البحث والتحضير، هذا مع أنهم ليس لديهم مسؤوليات جسام مثل التي كلف بها الشيخ، والهمة منحة إلهية، وإفادة الطالب والمتعلم من إخلاص الأستاذ وسموه ونبله.
ومنها أن الشيخ من باب بره الكبير بوالده الشيخ القاضي، ومن باب بره بالعلم وطلبته، حرص -جامعًا المحاسن كلها- على متابعة أي عمل تأليفي أو رسالة علمية عن سماحة والده وشخصيته الفقهية والقضائية والإفتائية، وكتب لها تقديمًا جزلًا لو جمع كله في كتاب واحد لغدا من المراجع النافعة عن السيرة العلمية والعملية لسماحة والده العالم الفقيه المفتي القاضي، الذي خلب ألباب سامعيه وعارفيه، وحفظت عنه وقائع لافتة، وأحبه الناس عامتهم وخاصتهم. ومن هذا الباب أن الشيخ عندما فاز بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام عام (1437)، تبرع بقيمة الجائزة لصالح وقف والده العلمي الذي تتحقق به خدمة الإسلام وعلومه وأهله، وفيه زيادة بر بالوالد الراحل ونشر لتراثه، وأيضًا هي مصداق لاستكثار الشيخ على نفسه صفة خدمة الإسلام مثلما أوضح في كلمته المؤثرة البديعة.
هذه المحبة التي ورثها الشيخ الابن عن والده الشيخ، حتى نال الثقة والمحبة والتقدير من ولاة الأمر، ومن العلماء، ومن الناس كافة إلّا ما ندر، ولا يسلم بشر البتة من مؤاخذ أو منتقد ولو اعتزل في رأس جبل. ومن دلائل المحبة سعادة المجالس والندوات والدول بالشيخ ومشاركاته وزياراته، وحرص الجمعيات والمؤسسات والأوقاف على عضويته ومشاورته، والالتفاف حول الشيخ من أناس مختلفين، وسر المودة رباني يُلقى في القلوب دون مقاومة، ويجعله الله القدير لمن شاء من أوليائه المتقين.
كذلك من خلال الشيخ وفاؤه الكبير لأصحاب والده ومحبيه ولأصحابه وزملائه، ومن وفائه أنه كتب مقالات رثاء في ملوك وعلماء وأمراء ووجهاء وخدم وعوام، ولم تمنعه الفوارق الطبقية عن إجراء قلمه عن أولئك المختلفين في موازين الدنيا، ثمّ جمع تلك المقالات في كتاب واحد فواح بالمكارم. وعندما ألقى الشيخ محاضرة في بريده، ولمح أستاذه الشيخ عثمان البشر-رحمه الله- بين الحاضرين توقف عن الاستمرار، وقصد أستاذه مسلمًا وأجلسه إلى جواره. ومن خصاله الحميدة بذله لنفسه ووقته حتى أنه يشفع، ويقبل العضويات، ويفتح مجلسه لقاصديه، ويجتهد في الخدمة قدر الوسع مع الحرص على ألّا يطغى ذلك على نصيبه من الخلوة بمولاه وكتابه العزيز.
أيضًا عُرف عن الشيخ سلامة القلب من الغلّ على المؤمنين، ومن الحديث عن الغائبين، ومن عوائده اليومية اجتهاده ألّا ينام وفي صدره غلٌّ على أحد، ومصداق هذه الخلة النفيسة محاولاته اللطيفة للتوفيق بين شخصيات رسمية وعلمية مهمة، ودحض ما يشاع من أراجيف للوقيعة بينهم، وإحفاظ بعضهم على بعض. ومن كريم خلقه أنه حينما سمي رئيسًا للمجلس الأعلى للقضاء، وحضر في الديوان الملكي، قام عن الكرسي من تلقاء نفسه، وأجلس مكانه سلفه في المنصب الشيخ صالح اللحيدان -رحمه الله-، وقليل فاعلها.
وفي سنوات قريبة ماضية، أهدى شيخنا للجامعة الإسلامية بالمدينة مكتبته النفيسة التي كونها خلال ستة عقود، ووقف في جمع رسمي وعلمي يودع كتبه، وألقى كلمة باكية في المعنى والمبنى، ولن تكف شؤون عيون الكتبيين عن دمعة أو أكثر إذا سمعوها، وياله من وداع شاق، وياله من مسلك رشيد لا مناص منه بعد أن فشا في الناس إهمال المكتبات والكتب المطبوعة، والله يجبر الكتاب وأهله بعوض وتدبير حكيم من عنده.
وقد فتح الله على الشيخ في الكتابة والتأليف والنشر، فأصدر رسالته المتميزة للدكتوراة عن رفع الحرج في الشريعة، وضم خطبه في أربعة مجلدات بعد أن كتب لها مقدمة تعليمية مهمة للخطيب الناصح المخلص المفيد، ولا غرو فإن الله منح للشيخ قدرات من حسن إعداد، وبراعة تضمين، وجودة إلقاء، وحيوية انتقال وعرض، هذا فوق أن مضمون خطبه واضح، وسياقها عذب، ورصفها فخم، وسبكها متين، وعلمها غزير، وفي المواسم المشهودة تكاد أن تلامس خطبه القمة مضمونًا وأداء وتأثيرًا، فأصبح من فضل الله على الشيخ أنه لم يضنّ بما خصه من علم وعمل في هذا الحقل؛ بل أشاع خبرته الخطابية، وجعلها وقفًا ناجزًا لمن رام الإفادة دون حواجز، تمامًا كما صنع عقب ذلك بمكتبته، وفي ذلكم المنهج موضع اقتداء من أهل المواهب والخبرات بوقف خبراتهم وبثها؛ فليس الوقف حكرًا على الأموال فقط.
كذلك لم يفت على بصيرة الشيخ ونظرته المستقبلية العناية بالقانون وعلومه ودارسيه؛ لكثرة الإقبال عليه من الطلبة، والإقبال على خريجيه من أجهزة حكومية وهيئات مهمة، ومن مفردات التفاتة شيخنا المباركة المشاركة في ملتقيات ومؤتمرات، والكتابة في الأصول والسياسة الشرعية، وتلك مسؤولية ينبغي على علماء الشريعة النهوض بها؛ لأن القانوني الموفق الراجي الفلاح في الدارين يجب عليه ألا يتقدّم بين يدي الله ورسوله، وألا يتجرأ على شيء من ذلك، ولا مفر من تقريب الشريعة، وعلوم الفقه وأصوله، والسياسة الشرعية، لمن درس القانون، وتخصص فيه.
بقي بعد التنبيه على سمة التوازن الشرعي لدى الشيخ، والتحرز من آفتي الغلو والإرجاء، والسلامة من بلية الاسترضاء على حساب محكمات الشريعة، التنبيه إلى ملمح كبير نادر، ذلك أن الشيخ لم يركن إلى عظمة أبيه الشيخ الكبير المبجل، ولم يكتف بالاتكاء عليها، ولم يتراجع بشبهة أن أنوار الوالد ستجعل الابن خافتًا مثلما وقع لآخرين، وسوف يحجبه أو يحجب عنه ذلكم الإشعاع الأبوي الفريد، بل مضى دون أن تلين له قناة وهو يحمل بين جنبيه الاعتزاز بإرث أب عالم نحرير مشهور، دون أن يقف عند هذه النقطة، بل خطّ لنفسه مسارًا خاصًا في العلم والعمل والتأله، والله يتقبل منه ويزيده سدادًا. وأسأل الله يجعل بيتهم المبارك العريق عامرًا بهذه النماذج، حتى يقول الناظر والقارئ: إنها ذرية بعضها من بعض، وفضل الله على العالمين واسع كبير، والخير في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- باق إلى قيام الساعة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 06 من شهرِ ذي الحجة عام 1445
12 من شهر يونيو عام 2024م
4 Comments
بيت مبارك عريق كشجرة مثمرة تؤتي أكلها بإذن ربها لكل من أكل منها جعلهم الله للخير والمثل والبركة والإقتداء عنوان ( ذالك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
صدقت أخي علي والله يبارك
سلمت يمينك يا شيخ أحمد
وجزاك الله خير الجزاء
يستحق معالي الشيخ كل ما ورد في هذا المداد الجميل والعبق الزكي الأصيل
لا جف قلمك أستاذنا….وأنا ممن تتلمذ على خطبه المنبرية منذ ما يزيد على ثلاثين عاما … ومَنْ ينسى خطبته إثر الخلاف الأفغاني ١٤١٣ه ـأو مجزرة قانا ١٤١٦هـ أو مؤتمر الإسكان والتنمية بمصر ١٤١٥هـ أو خطبته في رمضان ١٤١٧ عن الإعلام وسباقه المحموم في رمضان