سير وأعلام

سماحة المفتي: خطيب الجوامع وإمام الجموع

سماحة المفتي: خطيب الجوامع وإمام الجموع

امتن الرب العزيز الحميد على أسر كثيرة بترسيخ العراقة فيها، ومن أجلّها العراقة العلمية، وأسنى العلم وأشرفه ما تعلّق بالله سبحانه وتعالى، وبعلوم الشريعة والعربية. وقد حازت أسرة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب هذا الفضل بانتسابها للعالم المصلح، والشيخ المجدد -رحمهم الله تعالى- وبحملها للعلم بالتلقي والأداء، حتى وُضعت مصنفات مستقلة عن العلماء من أسرة آل الشيخ، ولا جرم فهي الأسرة النبيلة التي لها سبق في العلم، وحضور في الوزارة، والسفارة، والثقافة، والمناصب المؤثرة الاستشارية والتنفيذية.

ومن أحفاد الشيخ من نالت سلسلته النسبية مزية توارث طلب العلم وبثه، مثل سماحة الشيخ المفتي عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومثل رجل الدولة الكبير العالم الوزير الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، إضافة لآخرين من السابقين، وغيرهم من المعاصرين الجادين في طلب العلم، وتحصيله، ونشره، والمشاركة في النفع العام عبر مجالات عديدة.

ولد الشيخ عبدالعزيز بمكة عام (1362=1943م)، وقد توفي والده وهو طفل في الثامنة من عمره، فتولت والدته المربية الصالحة سارة الجهيمي العناية به في تعليمه ودراسته وطلبه للعلم، وتابعته في ممارسته للعمل إمامًا وخطيبًا، وظلّت تحوطه بالعناية وتسبغ عليه الحنان، وتسعده بالرفقة حتى رحلت عن الحياة عام (1436=2015م) راضية عنه، مغتبطة بما آل إليه نجلها، وبما شاهدته منه من البر وخفض الجناح، والسير على المنهج الذي نشأته عليه منذ طفولته ويفاعته.

فكان من حسن رعايتها وجميل تربيتها أن حفظ ابنها القرآن الكريم صغيرًا على يد الشيخ محمد بن سنان أحد كبار مشايخ تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة، ثمّ واصل الشيخ دراسته النظامية في المعاهد العلمية، وبكلية الشريعة بالرياض، ولم يكسر من عزيمته، أو يفت من همته، ما يعانيه من ضعف البصر إلى أن تزايد الضعف وصولًا للفقد التام، والله يعوضه عن حبيبتيه في الجنة حين يلقاه. وقد حدثني من جاوره في زمنه الأول أن الشيخ يذهب للمعهد وحده مشيًا على الأقدام ويعود، مع ضعف بصره، وخطر العبور في الطرق بسبب السيارات والحفر، لكن الهمة العالية تذيب أي عائق، ولا تجيز لنفسها الأعذار، أو تزين الانسحاب، أو تحبس قدراتها في أسر الشعور بأنها ضحية مؤامرة أو حظ أو قضاء وقدر لا تملك له دفعًا!

كما تلقى الشيخ عبدالعزيز العلم مبكرًا على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي الأول للمملكة، ثمّ تعمق في الطلب على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز المفتي الثاني للمملكة الذي منح لتلميذه المزيد من الاهتمام في طلبه العلم وفي خاصة شأنه. وممن أخذ العلم عنهم مشايخ كبار من علماء الرياض والمملكة، مثل الشيخ عبدالعزيز المرشد، والشيخ عبدالعزيز الشثري، وغيرهم من العلماء والمشايخ، ولم ينقطع الشيخ حتى بعد بلوغه المراتب العالية عن القراءة، والاستماع، والحوار في اللجان والمؤتمرات التي شارك فيها ورأسها، وهي تضم أشياخًا وأعضاء  من داخل المملكة وخارجها.

وقد تدرج شيخنا في الوظائف التعليمية بالمعاهد العلمية التي كان أحد طلابها، ثمّ استقطبته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للتدريس في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء، مع الإشراف على رسائل علمية أو مناقشتها، وفاز الشيخ بمنازل أكاديمية عالية؛ لأن الجامعات العريقة تقدّر العلم بغض النظر عن الشهادات العالية ومسمياتها، وهذه سنة مطروقة في عدة جامعات سعودية، وعالمية.

ثم أصبح الشيخ عضوًا في هيئة كبار العلماء عام (1407=1987م)، ومع زيادة أعماله في الهيئة واللجنة الدائمة للافتاء، انتقل عام (1412=1992م) من الجامعة للعمل في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، حتى غدا نائبًا للمفتي عام (1416=1996م)، وفي عام (1420=1999م) عين مفتيًا عامًا للمملكة ورئيسًا لهيئة كبار العلماء ورئيسًا لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، بعد وفاة الشيخ ابن باز.

أما في الإمامة والخطابة، فقد تولى سماحته الخطابة في جوامع كبيرة وتاريخية، أولها جامع دخنة عام (1389=1969م) خلفًا لشيخه وإمام الجامع الشيخ المفتي محمد بن إبراهيم، ثم أسندت إليه الخطابة في الجامع الكبير عام (1390=1970م)، وصار خطيبًا للموسم يوم عرفة في جامع نمرة ابتداء من عام (1402=1982م) بعد اعتذار سلفه الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ عنها، بينما أصبح إمامًا في جامع الرياض الكبير جامع الإمام تركي بن عبدالله منذ سنة (1412=1992م) إضافة للخطابة على منبر هذا الجامع منذ القدم.

ومما يروى عن الشيخ بإكبار وإجلال، مواظبته الشديدة على إمامة المساجد التي كلف بها، إذ لا يوكل أحدًا عليها، وقد يمكث في المسجد لأداء صلوات متوالية ولا يرجع لمنزله إلّا بعد أداء الأمانة كاملة، حتى لو وصل بين عمله الرسمي وإمامته دون رجوع لبيته، وحتى لو تناول طعامه أو إفطاره الرمضاني في الجامع بعيدا عن منزله، وهذه خصلة عزيزة نادرة، حتى أنه يجدول سفره وعودته بما يكون في صالح محرابه ومنبره قبل أي شيء آخر.

ومن مزايا الشيخ الفريدة في الإمامة أنه صلى بالحجاج إمامًا وخطيبًا في يوم عرفة خمسة وثلاثين عامًا متوالية بين سنتي (1402-1436=1982-2015م)، إلى أن استعفى لأسباب صحية بعد أن عاصر عهود ثلاثة ملوك هم فهد وعبدالله وسلمان، وخمسة أمراء لمكة، وخمسة وزراء للحج، وعقب ذلك تبعه على منبر عرفة عدة خطباء عمل أكثرهم تحت رئاسته في هيئة كبار العلماء. وقد تقدم الشيخ جموع المصلين في جامع الإمام تركي على جنائز ثلاثة ملوك عقب رحيلهم هم فيصل وفهد وعبدالله، وصلت خلفه جموع غفيرة فيها زعماء وأمراء، والله يغفر للجميع.

كذلك امتاز الشيخ بجديته في طلب العلم، وبحافظته القوية، وطلاقة لسانه الظاهرة، وبصوته الجهوري اللافت. ومن حرصه على طلب العلم أنه لا يأنف من الاستماع لشروحات طلاب علم في سنه أو أصغر منه، ويعلن استفادته من الآخرين بلا مواربة، ويرجع للصواب حتى لو جاء من طلابه. وفي نقاشه العلمي للرسائل الجامعية صرح بإعجابه ببعض ما وفق له الدارسون من معلومات أو أوجه نظر، ومن ذلك أنه استحسن من أحد الباحثين قوله إن علم ابن سيرين من ثمار دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه بالبركة.

والشيخ حريص على الفتوى بما يؤدي إليه اجتهاده الفقهي، مع مراعاة المعتبر من المصالح، وإذا توصل لرأي بعد مدارسة ونظر ثبت عليه، ويحتاط في بعض الإجراءات العملية بالتواصل الشخصي مع ذوي الشأن للتأكد منهم قبل الإقدام على أي عمل أو إبداء أي رأي. ومما يحمد للشيخ ضمن مناقب كثيرة حسن تقديره لمقتضيات إعمال السياسة الشرعية من المسؤول الحصيف، وحسن ظنه وتعاونه مع غيرة المحتسبين الذين يلجؤون إليه، سواء في مجلسه العام، أو بصفة شخصية، وهذا التوازن كفيل بمنع التعجل وسوء الظن، وسبب في تطييب الخواطر، والحيلولة دون الانحدار في المنزلقات الخطيرة والوعرة.

ومن لطف الشيخ أنه يعترف بالفضل لأهله، إذ يثني على قراءة ابن جبرين لفتاوى ابن تيمية معه، ويشكر لابن عثيمين أنه جاء مهنئًا بالخطابة في الجامع الكبير وداعيًا له بالتوفيق، ويظهر تأثره من انتهاء علاقة بعض المشايخ والفقهاء بعضوية الهيئات العلمية. ولا يحمل شيخنا في قلبه غلًا لأحد، ولا تحريضًا على إنسان، ويظهر هذا المسلك الرشيد فيما يقوله عن أشياخ سابقين أو معاصرين، فحمى الله قلبه من الضغينة والحسد، وصان لسانه عن الفري في الأعراض، فلا يطوي صدره إلّا على محبة وكريم عهد، ولا ينطق إلا بأجمل أحدوثة وأطهر ألفاظ، ولا عجب أن يكون كذلك وهو الذي حج عن علماء لم يتيسر لهم الحج مثل المنذري، وابن عبدالبر، وابن حزم، لعظم الفائدة التي اقتبسها من علومهم.

ويضاف للطفه وكريم أخلاقه، تواصله بالشكر والثناء على الآخرين، وجرى لي شيء من ذلك في بعض ما كتبته عن خطباء عرفة الذين يُعدّ الشيخ في مقدمتهم؛ إذا لا ينافسه في عدد الخطب السنوية المتوالية في الموسم خطيب آخر فيما أعلم، إضافة لكونه حفيد مباشر لأول خطيب لعرفة في العهد السعودي الحاضر عام (1343). ومن هذا الباب أن أخبرني الشاب الطلعة عمر آل الشيخ أنه قرأ على سماحته بعض ما كتبته عن مجلس الوزراء فراق له ما فيها من ملح وفرائد، وأسأل المولى القدير أن يمتع بالشيخ وينفع به، وأن يجعله مباركًا أينما كان، ويتقبل منه أحسن الذي عمل.

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس غرة شهر ذي القعدة عام 1445

09 من شهر مايو عام 2024م

 

Please follow and like us:

5 Comments

  1. مدونة رائعة ما شاء الله تبارك الله .
    وبحكم معرفتي القريبه والطويلة منذ صغري بسماحة الشيخ حفظه الله أرى انك رعاك الله ووفقك أحطت بمعظم ما تتميز به شخصية الشيخ ومسيرته التعليمية والعلمية والعملية .
    ادام الله عليك نعمة التوفيق والصحة والعافية وحفظك الله من كل سوء .

  2. السلام عليكم ورحمة الله الله وبركاته ، قرات المقال الذي خط بماء من ذهب عن هذا العالم الجليل ، وجعل مثواه جنات النعيم ، فهو مصدر لي بكل فتوى احتاجها ،، وجعل في كل ماتكتب من مقالات مفيدة وهادفة تفيد القراء في ميزان حساناتك وحسنات والديك ، فالدال على الخير كفاعله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)