عبدالعزيز وسياسته مع رجال الدولة
المجالس الثقافية سمة حيوية مجتمعية، وواحدة من مداخل جودة الحياة. وعندما تنعقد هذه المجالس على مدى أيام الأسبوع، وفي تكوينات مجتمعية عديدة فيها الرسمي والثري والوجيه والعلمي والثقافي، فهذا من سعادة المجتع وأهله. ومن أبرز المجالس الدورية في المملكة، تلك التي يقوم عليها أمراء المناطق، ومنها جلسة إمارة منطقة القصيم، التي يشرف عليها الأمير المؤلف والمثقف د.فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز، وهو من المشاركين في الكتابة والتصنيف، وله عناية ظاهرة بالسياسة الشرعية والتاريخ، خاصة تاريخ المملكة، وما يرتبط بجديه الملك المؤسس عبدالعزيز، وخلفه في الزعامة والتأسيس المدني الملك سعود.
ومن ثمار الجلسات الثقافية التي تقام في الإمارة يوم الاثنين مرتين كل شهر، صدر عن إمارة القصيم ومركز النشر العلمي بجامعة القصيم كتاب عنوانه: سياسة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في استصلاح الرجال: محتوى الندوة المقامة خلال جلسة سمو أمير منطقة القصيم بقصر التوحيد بمناسبة اليوم الوطني المملكة العربية السعودية، ويقع الكتاب الصادر عام (1445=2024م) في (164) صفحة، وفيه (85) وثيقة، علمًا أن الندوة أقيمت عام (1442=2020م)، عن استثمار الملك عبدالعزيز لمواهب رجال الدولة، رحم الله الجميع.
حظي الكتاب واللقاء الأصل بتقديم من سمو الأمير د.فيصل بن مشعل بن سعود بن عبد العزيز أمير منطقة القصيم، والكتاب من تأليف الفريق العلمي المكون من د.محمد بن عبد الرحمن السلامة، ود.سليمان بن محمد العطني، وأ.د.أحمد بن عبد العزيز البسام، وتولى إنهاء المراجعة العلمية لمادة الكتاب أ.د.خليفة بن عبد الرحمن المسعود. ومن الواضح أن مضمون الكتاب يعتمد على الكلمات التي ألقاها في ذلكم اللقاء الدوري الأمير، وأساتذة التاريخ في قسم التاريخ بجامعة القصيم.
لذلك يتكون الكتاب من المقدمة التي كتبها الأمير د.فيصل بن مشعل، ثم ثلاثة فصول وخاتمة. الفصل الأول بعنوان: صفات الملك عبد العزيز القيادية وأثر عفوه وصفحه في استصلاحه الرجال، وقد كتبه الدكتور محمد بن عبد الرحمن السلامة أستاذ التاريخ الحديث المشارك. أما الفصل الثاني فعنوانه: اصطفاء الملك عبد العزيز للرجال ومتابعته لهم، كتبه الأستاذ الدكتور أحمد بن عبد العزيز البسام أستاذ التاريخ الحديث، بينما اختص الفصل الثالث بالحديث عن آثار استصلاح الملك عبد العزيز للرجال، وكتبه الدكتور سليمان بن محمد العطني أستاذ التاريخ الحديث المشارك.
أورد الأمير في المقدمة ملامح مهمة من سيرة جده الملك المؤسس، منها أن الملك عبد العزيز لم تمنعه سطوة الملك عن النظرة الحكيمة في التعامل، ولذا لم يترصد للمخالفين، بل كان سريع العفو عن خصومه وأعدائه، مع السعي لتأليف قلوبهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وأشار إلى العفو العام الذي أصدره الملك المؤسس عن جميع المخالفين سياسيًا، وأثر ذلكم العفو في عودة عدة كفاءات هاربة لم يتردد الملك في استثمارها لصالح البلاد من فوره، وذكر بعض الأمثلة البارزة عليها، وكيفية الانتفاع العام منها.
ثمّ إن القارئ لمضمون هذا الكتاب وتلكم الندوة، والمتابع لسيرة الملك عبدالعزيز، وتفاعله مع الإنسان والمكان والزمان، ليجزم غير مفنّد بأن الملك نجح في هذا التعامل اللافت، بمهارة فائقة في قلب الصفحة، ويعود ذلك لأسباب سبعة هي: مرجعيته الشرعية التي تأمره وتنهاه بما فيها من أحكام وقواعد، ويحرص الملك من تلقاء نفسه على أن يقف عند حدودها قدر الوسع، وكذلك أصله العربي وما فيه من مكارم الأخلاق وجميل الخلال التي يزدان بها سلوك الزعيم والقائد. ومنها ذكاؤه الفطري لدرجة تلامس سقف العبقرية في الحكم، وهي عبقرية حوّل بها الرجال من صف لآخر، ومن اختصاص لأولى منه، ورابعها نشأته في بيئة تحاور وتعلّم ولا تسلّم بكل شيء؛ مما فتح آفاقه وحماه من ضيق النظر والاتكاء على القدرة الذاتية فقط، أو الانحياز إلى صوابية الرأي الشخصي دائمًا.
والسبب الخامس هو أسلوبه القيادي الذي تكون لديه بناء على الأسباب السابقة، ومن معرفته بتاريخ أسرته، وسير القادة والأكابر مع الملاحظة والتأمل. وسادس سبب أن الملك المؤسس يركن إلى تقاليد أسرة ملكية عريقة ضاربة جذورها في الأرض، مستوثقة عرى عرشها على البلاد منذ القدم، والولاء لها والمحبة راسخان في النفوس، فهو سليل بيت يبادل شعبه التقدير والتوقير والعذر والبحث عن الأصلح. وسابعها وهو أهمها أنه نال من الله التوفيق والهداية الفطرية إلى هذا الطريق القويم، والمسلك الرشيد، بعد تحريز قلب الملك المؤسس وعقله وعمله من أيّ رأي هجين، أو اقتراح دخيل، أو مسار عجل، ومن فاتته السابعة فلن ينجده ما قبلها على كل حال.
كما نلاحظ أن الملك عبد العزيز عندما استصلح الرجال لم يتركهم هملًا، وإنما بادر للإفادة منهم في أعمال حكومية ومجتمعية، وليست أيّ أعمال؛ بل هي أعمال مهمة جدًا، وربما حرجة أحيانًا، منها أعمال سياسية، ودبلوماسية، وإدارية، وحدودية، ودولية، وبرلمانية شورية، وعسكرية في الجيش والطيران والأمن، وأعجب من هذا استخدامهم في حراسته الشخصية، وجعلهم رفقاءه في المجلس والمركب. وهذا يدل على أن الملك لم يكتف بالعفو المجرد، أو التقريب العادي، وإنما منحهم الثقة بأنهم أهل لخدمة البلاد، والمشاركة في مشروعها الوحدوي الكبير، وحماية فارسها الضخم مقداره، العظيمة آثاره، البعيدة أغواره.
ولم يصيرهم الملك حوله وداخل حدود بلاده فقط، وإنما ابتعثهم لنفع البلاد في خارجها، وهذه خصيصة ملكية نادرة أن يجعل الزعيم الكبير بعض خصوم الأمس وأنداده في مقام ممثليه والناطقين باسمه لدى دول وقوى إقليمية وعالمية لها وزنها المؤثر وعيارها الثقيل. ويُستنتج من هذا أن الملك كان في طمأنينة إلى أنهم لن يستسهلوا الهرب للخارج أو اللجوء للمتربصين، ويضاف لذلك أن جميع صنيع الملك تجاه المخالفين والخصوم والمعارضين والأعداء كان مبعثه ذاتي داخلي، وليس بسبب ضغط إعلامي، أو مطالبات حقوقية من منظمات ودول وأفراد لكل واحد منهم وجهة هو موليها، وتلك وقائع من فرائد التاريخ المعاصر بمجموعها، تكشف عن معدن الملك النقي النفيس، وعن معدن رجاله الصافي الثمين.
وقد أبان عدد من أولئك الرجال عن إنبهارهم بشخصية الملك المؤسس، وتصرفاته الموفقة، سواء بالكتابة أو بالحديث، شعرًا أو نثرًا، دون إبتغاء الأجر أو إتقاء الجزاء مقابل الثناء، ومروياتهم الوافرة استعان ببعضها االمؤرخون الثلاثة فيما كتبوه. ومن بديع ما نقله أ.د.البسام أن الشيخ حافظ وهبة اشترط على الملك عبدالعزيز ثلاثة شروط قبل ابتداء العمل معه، وحين سأله الملك عنها أجاب: الأول: أن توسع صدرك لكل ما تسمع مني ولك الحرية التامة في القبول والرفض، والثاني ألّا تصر على أن أبدي رأيي في أيّ مسألة في مجتمع؛ لأني ربما لا تكون لي رغبة لإبداء رأيي في ذلك المجتمع، والثالث ألّا تعاملني معاملة بعض الموظفين، فأنا خادمك إذا صادقتني، فوافق الملك وقال له: أنا بحاجة إلى من يصارحني، فإن من يطربني بالمدح والثناء كثيرون وكثيرون جدًا، وطالما ضاق صدري من سماع قولهم الشيوخ أبخص!
لقد كان لهذه المنهجية الملكية الصائبة آثار حميدة على الملك عبد العزيز نفسه وعلى تاريخه وسيرته التي كتب عنها الكثير ولازال فيها سعة لمن احتشد وصدق. وكذلك فلها تأثير طيب على أولئك الرجال وسيرتهم وأعمالهم، وأيضًا على الدولة الحديثة، وعلى المجتمع المتطلع، وعلى تحقيق المصالح العليا والعامة بغاياتها ومنطلقاتها، حتى عمّ السلم والأمن والتصافح والعفو، وسارت البلاد وسادت، ونمت ونهضت، وهذا هو المرتجى من دروب الحنكة التي جرى الحكم بموجبها، وهي الخلاصة التي تستبين في خاتمة الكتاب بقلم د.عبدالرحمن بن حسين الوزان وكيل إمارة القصيم التي عقدت هذه الندوة في مجلس أميرها، وهو الأمير الباحث الذي كانت إحدى رسائله العلمية العليا في جامعة أجنبية عن مجالس الحكم المفتوحة بالمملكة العربية السعودية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الجمعة 17 من شهرِ شوال عام 1445
26 من شهر إبريل عام 2024م